ملخص
ترزح المناطق التي نزح إليها الهاربون من الحرب في السودان تحت ثقل زيادة كبيرة في أعداد سكانها الباحثين عن الأمان بعيداً من خطوط التماس وارتفاع كلفة السكن وغلاء المعيشة.
تسبب استيلاء قوات "الدعم السريع" على مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار السبت الماضي، التي تبعد 360 كيلومتراً عن الخرطوم في موجة نزوح كثيفة لسكان هذه المدينة وما حولها من قرى باتجاه مدن الولايات الآمنة، بخاصة القضارف الواقعة في شرق البلاد، خوفاً من الانتهاكات التي تمارسها تلك القوات كما حدث في المدن التي سيطرت عليها من قبل، وهو ما جعلهم يواجهون مصيراً مجهولاً في ظل وعورة الطرق نتيجة دخول موسم الأمطار وشح إمكاناتهم المادية التي لا تكفي حركة تنقلهم والإيفاء بالتزامات السكن والمأكل والمشرب.
لكن إلى أي مدى يمكن أن تسبب هذه الموجة الجديدة من النزوح إلى المدن الآمنة في حالات اختناق حياتي وارتفاع أكلاف السكن والمعيشة فيها من كل جوانبها؟
ناقوس خطر
يرى المتخصص في الشأن الاقتصادي السياسي السوداني حسن بشير أن "المشكلة ليست في سقوط مدينة سنجة فقط بل في تمدد ’الدعم السريع’ إلى مناطق جديدة بشكل متسارع، وهذه الأماكن مكتظة بالسكان الذين نزحوا إليها باعتقاد أنها آمنة، نسبة إلى بعدها الجغرافي نسبياً عن مناطق سيطرة ’الدعم السريع’، لكن اتضح أن ذلك اعتقاد خطأ فمن الواضح أن الجيش لم يستطع تأمين مواقعه رغم الاستنفار والمقاومة الشعبية، بيد أن قوات الدعم السريع لم تغير سلوكها في النهب والسلب والاعتداءات الصارخة على المدنيين، الأمر الذي يدفعهم إلى النزوح إلى أماكن سيطرة الجيش التي أصبحت مكتظة تماماً بالنازحين في ظل نقص حاد في الغذاء والسلع الأساسية والافتقار لمقومات الحياة الأساسية من مأوى وسكن وكهرباء ومياه نظيفة، ناهيك بانعدام الرعاية الطبية والنقص الحاد في الأدوية المنقذة للحياة".
وتابع بشير "بهذه الصورة وصلت الأزمة السودانية إلى حد الكارثة مكتملة الأركان تحيط بها مشكلات انعدام الأمن والغذاء والمأوى والخدمات الأساسية وكل الادعاءات حول حياة شبه عادية لا يعدو أن يكون خداعاً وإنكاراً واغتراباً عن الواقع المأسوي، وها هي الأمم المتحدة تعلن حدوث مجاعة في مجمل البلاد". وأردف "لم تعد هناك مدن في السودان بالمعنى الحقيقي، وهي التي كانت أشباه مدن أو قرى كبيرة مصابة بداء التريف وانعدام مقومات التمدن حتى قبل الحرب نتيجة للفقر الحاد في التنمية والبنى التحتية، أما الآن فيجب الإدراك أن السودان في مجمله عبارة عن منطقة كوارث تتفاقم مأساتها ساعة فساعة، الأمر الذي يستدعي دق نواقيس الخطر في كل مكان لتنبيه العالم إلى هذه المأساة المهملة، ويجب أن يكون ذلك من دون اعتبار لادعاءات وأكاذيب أطراف الحرب المفتقدة للرشد التي اتضح أنها تفتقر للضمير الحي وعدم الإحساس بمعاناة المواطنين، مما يجعل هذه الحرب حرباً ضد المواطن بامتياز".
وختم بشير قائلاً "إن المواطن الذي يعاني الويلات في الداخل، فضلاً عن التضييق والتحقير والإذلال في الخارج، هو مواطن بلا دولة، وهي التي انحصر دورها في تغذية الحرب بالداخل والاكتفاء بتقديم الخدمات القنصلية في الخارج فقط، إضافة لضعف المكونات السياسية والمدنية من دون استثناء، ومع إهمال المجتمع الدولي والمنظمات الأممية نجد أن الإنسان السوداني أصبح في حالة ضياع تاريخي غير مسبوق في التاريخ الحديث".
مهددات أمنية
في السياق أفاد عضو الهيئة القيادية لتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) صالح عمار بأنه "من المعلوم أن ولايات سنار التي هي امتداد لولايات الجزيرة التي تعد مناطق الإنتاج الزراعي الأكبر في البلاد بخاصة المحاصيل الاستهلاكية والأخرى المتصلة بالتصدير، بالتالي فإن خروج هذه المناطق من دائرة الإنتاج ستكون له آثار كبيرة على الوضع الغذائي بخاصة أنها تتمتع بكثافة سكانية عالية. وقد نزح هؤلاء السكان منذ ديسمبر (كانون الأول) 2023 إلى مدن وقرى الولايات الآمنة حتى بلغ عددهم 10 ملايين نازح، فضلاً عن معاناة أكثر من 25 مليون مواطن من انعدام الغذاء والأمن". وأضاف عمار أن "ما حدث في سنجة يزيد الوضع تعقيداً ويذهب بالبلاد نحو المجاعة والأزمات، لأن مدن شرق السودان التي يستهدفها النازحون الجدد مدن صغيرة ومصممة لأعداد محددة من الناس وتضاعف عددها الآن بسبب هذه الحرب، بالتالي لا تستطيع استيعاب أي مجموعات جديدة من النازحين، ليس من ناحية الخدمات فحسب، بل يمكن أن ينعكس ذلك إلى مهددات أمنية وصراعات داخلية، بخاصة أن هذه الصراعات متصاعدة في هذه المنطقة بسبب انتقال مسؤولي الدولة إلى ولايات الشرق المختلفة بخاصة بورتسودان بكامل درجاتهم وامتيازاتهم".
ولفت عضو الهيئة القيادية لتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية إلى أن "الوضع كارثي على كل المستويات، سواء الحياة أو السكن أو زيادة حدة الصراعات. وفي تقديري أن المخرج من هذه الأزمة معروف وظللنا نكرره باستمرار وهو جلوس كل أطراف الحرب والفاعلين في المشهد السياسي سريعاً للوصول إلى حل ينهي هذه الحرب ويرفع معاناة الشعب السوداني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اختناق واكتظاظ
من جانبه أوضح الناشط الاجتماعي بولاية البحر الأحمر صالح أحمد أن "هناك معاناة شديدة في ولاية البحر الأحمر من ناحية انعدام المياه ونقص الغذاء، بالتالي أي عملية نزوح جديدة لهذه الولاية ستكون كارثة وتزيد الأوضاع سوءاً، لأن معظم المدن مكتظة بالنازحين ولا تحتمل تدفق مجموعات أخرى، بل سيؤدي تفاقم الوضع في هذه الحالة إلى اختناقات ومشكلات تتعلق بعدم توفر التنمية مما يصعب المشهد بصورة عامة ويعقده، فمراكز الإيواء في كل مدن الولاية تفتقر لكل أنواع الخدمات من كهرباء وماء وغذاء، فهي غير صالحة للسكن لأنها عبارة عن مدارس بالتالي غير مهيأة لتكون مأوى لفترة طويلة كما يحدث الآن. وفي الوقت ذاته فإن فئة قليلة جداً من النازحين لديها مقدرة لإيجار مساكن خاصة، وهي أيضاً غير متوفرة، ناهيك بارتفاع أسعارها بنسبة تزيد على 300 في المئة عما قبل الحرب، إضافة إلى ارتفاع أسعار السلع بصورة جنونية، وأيضاً ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات عالية قد تؤدي إلى ضربات شمس وغيرها، فالوضع لا يحتمل ولا يمكن وصفه".
وبين الناشط الاجتماعي بولاية البحر الأحمر أنه "من الصعب توفير دور إيواء جديدة لعدم وجود أماكن عامة غير مشغولة لتكون سكناً لنازحين جدد، فضلاً عن أنه من الصعوبة بمكان إيجاد جهات تدعم هذه الدور من ناحية توفير الحاجات المعيشية وغيرها".
غياب الرقابة
من ناحية ثانية توقعت الإعلامية إيمان عثمان أن تستقبل مدينة عطبرة (310 كيلومترات شمال الخرطوم) خلال الأيام المقبلة أعداداً كبيرة من النازحين الجدد الفارين من ويلات الحرب بخاصة من مناطق النيل الأزرق على رغم حال التكدس والزحام الشديد الذي تعانيه المدينة باعتبارها من أهم الوجهات الرئيسة للهاربين من حرب الخرطوم منذ اندلاعها في منتصف أبريل (نيسان)، إذ ظلت تستقبل الأسر القادمة من العاصمة مما دفع سكانها إلى تجهيز أماكن لإيواء هؤلاء النازحين من مدارس ومساجد ومراكز صحية، لكن بعد أن طال أمد الحرب أصبح الوضع العام بالنسبة إلى النازحين في هذه المدينة مؤلماً وحرجاً بسبب تناقص عدد مراكز الإيواء نظراً لإغلاق معظمها، بخاصة المدارس بسبب بدء العام الدراسي".
ونوهت عثمان إلى أن "المشكلة تكمن أيضاً في أن المدينة تشهد ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في أسعار إيجار المساكن إلى جانب الندرة في العرض، ومن المؤسف أن بعض الأسر النازحة تفترش الأرض لعدم قدرتها على الايفاء بالتزامات الإيجار في ظل عدم توفر مراكز جديدة للإيواء، بالتالي فإن أي موجة نزوح جديدة إلى هذه المدينة سيؤثر في كل أوجه الحياة من ناحية المغالاة في أسعار السلع والخدمات والسكن، بخاصة أن هناك انعداماً تاماً للرقابة الحكومية سواء في الأسواق وغيرها، وهو ما سينتج منه مشكلات عدة قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه".