Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محاولتان لافتتان لإيصال "جمهورية" أفلاطون إلى غير المعنيين بالفلسفة

تبسيط باديو لا يخلو من عمق وشرائط مصورة من بطولة سقراط تدور أحداثها في أثينا

أفلاطون: سينما وشرائط مصورة قبل الأوان (موقع الفلسفة)

ملخص

قدم الفرنسي المعروف آلان باديو جهدا فلسفيا بديعا لـ"تفسير" مؤلف أفلاطون الرئيس "الجمهورية"، استغرق إنجازه نحو ستة أعوام لإعداد كتاب يمكن للقارئ غير المتخصص أن يلم بفكر الفيلسوف الإغريقي في أقل من أسبوع

حتى وإن كان الفيلسوف وعالم الرياضيات ألفريد وايتهيد قال وكرر مراراً أن كل الفلسفة العالمية كما صيغت وظهرت منذ فجر الفكر اليوناني لا تبدو بالنسبة إليه أكثر من هوامش في أسفل صفحات كتب أفلاطون، فإن هذا القول لم يقلل أبداً من الصعوبة التي يجدها الجمهور العريض في قراءته لنصوص هذا الفيلسوف الإغريقي الكبير، جاهدين لتحقيق ذلك إذ يقال لهم دائماً إن أفلاطون هو أصل الفلسفة وأبوها الشرعي. ونعرف طبعاً أن عدداً من الفلاسفة كما من مؤرخي الفلسفة لا يتوانون عن بذل أقصى ما لديهم من جهود لشرح فكر أفلاطون، ومن خلاله طبعاً فكر معلمه سقراط الذي يكاد يكون صنيعته، وكذلك فكر أرسطو تلميذ أفلاطون الأشهر، لكننا نعرف أن كل تلك الجهود لم تسفر عن إزالة الهوة الواسعة بين الجمهور العريض وبين صاحب "الجمهورية" وغيرها من المحاورات السقراطية الأخرى التي دونها أفلاطون -جاعلاً منها ليس فقط تعبيراً عن تقديره لشهيد الفلسفة الأول في تاريخ البشرية، بل كذلك عرضاً لفلسفته هو نفسه في معزل حتى عن ربطها بسقراط وأفكاره- ولقد كان الوصول إلى الجمهور العريض هو الذي كان أفلاطون، كما حال رهط كبير من الفلاسفة الذين تعاقبوا على شتى منابر الفكر منذ ذلك الحين وحتى اليوم، يأمل منه أن يتلقى أفكاره ويسير في حياته على خطاها. ومن هنا قد يكون من المفيد دائماً العودة إلى تلك المحاولات التي دائماً ما بذلت لتقريب مؤسس الفلسفة اليونانية إلى القراء "المعنيين". وهي محاولات ربما تكون بلغت أوجها في عصر النهضة وتحديداً في جوار مدينة فلورنسا وبخاصة على يد الفيلسوف الإنسان فيتشينو وأكاديميته، التي أقامها لمجد أفلاطون بتمويل ودعم من الحاكم لورنزو دي مديتشي صاحب عزبة كاراجي التي أقيمت فيها تلك الأكاديمية الأفلاطونية.

محاولتان فرنسيتان مجديتان

ومهما كان الأمر هنا فإن موضوعنا سيبقى محصوراً في زمننا المعاصر لنتوقف عند محاولتين فرنسيتين قد تكونان في نهاية الأمر شديدتي الطرافة، أولاهما فلسفية خالصة والثانية تنتمي إلى ما يسمى الفن التاسع، وهو تحديداً فن الشرائط المصورة الذي يعرف منذ أواسط القرن العشرين ازدهاراً هائلاً وبخاصة في دنوه من المواضيع التاريخية والوثائقية بأكثر من دنوه من مواضيع الحكايات والروايات التي وجد من أجلها أصلاً، وهو ما سنعود إليه بعد سطور. وقبل ذلك سيكون من الإنصاف التوقف عند المحاولة الأولى التي وصفناها بالفلسفية وهي في الحقيقة عبارة عن جهد فلسفي بديع قام به الفيلسوف الفرنسي المعروف آلان باديو في مجال "تفسيره" لمؤلف أفلاطون الرئيس "الجمهورية". وهذا الجهد استغرق إنجازه نحو ستة أعوام كما يخبرنا الفيلسوف في مقدمته التي يحكي فيها بإسهاب عن الدوافع التي حدت به إلى تكريس تلك الأعوام من حياته لكتاب يمكن إنجاز قراءته في أقل من أسبوع. وهو يخبرنا أن الدوافع يمكن اختصارها في واحد هو تمكين القارئ العادي وغير المتخصص في قراءتها من قراءة سرد لـ"الجمهورية"، يكون من التبسيط والتفاعل السلس مع اللغة بحيث يتمكن القارئ من ولوج هذا النص الفلسفي والسياسي والأخلاقي وكأنه يقرأ رواية شعبية، ليجد نفسه تدريجاً متفاعلاً مع ما يمكن اعتباره النص المؤسس لتلك القضايا التي تمس كل واحد منا بدءاً من مسألة الحكم وصولاً إلى التربية والأخلاق والعلاقات الاجتماعية. فما الذي فعله باديو في هذا السياق؟

الفلسفة في حكي شعبي

ببساطة سرد بلغة معاصرة جزلة وكأنه يروي حكاية شعبية، ما جاء في نص أفلاطون الذي يحدثنا عن تلك الجلسة مع سقراط التي بدأت ذات مساء بعد انتهاء أثينا من احتفالات شعبية أجريت فيها بمشاركة كثر من سراة القوم المثقفين ومن بينهم أخوان لأفلاطون نفسه، تحلقوا من حول سقراط وراحوا يتباسطون في شتى الشؤون التي تهمهم وتهم مجتمعهم ولا تزال تبدو لنا بالغة الأهمية حتى اليوم إلى حد أن كثراً من مؤرخي الفلسفة يرون أن "الجمهورية" وحتى من قبل آلان باديو بالطبع، يمكن أن يكون الكتاب الفلسفي الذي قرئ ويقرأ أكثر من أي كتاب فلسفي في التاريخ. ولقد عنون الفيلسوف الفرنسي المعاصر كتابه بـ"جمهورية أفلاطون" معترفاً بأن جهده الأساس فيه لم يتجاوز تلخيصه و"ترجمته" إلى لغة (فرنسية) معاصرة. غير أنه من خلال ذلك تمكن من تفسير كثير من غوامضه وإعادة كتابتها بصورة يفهم منها الربط بين الزمن الراهن والنص الذي بات عمره نحو 25 قرناً من الزمن، ولا يزال يبدو شاباً حتى اليوم وهذا "الشباب" هو على أية حال ما أبرزه باديو.

هكذا تكلم روسو

وهذا "الشباب" هو نفسه على أية حال ما استعان الرسام الفرنسي هو الآخر جان هارامبا بفن الشرائط المصورة نفسه لإبرازه ولكن بصورة لا بد من الاعتراف بأنها أكثر جاذبية ومتعة، إذ أصدر ألبوماً يقتصر بدوره على تقديم كتاب "الجمهورية". وهو ألبوم من الواضح أنه موجه إلى جمهور من القراء يفترض أنه أصغر سناً من جمهور قراء كتاب باديو، لكنه في الحقيقة قرئ من قبل كل فئات الأعمار ومن قبل كل مستويات التعليم. ولعل اللافت هنا أن تقديم هذا الكتاب آثر الانطلاق من قول لجان جاك روسو يؤكد أن "الجمهورية" حتى وإن كان ثمة إجماع على أنه أشهر كتاب في الفلسفة السياسية صدر حتى زمن روسو، فإنه في حقيقته "أشمل دراسة تتناول المسألة التربوية"، وتبدو أهمية هذا القول واضحة إن تنبهنا إلى أن من يقوله ليس سوى المفكر التنويري مؤلف كتاب "إميل أو التربية". ومهما يكن هنا سواء كان "الجمهورية" كما تقول لنا فقرة في تقديم هذا الألبوم "كتاباً في الفلسفة السياسية أو كتاباً في التربية، فإن ما لا ريب فيه هو أن أفلاطون شيد في صفحات كتابه الحواري السقراطي هذا، مدينة للعقل تبدى أنها أكثر ديمومة وأطول عمراً بكثير من تلك الحاضرة التي حاول إنشاءها في أثينا أو سيراغوسا متقرباً – وأحياناً بقدر مفضوح من الانتهازية - من أصحاب الشأن، لكنه عجز عن ذلك فوئد مشروعه ولكن نظرياته عاشت لتبدو حتى اليوم ولو من خلال محاولات ينتمي هذا الألبوم إليها، معاصرة وكأنها دونت أول من أمس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عودة "الجمهورية" إلى الحاضر

وهذان التقديمان اللذان تحدثنا عنهما أعلاه، إنما جاءا في سياق نشر مجلة فلسفية فرنسية حققت شعبية كبيرة خلال العقدين الأخيرين هي بالتحديد "الفلسفة"، الصفحات الأولى من الألبوم بألوان زاهية وخطوط بديعة وتبسيطية مدهشة. لقد أتت تلك الصفحات غريبة ليس فقط في ميدان اهتمامها الفلسفي، بل أكثر من ذلك في ميدان الاستعانة بفن يبدو للوهلة الأولى عصياً على تقديم هذا اللون الفكري. ففي الحقيقة يمكن لصفحات هذا الألبوم أن تتشارك مع تبسيطية آلان باديو في إضفاء قدر كبير من المعاصرة على هذا النص الفلسفي، بحيث يعود نص "الجمهورية" وأفكاره إلى الحياة الاجتماعية اليومية بصورة تتجاوز كل التوقعات. فمن البداية يجد القارئ/ المشاهد نفسه وكأنه وسط فيلم سينمائي متواكباً مع سقراط وهو يتأمل وحده في مدينة تخلو الآن من سكانها الذين كانوا تدافعوا نحو منطقة الميناء للمشاركة في الاحتفالات، قبل أن يجد نفسه مجبراً على تلك الجلسات الحوارية التي قدمها الألبوم وكأنها مشاهد سينمائية ممتعة. ومع ذلك فإن مبدع هذا الألبوم لم يكتف بذلك بل قدم في العدد نفسه من مجلة "الفلسفة" حكاية مستقلة أخرى، كرسها هذه المرة للفصل من "الجمهورية" المكرس لحكاية الكهف التي دائماً ما ينظر إليها منظرو تاريخ السينما باعتبارها التأسيس الحقيقي للفن السابع حتى وإن كان أفلاطون رواها ضمن سياق جمهوريته قبل ظهور ذلك الفن بـ2400 عام، تماماً كما أن جان هارامبا يستخدم اليوم لروايتها فناً ولد بعد كتاب "الجمهورية" بما لا يقل عن مئات لا تنتهي من السنين...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة