ملخص
ليس من الواضح كيف سيمول حزب العمال وعوده، نظراً إلى أنه تعهد بخفض الدين الحكومي باعتباره نسبة من الناتج الوطني، لكن سيتعين على الحكومة الجديدة إيجاد أموال إضافية للتعامل مع كلفة الرعاية الصحية المتزايدة والإنفاق العسكري الإضافي.
في عام 2010 بعدما أطاح الناخبون بحزب العمال البريطاني من السلطة ترك أحد كبار مسؤولي وزارة الخزانة ليام بيرن، رسالة مكتوبة بخط اليد لخليفته في حزب المحافظين، وجاء في الرسالة "أخشى أنه لا يوجد مال" والآن مع عودة حزب العمال إلى السلطة فإنه يرث وضعاً مشابهاً لذلك الذي تركه عام 2010: الافتقار إلى الأموال اللازمة لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي لا تعد ولا تحصى في بريطانيا.
ومثل عدد من الدول الغربية تعاني بريطانيا آثار الوباء والحرب في أوكرانيا التي أضرت بالاقتصاد، ودفعت أسعار الطاقة إلى الارتفاع وأجهدت الموارد المالية الحكومية، ورداً على ذلك عززت حكومة المحافظين المنتهية ولايتها الإنفاق العام، ورفعت الضرائب إلى أعلى مستوياتها في فترة ما بعد الحرب، ودفعت الدين إلى أعلى مستوى في بريطانيا منذ ستة عقود، وفقاً لمعهد الدراسات المالية، وهو مركز أبحاث مقره لندن.
وبالنسبة إلى رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر، يشكل هذا مشكلة إذ أمضى ستارمر العامين الماضيين يتنقل في جميع أنحاء بريطانيا، ووعد الناخبين بأنه سيعمل على إنعاش الاقتصاد، ودعم البنية التحتية المتهالكة في البلاد، وإصلاح الخدمات الصحية المثقلة التي تديرها الدولة، والتي تعاني تراكم الملايين الذين ينتظرون رؤية الأطباء.
وفي أول خطاب له بصفته رئيساً للوزراء، أكد ستارمر أول من أمس الجمعة رؤيته الطموحة، وقال "ليس لديهم أدنى شك في أننا سنعيد بناء بريطانيا، من خلال خلق الثروة في كل مجتمع، وعودة خدمتنا الصحية إلى الوقوف على قدميها في مواجهة المستقبل، وحدود آمنة، وشوارع أكثر أماناً... حجراً بعد حجر، سنعيد بناء البنية التحتية للفرص، والمدارس والكليات ذات المستوى العالمي، والمنازل ذات الأسعار المعقولة التي أعرف أنها مقومات الأمل للعاملين".
وقال محللون إن القيام بكل ذلك من دون نمو أسرع أو مبادرات إنفاق جديدة سيكون تحدياً، خاصة بالنسبة إلى حزب يعتمد في كثير من الأحيان على الإنفاق العام لتحقيق نتائج للناخبين.
"الإرث الاقتصادي الأكثر فساداً"
يقول رئيس قسم أوروبا في شركة استشارات الأخطار السياسية "مجموعة أوراسيا" مجتبي الرحمن لصحيفة "وول ستريت جورنال"، إن ستارمر حصل على "الإرث الاقتصادي الأكثر فساداً في تاريخ بريطانيا ما بعد الحرب، وسيصبح الأمر صعباً للغاية بالنسبة إليه."
وارتفعت ديون بريطانيا عنان السماء في ظل حكومتي "المحافظين" و"العمال" السابقتين، وهي تمثل الآن 101 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعاً من متوسط يقل قليلاً عن 40 في المئة في الفترة من 1980 إلى 2008.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وستنمو المطالب على المالية العامة في بريطانيا، فالشيخوخة السكانية تتطلب مزيداً من الرعاية الصحية، وتتعرض البلاد أيضاً لضغوط لإنفاق مزيد للدفاع عن البلاد في مواجهة الهجمة السيبرانية الروسية، إضافة إلى التحول بعيداً من الوقود الأحفوري. ومع ضعف النمو وارتفاع أسعار الطاقة، فإن هذا "مزيج سام بالفعل بالنسبة إلى المالية العامة"، بحسب ما ذكر معهد الدراسات المالية في دراسة أجراها في يونيو (حزيران) الماضي، وهذا يعني أن حكومة ستارمر ستضطر إلى خفض الخدمات العامة بعشرات المليارات سنوياً ما لم ترغب في زيادة الضرائب أو الديون، وهي خطوات قد تخيف الأسواق المالية، وقال المعهد "ستكون هناك حاجة إلى اتخاذ قرارات ضخمة في شأن حجم وصورة الدولة".
وسيتعين أيضاً على بريطانيا أن تراقب بحذر مستويات ديونها، فقبل عامين فقط، أثارت رئيسة الوزراء آنذاك ليز تروس حملة تهافت على الجنيه عندما كشفت عن الخفضات الضريبية التي عرضت المالية العامة للخطر، وجاء رد فعل السوق سريعاً ورحلت تروس خلال أسابيع.
حل الأزمات ومعضلة التمويل
حاول ستارمر إدارة التوقعات في شأن ما يمكن أن تحققه حكومته على المدى القصير، إذ يقول أحد كبار مساعدي ستارمر، هو بات مكفادين، ""نحن نريد التغيير، نحن نريد أن نقدم الأمل، نحن نحاول أن نكون واقعيين وصادقين في شأن الإرث الذي ستخلفه هذه الحكومة".
في حين لم يعرض ستارمر الذي يحاول التخلص من صورة حزب العمال بوصفه حزباً يفرض الضرائب وينفق أكثر من اللازم، سوى زيادات ضريبية مستهدفة لإصلاح الخدمات العامة في البلاد، وتعهد بإبقاء الدين الحكومي تحت السيطرة، ويقول كل من ستارمر ووزيرة خزانته راشيل ريفينز، إنهما سيبنيان مزيداً من المنازل، ويقللان الهجرة، ويمولان البنية التحتية الجديدة للطاقة الخضراء، ويجعلان من الأسهل على الناس الحصول على مواعيد في النظام الصحي.
لكن خلال الحملة الانتخابية اضطر حزب العمال بالفعل إلى تقليص خططه، والتخلي عن فكرة اقتراض 28 مليار جنيه إسترليني (35.8 مليار دولار)، لتمويل ما يعادل قانون خفض التضخم في بريطانيا.
وليس من الواضح كيف سيمول حزب العمال وعوده، نظراً إلى أنه تعهد بخفض الدين الحكومي باعتباره نسبة من الناتج الوطني، لكن سيتعين على الحكومة الجديدة إيجاد أموال إضافية للتعامل مع كلفة الرعاية الصحية المتزايدة والإنفاق العسكري الإضافي، ومع ارتفاع عدد كبار السن، وعيش الناس لفترة أطول، سيتعين على الحكومة إنفاق مزيد من الأموال على الرعاية الصحية فقط للحفاظ على الخدمة عند المستويات الحالية.
فرض الضرائب لا محالة
ويقول كبير الاقتصاديين في "بانثيون ماكرو إيكونوميكس"، روب وود "سيتعين زيادة الضرائب على المدى المتوسط نظراً إلى الفوضى التي تعانيها المالية العامة، لكن حزب العمال سيجد صعوبة أكبر في عدم الوفاء بوعوده بترك معظم الضرائب الرئيسة من دون تغيير".
وتعود المشكلات الحالية إلى أكثر من عقد من الزمن، ففي عام 2010، شرعت حكومة "المحافظين" بتنفيذ برنامج تقشف للحد من العجز الحكومي والديون، ولا تزال آثار تلك الخفضات محسوسة بشدة في جميع أنحاء البلاد.
وخفضت السلطات المحلية الإنفاق على خدمات الشباب ومراكز الأطفال بأكثر من ثلاثة أرباع بين عامي 2010 و2023، وبلغ عدد القضايا المتراكمة في محكمة التاج أعلى مستوى على الإطلاق بعد خفض الموازنات، واقترب عدد نزلاء السجون من أعلى مستوياته، واليوم يطلق سراح المجرمين مبكراً لإفساح المجال في السجون المكتظة، فيما ينتظر نحو 6.3 مليون شخص في بريطانيا مواعيد الأطباء، وغالباً ما يستغرق الأمر ساعات أو حتى أيام حتى يفحصوا في غرف الطوارئ، وهو ما أدى على سبيل المثال لا الحصر، إلى تراجع نجاح بريطانيا في تشخيص حالات السرطان بسرعة عن نظيراتها.
وكانت الأعوام الخمسة الماضية هي أول فترة برلمانية منذ أن بدأت السجلات في الخمسينيات من القرن الماضي تشهد انخفاض مستويات المعيشة، إذ أدى التضخم إلى تآكل الدخل وعلى رغم أن التضخم ينخفض الآن، لكن عدداً من البريطانيين العاديين أصبحوا أسوأ حالاً والاقتصاد ينمو ببطء شديد بمتوسط 1.3 في المئة منذ عام 2016.
وانتقد وزير الصحة الجديد لحزب العمال ويس ستريتنغ، قبل الانتخابات، بعض موظفي الخدمة المدنية لإعطاء الأولوية لمزيد من المال على الإصلاحات من أجل الكفاءة قائلاً إن هناك "رضا مذهلاً وتفكيراً جماعياً بين المؤسسة الصحية التي تعتقد أن الإجابة الأولى هي دائماً مزيد من المال".
وجادل ستارمر بأنه يمكن جعل النظام الصحي يعمل بصورة أكثر كفاءة، فهو يريد ضمان 40 ألف موعد إضافي كل أسبوع خلال الأمسيات وعطلات نهاية الأسبوع، تمول من خلال اتخاذ إجراءات صارمة ضد التهرب الضريبي، وسيعمل حزب العمال مع شركات الصحة الخاصة لتقليل حجم العمل المتراكم.
ويستهدف ستارمر أيضاً إجراء تغييرات هيكلية مثل إصلاح لوائح التخطيط المرهقة في بريطانيا، التي تمنع بصورة روتينية عمليات التطوير الجديدة من الإسكان إلى القطارات، لكن قدرة ستارمر على الوفاء بهذه الوعود التي غالباً ما تواجه معارضة محلية حادة، ستكون بمثابة اختبار رئيس لمساعيه نحو النمو.
تنشيط الاقتصاد
جعل حزب العمال تنشيط الاقتصاد البريطاني وتوافر فرص عمل جيدة ونمو الإنتاجية في جميع أنحاء البلاد مهمة رئيسة له، وهذا يأتي في ظل توقف الإنتاجية والأجور على مدى العقد ونصف العقد الماضيين، مما جعل الأمور أكثر صعوبة.
وقال حزب العمال الذي يتزعمه إنه سيتبع نهجاً مختلفاً تجاه الاقتصاد عن حزب المحافظين الذي كان في السلطة 14 عاماً من خلال العمل بصورة أوثق مع الشركات لزيادة الاستثمار مع حماية حقوق العمال، مشيراً إلى أن أجندته الاقتصادية ستركز على توافر الأمن الاقتصادي.
والتزم الحزب بضبط النفس واختار أن يلزم نفسه بقواعد مالية صارمة لخفض مستويات الدين التي من المرجح أن تستبعد تغييرات كبيرة في الضرائب والإنفاق.
ويتوقع أن يركز حزب العمال المُنتخب على تغييرات أخرى وعلى بناء المؤسسات التي يأمل رئيس الوزراء الجديد في أن تطلق المليارات من الاستثمارات الخاصة لتعزيز الإنتاجية وتحسين مستويات المعيشة، وتتضمن مقترحات الحزب تغيير نظام التخطيط في بريطانيا لتسهيل بناء البنية التحتية، وبناء أكثر من مليون منزل جديد، وقال الحزب إنه سيبني مدناً جديدة، وكذلك سينشئ صندوق ثروة وطنياً للاستثمار في الطاقة الخضراء، ويبني المصانع العملاقة التي تصنع بطاريات للسيارات الكهربائية، ويحيي صناعة الصلب، إضافة إلى إنشاء شركة طاقة مملوكة للقطاع العام، في محاولة للحد من تعرض بريطانيا لأسواق الطاقة الدولية.
التغييرات في الأجور
وأشرف حزب المحافظين على زيادتين كبيرتين في أجر المعيشة الوطني في العامين الماضيين، ففي أبريل (نيسان) الماضي، ارتفع الأجر بنسبة 9.8 في المئة ليصل إلى 11.44 جنيه إسترليني (14.64 دولار) للساعة، وهو ما كان أعلى من ارتفاع بنسبة 9.7 في المئة عام 2023، ويرتفع أجر المعيشة في مجموعات وفقاً للعمر، إذ يبدأ من 6.40 جنيه إسترليني (8.19 دولارات) في الساعة للأعمار 16 سنة، ويصل إلى 8.60 جنيه إسترليني (11 دولار) في الساعة للأشخاص الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 و20 سنة.
لكن حزب العمال تعهد في بيانه "بإزالة الفواصل العمرية التمييزية إذ يحق لجميع البالغين الحصول على الحد الأدنى للأجور نفسه".
التغيير في الأجور المعيشية هو أحد المقترحات الجديدة التي تعهد حزب العمال بتقديمها والتي أثارت قلق أصحاب العمل الذين يتصارعون بالفعل مع النفقات العامة الأعلى من أي وقت مضى، ومن الممكن من الناحية النظرية في الأقل تنفيذ بعضها على الفور، في حين قد يُترك بعضها الآخر ليذبل بهدوء.
مشروع قانون تشغيل العمالة
ومن المقرر أن يلقي الملك تشارلز الثالث خطابه في الـ17 من يوليو (تموز) الجاري، الذي من المتوقع أن يقدم مشروع قانون تشغيل العمالة، لكن قلة من المراقبين يتوقعون أن يتضمن هذا في الواقع عدداً من القوانين الجديدة، إن وجدت.
ومن المرجح أن تشمل هذه القوانين ما يسميه البيان "الحظر على العقود الاستغلالية من دون ساعات عمل"، وإنهاء ممارسة "الفصل وإعادة التعيين"، إذ يُفصل العمال ويستبدلون بآخرين بأجور وشروط وأحكام أقل، ويمنح الموظفون حقوقهم في الحصول على إجازة ولادة، والأجر المرضي، والحماية من الفصل التعسفي من اليوم الأول.
وقال رئيس الشؤون الخارجية في اتحاد الشركات الصغيرة كريج بومونت لصحيفة "التايمز"، "قال حزب العمال إننا سنحصل على هذه الحقوق الجديدة في أول 100 يوم، ولكن الآن سنستغرق 100 يوم لنقرر ما الذي يجب أن نفعله".
من الناحية النظرية، تستطيع الحكومة أن تلغي الفوارق العمرية في أجر المعيشة بسرعة، كما يمكن أن يوصى بمعدلات الأجور والفئات العمرية من قبل هيئة استشارية مستقلة تسمى لجنة الأجور المنخفضة بموجب اختصاص تحدده وزارة الأعمال والتجارة البريطانية، وبوسع وزير الأعمال الجديد جوناثان رينولدز أن يكتب إلى اللجنة غداً ويطلب التغيير الذي يمكن فرضه في السنة المالية المقبلة.
ويمكن للحكومة أيضاً أن تتحرك بسرعة لتقديم وعود بيانية أخرى، بما في ذلك ما يسمى بـ"الحق في إيقاف العمل"، الذي بموجبه يحق للموظفين عدم الرد على مكالمات العمل ورسائل البريد الإلكتروني خارج ساعات عملهم، وتشديد القيود على الفصل وإعادة التوظيف.
ومن الممكن وضع هاتين القاعدتين بسرعة نسبية من خلال خدمة الاستشارات والتوفيق والتحكيم Acas، التي يمكنها فرضهما في صورة قواعد ممارسات طوعية بدلاً من قوانين الدولة، ومع ذلك فمن المرجح أن تمر هذه الإصلاحات وغيرها من إصلاحات العمل بعملية تشاور مطولة قبل التشريع.
وسيكون نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، هو التوقيت الذي تقدم فيه لجنة الأجور المنخفضة توصياتها السنوية في شأن الحد الأدنى للأجور، التي يمكن أن تشمل إزالة الفئات العمرية في أبريل المقبل إذا طلب منها رينولدز ذلك، ويمكن أن يشمل ذلك أيضاً وعد حزب العمال بأن الزيادة في الأجور ستكون مرتبطة بـ"كلفة المعيشة".
وستبدأ المشاورات التي أعلنت في خطاب الملك في اختتامها، إذ تحدد الحكومة بعد ذلك لنفسها مواعيد نهائية لاتخاذ قرار في شأن إطلاق التشريع.
ربما في الـ18 من سبتمبر (أيلول) المقبل، سيطلق مشروع قانون المالية الذي يمكن أن يتضمن تغييرات كبيرة في ضريبة التلمذة الصناعية، وهو المخطط المصمم لتشجيع أصحاب العمل على تمويل التلمذة الصناعية، مع الإشارة إلى أن هذه الضريبة لا تحظى بشعبية كبيرة بين أصحاب العمل بسبب عدم مرونتها، وأدت في الواقع إلى انخفاض عدد التلمذة الصناعية منذ فرضها.
ومرة أخرى، على رغم أن مشروع قانون المالية يمكن أن يفرض تغييرات على التلمذة المهنية بسرعة إلى حد ما، فإن حزب العمال يقول إنه سينشئ أولاً هيئة مراقبة جديدة تسمى "مهارات إنجلترا" للإشراف على كيفية تدريب البلاد للشباب، في حين أن إنشاء المنظمة الجديدة من شأنه أن يؤخر أي تغييرات.