Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نحن وهيغل: من الصراع العرقي إلى الاعتراف المتبادل

يتناول أحمد عبدالحليم عطية تأثير الفيلسوف الألماني في الثقافة العربية وكتاباته عنها وأحكامه عليها وحضوره فيها

الفيلسوف الألماني هيغل (الموسوعة الفلسفية)

ملخص

منذ قرنين من الزمان لم يغب الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريك هيغل (1770 ـ 1831) عن الدرس الفلسفي العالمي، ولا تزال نظرياته تملأ الدنيا وتشغل الناس، فينقسم الفلاسفة والدارسون حول العالم بين معجب به ومعارض له وما بينهما، وتُوضع فيه مئات الدراسات من المواقع الثلاثة، ولعل آخرها "نحن وهيغل... من صراع السيد والعبد إلى جدل الاعتراف المتبادل" للباحث المصري أحمد عبدالحليم عطية.

يشكل العنوان الرئيس في كتاب الباحث المصري أحمد عبدالحليم عطية "نحن وهيغل... من صراع السيد والعبد إلى جدل الاعتراف المتبادل" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، تنويعاً على موضوع العلاقة بين الشرق والغرب التي أُريق فيها كثير من الحبر، ويشكل العنوان الفرعي "من صراع السيد والعبد إلى جدل الاعتراف المتبادل" الحدين اللذين تموضعت بينهما هذه العلاقة في تحولاتها المختلفة عبر التاريخ.

وعلى وحدة الدلالات في العنوان، رئيسيهِ وفرعيهِ، فإن مدلولاتها في المتن متعددة، فـ"نحن" تدل على الشرق والمسلمين والعرب والأفارقة والفرس والهنود والصينيين واليابانيين وسواهم، و"هيغل" تدل على الفيلسوف نفسه ومؤيديه ومعارضيه ومن بينهم، والجميع هيغليون، بشكل أو بآخر، بمن فيهم المعارضون الذين استخدموا منهجه الديالكتيكي في معارضتهم.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أحمد عبدالحليم عطية يتموضع في كتابه بين المؤيدين والمعارضين، مما يجعل الكتاب مساحة لقاء للفريقين، فلا يسقط في حدية الاستقطاب، ولعل هذا التموضع هو ما حدا بالإيطالية لوريلا فنتورا في تقديمها إياه إلى اعتباره  "مساحة ثالثة، ونوعاً من مكان التقاء وتبادل الرؤى والنقد المتبادل، رؤى هيغل حول أوروبا / الغرب وبقية العالم، ورؤى العرب والمسلمين والمصريين والأفارقة أو "نحن" غير الغربية عموماً عن أنفسهم وهيغل" (ص: 12).   

 قراءات عدة

 في معرض التعريف بالكتاب، سواء في المقدمة أو في الفصول المختلفة، يحدد عطية موضوعه وأهميته وفضاءاته وأهدافه، أما موضوع الكتاب فهو العلاقة بين الشرق والغرب كما تتمظهر في الفكر الهيغلي والدراسات المتمحورة حوله، لذلك "يتناول تأثير هيغل في ثقافتنا وكتاباته عنا وأحكامه علينا وحضوره بيننا، وامتداد فكره لدى شراحه وقراءاتنا له وتفسيراتنا لكتاباته وتحولها من الفكر النظري إلى الإستراتيجيات السياسية" (ص: 29).  وتنبع أهمية الموضوع من أهمية صاحبه الذي "يتيح لنا عبر منهجه الجدلي مناقشة الأسئلة التي تنطلق منها لاستبصار واقعنا ومستقبلنا، وهو ما يتفق مع ما يماثله من اهتمامات في ثقافات وحضارات غير غربية، فلكل حضارة أسئلتها ولكل ثقافة قضاياها مع هيغل"، على حد تعبيره (ص: 31).

ولعل هذه الأهمية هي التي جعلت منه حداً فاصلاً بين ما قبله وما بعده، وملهماً لكثير من الفلسفات السياسية، ومصدر قراءات متعددة حد التناقض، ولذلك يشير الدارس إلى انقسام الفلاسفة والدارسين بين مؤيد له من قبيل فرنسيس فوكوياما وألكسندر جوكيف وصموئيل هنتنغتون وغيرهم، ومنتقد له من قبيل كارل بوبر وبرتراند راسل وميشيل فوكووغيرهم، ومحاولٍ إحياء فلسفته من قبيل هربر ماركيوز وجورج لوكاتش وروجيه غارودي وغيرهم.

أما الهدف المركب الذي يحدده عطية لدراسته فيكمن في فتح نافذة على هيغل ورؤيته للشرق والإسلام من جهة، وفتح نافذة على رؤيتنا نحن لهيغل وطروحاته من جهة ثانية، وهو في سبيل تحقيق هذا الهدف الكبير المزدوج يتوخى مجموعة من الأهداف الإجرائية المتمثلة في فهم نصوص هيغل وتحليلها ودرس النصوص العربية والإسلامية والأجنبية التي تناولت فلسفته، لذلك نراه يخوض في ثلاثة فضاءات: كتاباته عنا، كتاباتنا عنه، وقراءاتنا لحياتنا ومجتمعاتنا في ضوء المنهج الهيغلي وفق رؤيتنا وليس وفق الرؤية الغربية له.

على أن خوض الدارس الفضاء الأول قلما يتم في بحر هيغل مباشرة، وكثيراً ما يستند إلى آراء الآخرين فيه مما يجعل من الدراسة، على مرجعيتها، دراسة غير مباشرة للفلسفة الهيغلية، وانطلاقاً من هذه الفضاءات الثلاثة يحاول الدارس تلمس صورتنا في مرآة هيغل وصورته في مرايانا، وتلمس كيفية الانتقال من التلقي إلى اللقاء.

لعبة مرايا

لا تخرج نظرة هيغل إلى الشرق عن النظرة النمطية الغربية إليه، لذلك تطغى السلبيات فيها على الإيجابيات وتشوبها كثير من الأفكار المسبقة وسوء الفهم والفوقية والعنصرية، وتصدر عن مركزية أوروبية واستعلاء غربي وخلفية استعمارية، وهذه النظرة تتوزع على أعماله الفكرية وتتعدد حد التناقض، وهو تعدد يتناسب مع تعدد الشعوب الشرقية وأنصبتها من الحضارة، وتختلف من حقل معرفي إلى آخر، ففي حين يطلق أحكاماً سلبية على السياسة والدين والفلسفة تأتي أحكامه على الفنون والآداب إيجابية إلى حد ما، وفي السياسة يأخذ على الشرق إغراقه في الاستبداد وافتقاره إلى الحرية والديمقراطية والتحضر، أما في الدين فيأخذ على الإسلام التعصب والإغراق في الحسية والترهيب، لكن اعتباره أن التعصب هو لوحدانية الخالق وليس ضد المخلوقات يفرغ هذه المفردة من مضمونها السلبي، كما ينوه بالسمو إلى الكلية في الإسلام، ويعتبر "المحمدية" ثورة في الشرق.

وفي الفلسفة يصدر عن منظور سلبي إلى الفلسفة العربية والشرقية يتماشى مع النظرة النمطية الغربية إليها، ويتأثر بموسى بن ميمون الذي لم يكن محايداً في نظرته إلى الفلسفة العربية، وقصر دور العرب على النقل والترجمة مع آخرين، ورأى أنهم مجرد شرّاح لأرسطو مما جعل أحكام هيغل المتأثرة به تفتقر إلى الموضوعية، ولا سيما حين يرى "أن الفلسفة الشرقية هي دينية عموماً"، وأنها "لا تتضمن أي عطاء أصيل"، وأن "درس الفلسفة العربية بشكل مفصل مسألة غير مفيدة وغير ضرورية"، وأن العرب "لم يستطيعوا تطوير مفهوم الفلسفة".

أما في الفنون والآداب فتأتي الأحكام أقرب إلى الإيجابية منها إلى السلبية، فيبدي إعجابه بالشعر الفارسي والـ "شاهنامة"، وينوه بالفن المصري القديم والروح المصري القوي الذي يقف خلفه، على أن صورة الشرق المتعدد في مرآة هيغل لا تقتصر على أحكامه السلبية والإيجابية على الحقول المعرفية المختلفة، بل تتعداها إلى أحكام سلبية مبرمة على الشعوب الشرقية المختلفة، تصدر عن نظرة عنصرية فوقية تبرر العبودية والاستعمار بذريعة "تأريب" (جعلها أوروبية) هذه الشعوب وتحسين ظروفها، وهو عذر أقبح من ذنب، ولذلك نراه يُخرج أفريقيا من التاريخ ويضع الأمازيغ خارج الحضارة، ويأخذ على الصين المبدأ الأبوي البطريركي، ويُقصي التقاليد الهندية عن دائرة الفلسفة.

وفي غمرة هذه الأحكام السلبية المبرمة تحظى مصر وحدها بحكم إيجابي، فيعتبرها الجسر الذي انتقلت عليه الحضارات الشرقية القديمة إلى الغرب الأوروبي، ويسجل للمصريين أنهم أول من قال بوجود الروح وخلود النفس، وأول من حاول حل معضلة العلاقة بين الطبيعي والرواحي، وهكذا فإن صورة الشرق في مرآة هيغل غارقة في السلبية ومحكومة بتربيته وثقافتة وانتمائه والمصادر غير النزيهة التي يصدر عنها، مما يجعل كثيراً من أحكامه جائرة تفتقر إلى العدالة والموضوعية.    

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي المقابل لا تختلف صورة هيغل في مرايا الشرقيين كثيراً عن صورهم في مرآته من حيث التعدد والاختلاف، وهي صورة مستمدة مما قيل فيه أكثر مما قاله هو، ولعلها لا تخلو بدورها من الاعتبارات الذاتية التي تجانب الموضوعية، وفي هذا السياق يشير عطية إلى ثلاثة مواقف عربية من هيغل، سلبي وإيجابي ومتوازن، فأما السلبي فيرى فيه نظرةعنصرية ومركزية أوروبية ونزعة كولونيالية، ويعبر عنه بلعيد بو دريس وأحمد الربعي وفوزي حساينيه، وأما الإيجابي فيشيد برؤيته للعرب ويتبنى منهجه الجدلي في قراءة الواقع العربي، ويمثله فرح أنطون وفؤاد زكريا وإمام عبدالفتاح إمام وهشام جعيط، وأما الموقف المتوازن فيجمع بين السلبيات والإيجابيات ويمثله أبو يعقوب المرزوقي وآخرون. على أن كثيراً من الدارسين يجمعون على عنصرية هيغل ومركزيته الأوروبية ونظرته الاستعمارية وتمهيده لبروز النازية وتشجيعه على التوسع الاستعماري، وهو بهذه الملامح يصدر عن تربية "لاهوتية" ومنظور لوثري بروتستنتي، ويعتمد على مصادر يفتقر بعضها إلى النزاهة مما يجعل صورته في مرايا الشرقيين لا تختلف كثيراً عن صورهم في مرآته.

غير أن الملمح الأهم في هذه الصورة يتعلق بالمنهج الديالكتيكي الذي أحدثه، فوفر للشرقيين والغربيين على حد سواء الأدوات البحثية الكفوءة للبحث وسبر الأغوار واكتناه الأسرار، وقدم بذلك خدمة جلى للبشرية جمعاء.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب