• حذاء خروتشوف
عَقِب حربين عُظميين بين دول أوروبا ونفرٍ من حلفائها في القرن العشرين، انبثقت منظمة الأمم المتحدة، ووُضِع أيضاً مفهومٌ جديدٌ للحروب بالوكالة، باعتبار أن الحربَ محتومةٌ في الحياة البشريَّة، إذ التنافس بين الدول مؤدّاه الحرب، وأنها السبيل الوحيد إلى سِلم مؤقّت. فكان أن أنتج مفهوم الحروب بالوكالة، ما تعني أن تقوم هذه الحرب أولاً خارج القارة المنهكة، ومن ثم العجوز، ثانياً أن تقوم على الأراضي التي كانت مستعمراتها، ثالثاً أن يقوم بالحرب أبناءُ هذه المستعمرات، مَنْ اُستخدموا في الحربين الكبريين وقوداً، هؤلاء من هم خصوم، لكنهم حلفاءٌ لطرفٍ من الأطراف، في حروب ما بعد الاستعمار، وهي كما حروب صغيرة بديل الحروب الكبرى، ما أنهيت بالغول البشري الأعظم: الذرة.
ساعتها وُضعت لبنة مفهومٍ جديد أيضاً: الحرب الباردة، ما كأنَّها مرادفٌ آخر للحرب بالوكالة، وأنها مولود التوازن النووي، فالرعب النووي أسهم بوضع حجر أساس تفتيت الحرب الكبرى، وطبعاً نذكر أن نتائج الحرب الكبرى الثانيَّة تقسيم العالم إلى معسكرين: ما عُرِفَ بالعالم الحر، قائدتُه الولايات المتحدة، القوى العظمى الجديدة، والعالم الثاني المنظومة الاشتراكيَّة، ما يقودها الاتحاد السوفييتي!
لكن ذاك لم يؤدِ إلى استبعاد تدخل مباشر من قِبل الدول الكبرى القائدة، فقد تورَّطت هذه القوى/ الفيل في حروبٍ صُغرى أسهمت في هزيمتها، مثلما حصل للعم سام في فيتنام، أو ما أنهى الاتحاد السوفييتي، ما خاتمته حرب دينيَّة خيضت ضده في أفغانستان، التي لم تنته حربها تلك حتى الساعة.
العالم عَرِف تهديداً نوعياً في خليج الخنازير، حيث جزيرة كوبا أنف الولايات المتحدة، تحوَّلت إلى قاعدة سوفييتيَّة نوويَّة. لكن مُكنة حرب كبرى كانت مستبعدة للأسباب التي ذكرنا أهمها، وكان المتحاربون الكبار صنعوا منظمة للسلم، وفي جوهرها إعادة إنتاج الحرب طبقاً للمفهوم الجديد: الحرب بالوكالة. تبييض الحرب هذا تم في حرب شبه الجزيرة الكوريَّة، التي قادت الحرب فيها الولايات المتحدة تحت علم الأمم المتحدة.
• ختامُها ترمب!
ظلت الأمم المتحدة، منذ وضْع حجر أساسها في أربعينيات قرن الحروب الكبرى، منبراً لخطب السلم، فيما مجلس الأمن تنفرد به الدول الكبرى منبراً للقرارات، والفيتو ما يرفع لقتل قرار ما، وفي هذه الأجواء باتت الأمم المتحدة ومجلس أمنها طاولةً مستديرةً لإدارة الحرب بالوكالة في عقد الستينيات كثورٍ أهوج. خبط خروتشوف الزعيم السوفييتي على منبر الأمم بحذائه، وبهذا أفصح عن مهمة منظمة الأمم المتحدة، إذ ساعتها كانت آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيَّة غارقة في حروب بالوكالة، ما زالت ذيولها تجرجر حتى الساعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زال الاتحاد السوفييتي، فتغيَّر مفهوم الحرب الباردة، باتت الولايات المتحدة شرطي العالم، فتضعضع حال الأمم المتحدة، ما بات المراد منها أن تكون منظمة الولايات المتحدة، لكن سقوط الاتحاد السوفييتي أظهر انقسامات أوسع بالعالم، فالعالم الثنائي تعددت قواه الكبرى، ودخل المجال النووي دولاً عدة، وعُدَّت الدول الاقتصاديَّة القويَّة دولاً كبرى، ومن أثر ذلك زالت ضغوط على قارات العالم ما عُرِفَ بالعالم الثالث.
لقد أُنهيت مع الحرب الباردة الحرب بالوكالة في العالم الثالث، واستبعد من هذا قلب العالم: الشرق الأوسط، قلباً مُتبقياً لخوض الحروب بالوكالة، ووُضِع مفهومٌ جديدٌ للحرب الباردة عُرِف بالحرب ضد الإرهاب الدولي، فالإرهاب أمسى دولياً، في تحويل حاذق لمفهوم إرهاب الدولة، ما وُصمت به الولايات المتحدة لعقود بين الخمسينيات والثمانينيات.
عقب الأزمة الاقتصاديَّة الكبرى 2008، وعقب زلزال الربيع العربي 2011، وقبل هيمنة العالم السيبراني، لم يعد العالم العالم، ما جعل العالم الغربي يدخل في عالمٍ جديدٍ، وكأنَّه يعيش حالته، غداة الحرب الكبرى الثانيَّة، من هذا الرحم وُلِدَ ترمب، من يعمل على إعادة توظيف الأمم المتحدة لإدارة الحروب بالوكالة، فجِلسات الأمم تلغو وترغي عن الإرهاب الدولي، واعتبار الشرق الأوسط والإسلام مولّداً وقاعدة لمفهوم الحرب الباردة الجديدة: الإرهاب الدولي.
الأمم المتحدة أخيراً، كما منظمة لشؤون الإرهاب الدولي، ومحل إقامته الشرق الأوسط، ما تخاض فيه الحروب بالوكالة، ما وقودها النفط، وأيديولوجيتها حربٌ دينيَّة، خيضت بالإسلام في البدء ضد الإلحاد، وتخاض الساعة ضد الإسلام المتطرف.
الأمم المتحدة أخيراً، كما منبر في مسجد تُتلى من عليائه آيات ترمب وفتاوى الحرب بالوكالة، وترمب مرة ثانيَّة الثور الهائج، من يخبط برأسه الفارغ، وكل أطرافه المتبعثرة، في عالم فقد عقلُه القديم، ولم يستوعب جديدَه بعد.
الأمم المتحدة أخيراً، كما منبر لقائد لحروب بالوكالة، لا يعرف نتائج ما يفعل.