ملخص
لا تعنى آداب المائدة بماذا نأكل أو نشرب وإنما كيف نأكل ونشرب لأن الطعام لم يعد حاجة لسد الجوع فقط وإنما بات دليلاً على تكريس الانتماء الثقافي والحضاري.
حين يوضع الطعام فوق الطاولة يتحول اسمها إلى مائدة وإلا فهي طاولة للعرض أو للعب أو مكتب، وحينها تصبح مسرحاً لعادات وتقاليد وآداب تسمى آداب المائدة تطورت عبر آلاف السنين وبطرق مختلفة من مجتمع إلى آخر بل وأحياناً بطرق معاكسة، ففي حين لا يجب ترك الطعام في الصحن في اليابان فإنه لا يجب تناول كل ما فيه بالصين.
والمائدة محل لاجتماع العائلة ولاستقبال الضيوف وتكريمهم، ومكان لترتيب أنواع الأكل ومحل للتفريق بين الثقافات والتقاليد والعادات وفلكلور الشعوب والمجتمعات الإنسانية. وهذا كله يختلف بين مائدة الإفطار في الصباح والغداء عند الظهر ثم العشاء في المساء، وبين موائد الفقراء والأغنياء، والحزن والأفراح والبخلاء والكرماء. وفي حين أن الأكل باق فطبيعي أن يبقى الآكلون فأهمية الموائد باقية وتتطور بتطور المجتمعات سواء تلك التي تندمج وتتأثر بالعولمة وتخالط ثقافة الأكل بين الشعوب في العالم القرية أو في المجتمعات التي تحاول الحفاظ على صفاء عاداتها وأنواع الطعام التي تقدمها والتي تعرف بها من دون غيرها.
على مدار القرون أسهمت الموائد في تصنيف شعب من الشعوب بالكرم أو بالبخل وبالغنى أو بالفقر بالكلاسيكية أو بالتطور وبالانفتاح أو بالتقوقع. وقد تشتهر مجتمعات بأكملها بسبب نوع من الطعام خاص بها، وتصير هذه المجتمعات محبوبة أو مقربة إلى النفوس بسبب هذا الطعام، كالبيتزا والسباغيتي الإيطالية أو الهامبورغر الألمانية قبل أن تصير أميركية ومعولمة، وكالسوشي اليابانية والمازة المتوسطية التي تعرف بها اليونان ولبنان أكثر من غيرها، وكثير من الأمثلة الأخرى. إلا أن الطعام يمكنه أن يكون عنوان الرسالة التي يريد أي مجتمع إرسالها إلى الآخرين عن عاداته وتقاليده، وكما يقال فإن الرسالة تقرأ من عنوانها، وكذلك المجتمعات يمكن أن تقرأ من خلال طعامها وآداب موائدها.
المائدة بوصفها رمزاً ثقافياً وحضارياً
وللمائدة معان ومغاز في الأديان السماوية والوضعية، فالعشاء الأخير أحد أعمدة المسيحية، وجنة المسلمين مليئة بوصف أنواع المآكل والمشارب والموائد وكيفية ترتيبها وتنظيمها أيضاً، ولدى الهندوس محرمات كثيرة ومسموحات كثيرة أيضاً، واحتفاليات تتعلق بالطعام لا تحصى، أما في اليهودية فالطعام والموائد تحتل قسماً كبيراً من التنظيم الديني سواء في المسموح والممنوع منها وما يأكل خلال الأسبوع وفي العطل ويوم السبت وفي الأعياد.
وهناك موائد الاحتفالات الدينية في جميع الأديان التي تختلف بين الاحتفالات الحزينة والفرحة، وهناك الموائد التي تتغنى بوجود اللحم عليها وأخرى بالخضراوات والفاكهة وتنبذ اللحم، وهناك الترتيب الزمني لدخول الطعام إلى المائدة، كالمقبلات ثم سلطات الخضراوات ثم الطبق الرئيس فالحلويات، وهذا الترتيب يختلف من مجتمع إلى آخر.
والمائدة ذات دلالات في إكرام الضيف سواء كان صديقاً مدعواً أو زائراً ماراً وجائعاً، وكثيراً ما وزعت النصائح بأن تأكل عند جماعة معينة ولا تأكل عند أخرى. وكثيراً أيضاً ما قيل كل بهذه الطريقة ولا تأكل بتلك، لأنها تدل على نفسية وشخصية الآكل وكيف يأكل، ففي بعض الموائد ممنوع الأكل إلا باليد وفي بعضها يعد الأكل باليد دليل همجية، وبعض الموائد تفترش على الأرض وأخرى مرتفعة عن الأرض، ولكل تفصيل من هذه التفاصيل معناه وأسبابه وطريقة تطوره التي تختلف من مجتمع إلى آخر يدخل فيه شظف العيش أو هناؤه وكرم الطبيعة أو قسوتها ووفرة الماء وقلته.
وفي المحصلة فإن الجلوس حول مائدة الطعام هو دليل على التقارب والتصالح والتوافق بعد خلاف وهو عكس التقاتل والعداوة أو الحقد والحسد الذي قد يكون بين فرد وآخر أو بين جماعة وأخرى، ثم يأتي دور الذوق الذي يدلل عليه ترتيب المائدة وطريقة الجلوس حولها وآدابها التي تدل على مدى تحضر ثقافة من الثقافات، وهذا ما دعا عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي سترواس في دراسته "أصول آداب المائدة"، إلى القول إن فن طهو الطعام وفنون تقديمه تشكل الإشارات الأولى للتطور الثقافي البشري.
لا تعنى آداب المائدة بماذا نأكل أو نشرب، وإنما كيف نأكل ما نأكل وكيف نشرب ما نشرب في إطار الجماعة البشرية، لأن الطعام لم يعد حاجة لسد الجوع كيفما اتفق وما هو متاح وإنما بات دليلاً على انتماء ثقافي وحضاري بخاصة أن علماء الأنثروبولوجيا وجدوا أن مشاركة الطعام مع الآخرين لم يكن موجوداً منذ البدء، بل بدأت المشاركة بعد تطور هائل في العلاقات بين البشر داخل الجماعة الواحدة، وأدت هذه المشاركة إلى أنواع أخرى من التطور العاطفي وفي العلاقات بين أفراد الجماعة الموزعين في رتب بين الرجال المسنين منهم والشباب ثم الأطفال ثم النساء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تشتق كلمة "جماعة" باللغة الإنجليزية "company" من اللغة اللاتينية إذ تعني "خبز مع"، أي "أولئك الذين يتقاسمون الخبز في ما بينهم". وهكذا يقترن الطعام والشراب منذ عصور غابرة بالمشاركة الجماعية. بل رصد علماء الأنثروبولوجيا أنه حتى في الثقافات القبلية الأكثر بدائية ما إن "يكسر" الناس "الخبز" مع الغرباء أو يتناول الشراب معهم، حتى تنشأ علاقة مسالمة في ما بينهم، وما زلنا حتى اليوم حين نريد القول إن صداقتنا متينة مع الآخر نقول إن بيننا "خبز وملح"، وحينها يصير لزاماً على الآكلين معاً حماية بعضهم بعضاً في حال تعرض أي منهم إلى خطر ما.
والعرف والأدب يقتضيان أن نأكل ما يقدمه لنا المستضيف، والعرف والأدب يقتضيان من المستضيف "إكرام الضيف" أولاً. واشتهر إكرام الضيف في الثقافة العربية البدوية، وكان العرب القدماء يتبارون ويتشاوفون في أيهم أكثر كرماً واحتفالاً بالضيف. وعرف حاتم الطائي في الكرم لدى العرب القدماء، وصار كل كريم يوصف حتى اليوم بأن كرمه "حاتمي".
آداب المائدة
تدخل آداب المائدة في الأعراف والتقاليد لا في الأخلاقيات العامة، لأن التقاليد أقوى وأكثر تأثيراً من الأخلاق، ذلك أن التقاليد صنيعة اتفاق عام على كيفية التصرف في ظروف معينة، وتصير مع تطور المجتمعات إطاراً عاماً للسلوك المقبول، أما الأخلاق فهي صنيعة فردية إذ لا يمكن إلا تعليم الأخلاق من دون فرضها بينما تفرض العادات والتقاليد نفسها على الأفراد حتى لا يخرجوا من إجماع الجماعة.
لم تكن آداب المائدة لتتبلور في مبادئ ما نسميه "إتيكيت" المائدة العصرية، إلا باختراع أدوات المائدة، وقد يكون الحجر المسنن كالسكين الحد الفاصل بين حقبة نهش الفريسة بالأيدي والأسنان وتقطيعها، نحو التحضر، ويقال إن الملك الفرنسي لويس الـ14 الذي كان مفتوناً بالطعام وتوضيبه على مائدته، كان أول من أمر بأن تكون سكاكين المائدة ذات نهايات مدورة، وذلك في عام 1669، وهو ما جعل تناول الطعام في حضرة السكاكين أقل مدعاة لعنف محتمل.
ومن هذا المبدأ تتفق معظم ثقافات العالم على أنه لا يجوز أبداً تسديد السكين في وجه رفاق المائدة وتحريكها في وجوههم أثناء الكلام أو الأكل. وعند وضع السكين على الطاولة، يجب أن يكون حدها إلى الداخل لا باتجاه الخارج، ومن غير المقبول إمساك السكين بقبضة اليد بصورة عمودية، فذلك علامة على التحفز للهجوم.
وبحسب علماء الأنثروبولوجيا قد يكون ما يشبه الملعقة أول أداة استخدمها الإنسان في الأكل، فتشير التنقيبات الأثرية إلى أن الإنسان الأول عرف صيغة قريبة من الملعقة في العصر الحجري القديم. واستخدم الرومان والإغريق ملاعق من البرونز والفضة، وعثر أيضاً في قبور المصريين القدماء على ملاعق من الخشب والحجارة والعاج. وأثناء العصور الوسطى في أوروبا استخدم الأثرياء ملاعق كبيرة مصنوعة من الفضة المطروقة، فيما اكتفى الفقراء بملاعق مصنوعة من الخشب والعظام. وعلى رغم أن السكين اختراع سابق للملعقة فإنها ظلت لقرون أداة تقطيع، ولم توضع على المائدة في شكلها المهذب إلا في القرن الـ17 بحسب تحقيق للباحثة حزامة حبايب حول آداب المائدة.
وفي ما يتعلق بأطباق الطعام فإن الحضارات البشرية ابتكرت أطباقاً من المعدن والخشب والخزف، فعرفها الإغريق والرومان والآشوريون والمصريون وكذلك قدماء المكسيك والبيرو والمايا والإنكا والصينيون، وبقي الطبق لعشرات القرون أداة الطعام الجماعية على المائدة، ولم يكتسب قيمته كأداة طعام للاستخدام الفردي، إلا لاحقاً.
وقد تكون الشوكة أداة المائدة الأولى التي أسبغت على الطعام تجربة فردية، وكان اختراع الأداة التي تشبه الشوكة لاستخدام مختلف عن الأكل سواء في حرث الأرض أو في أعمال حرفية بدائية مختلفة قبل تصغيرها لتنتقل إلى المائدة ولتستخدم مع السكين لتسهيل عملية تقطيع اللحم. وعرف الرومان الشوكة واستخدموها في القرن الثاني للميلاد. وبحلول القرن السابع ظهرت الشوكة في بلاد الشام ومنطقة الشرق الأوسط عموماً. ويقودنا الحديث عن الشوكة إلى عادات لا تزال سائدة في المجتمعات العربية البدوية وهي الأكل باستخدام أصابع اليد. وعلى رغم ما تبدو عليه هذه العادة من بدائية وارتجال فإنها محكومة بقوانين عدم استخدام سوى اليد اليمني في الأكل، وتناول اللقمة بالأصابع لا بكفة اليد، كما لا يجب دفع الطعام في الفم دفعاً وإدخال كل أصابع اليد في الفم. والأكل بأصابع اليد كان تقليداً شائعاً على مدى العصور منذ الإغريق والرومان الذين كانوا يأكلون وهم شبه مستلقين على الأرائك.
طرق الضيافة
تتعدد طرائق الضيافة وعادات المائدة اليوم بتعدد الثقافات، فالضيف يأكل أولاً في بعض الثقافات الراهنة، بخاصة في العالم الإسلامي ويتم أيضاً ملء صحنه مرات ومرات، ولا يسمح لطبقه بأن يفرغ لحظة، فيما تخصص اللقمة الأولى لكبار السن في العائلة في مجتمعات أخرى. وإذا كانت الثقافة العربية تقتضي أن يتولى سيد البيت أو الأكبر سناً في العائلة خدمة ضيوفه من منطلق "سيد القوم خادمهم"، فإن الأصغر سناً هم الذين يتولون تقديم الطعام للأكبر سناً أو للأرفع شأناً لدى الصينيين.
وقد تجد أنه من المناسب أن تأكل كل ما في صحنك احتراماً لمضيفك واعترافاً من جانبك بمذاق الأكل الشهي. إلا أن الأمر يتعدى الاحترام والمذاق في بلد مثل بريطانيا، فالإتيان على ما في طبقك مسألة تعود جذورها إلى حقبة الحرمان المريرة أثناء الحرب العالمية الثانية، من خلال فرض نظام الحصص في توزيع الطعام الشحيح لأنه من غير المعروف متى يمكن أن تملأ هذه الأطباق ثانية. في المقابل، فإن أكل كل ما في الطبق في بيت مضيف صيني، أمر قد يثير الحساسية إذ قد يعني أن المستضيف لم يقدم لك ما يكفي من الطعام.
مائدة السلطان
كان السلطان في الأيام العادية يتناول طعامه وحده، حين كانت العادة كما يصف مؤرخ الدول ابن زيدان أن السلطان يأكل طعامه وحده في كل وقت إلا في وقت يريد تشريف فيه أهل بيته أو مقربين منه أو زواراً معينين فتكون المناسبات التي تزدحم فيها مأدبة السلطان خروجاً عن العادة ووسيلة لإبراز الكرم السلطاني وتشريف من يحظى بشرف الجلوس على مائدة السلطان وهو تشريف كان لا يحظى به إلا القلة ممن حازوا مكانة متميزة داخل المجتمع أو البلاط.
ووصف المؤرخ أبو الحسن المريني صاحب كتاب "التقاليد المخزنية في الولائم السلطانية" بالقول، "وإذا أدى السلطان صلاة المغرب ونافلتها، قصد في إعداد مجلسه في مكان الاحتفال، إذ يستدعي الناس للجلوس بحسب مراتبهم، ويأخذون المجالس على طبقاتهم، فينتظمون في أحسن زي وأجمل إشارة".
وتعد هذه التقاليد المرعية في ترتيب دخول الناس وجلوسهم على الملوك، من التقاليد المرعية منذ الزمن الموحدي وهي تقاليد ستصبح من العادات المرعية عند سلاطين المغرب. ويصف الفشتالي مؤرخ الدولة السعدية احتفال أحمد المنصور الذهبي بعيد المولد النبوي، بالقول "فإذا طوي بسائط القصائد نشر خوان الأطعمة والموائد، فيبدأ بالأعيان على مراتبهم ثم يؤذن للمسلمين فيدخلون جملة"، هذا الترتيب أخذه الأندلسيون والمغاربة عن المشرق، وهي تقاليد حملها زرياب من بلاط الخليفة العباسي هارون الرشيد، إذ سيضع للطبقات الراقية في الأندلس قواعد للسلوك وآداب الجلوس والمحادثة والطعام "حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه"، وسموه "معلم الناس المروءة".
ففي مجال الطعام وآدابه، دربهم زرياب على إعداد مائدة راقية وأنيقة، تقدم فيها الأطباق بحسب نظام وترتيب خاص، فتقدم أولاً أطباق الشوربة والسواخن، تليها أطباق اللحم والطيور المتبلة بالبهارات الجيدة، وفي النهاية تقدم أطباق الحلوى من الفطائر المصنوعة من اللوز والجوز والعسل، والعجائن المعقودة بالفاكهة المعطرة والمحشوة بالفستق والبندق.
وارتبطت مظاهر الأبهة التي تحيط بالموائد السلطانية بعظمة دولة السلطان نفسه، إذ يحرص السلطان ليس لإظهار كرمه من خلال ما يوضع فوق الموائد من طعام، بل ما يوضع فيه الطعام نفسه من أدوات المائدة، وكذلك نظافة وترتيب المكلفين بتقديم الطعام، الذين يرتدون الحزم المحلاة بالذهب والفضة ما تدهش في حسنه العيون، أما الأواني التي يقدم فيها الطعام، فمنها "القصاع المالقية والبلنسية المذهبة والأواني التركية والهندية المعجبة".
وبعد الانتهاء من تناول الطعام والتحلية، يؤتى بالطسوس والأباريق ويصب الماء على أيدي الناس للغسل، و"تنشف الأيدي بالمناشف المبرزة ومناديل الكتان المطرزة وتنصب في المجلس مباخر الجاوي والعنبر والعود وتبرز صحائف الذهب والفضة وأغصان من الرياحين الغضة فرش بها من تلك الصحائف على كل فرد ماء الزهر والورد فإذا تعطر القوم وتطيبوا، أكثروا من الدعاء للخليفة".
وفي الزمن الحديث يصف نقيب الإشراف العلويين تقديم الطعام في زمن السلطان الحسن الأول ملك المغرب الراحل، "فتأتي بما طبخ في مطابخ القصر الإماء الطباخات تحملنه على نظام خاص يسر الناظرين، تتقدمهن العريفة وخلفها حملة الطواجن ثم حاملات الموائد ثم العجانات حاملات أطباق الخبز في أكفهن اليمنى. وأما الموائد فتحمل على الرؤوس والكل ملفوف في مناديل بيض من الكتان الناصع البياض، فإذا وضع الطعام أمام الجلالة رفعت الأغطية ليعلم السلطان عين الطعام ونوعه". وتمرير الطعام أمام السلطان ليختار من بينه هو بمثابة لائحة الطعام التي تقدم اليوم في المطاعم ليختار الزبون من بين ما فيها، إلا أن السلطان كان يختار من بين ما هو مطبوخ ومحضر.
تميزت المناسبات الملوكية، ليس فقط بمظاهر البذخ والأبهة التي تحيطها، بل بما يحتويه خوانها أو قائمة طعامها من أطباق تميزها عن غيرها من الموائد المعتادة عند عموم الناس، وهي أطباق كانت تميز موائد الملوك والأمراء ورجالات الدولة كذلك.
المجتمعات العالمية
يروي أحد الرحالة ممن زاروا مدينة بيروت خلال الربع الأخير من القرن الـ19 كيف أن ربة المنزل الذي استضافه على العشاء، التي تنتمي لإحدى العائلات الأرستقراطية كانت تمسك بحبة الزيتون في يدها وتشكها في الشوكة ظناً منها أنها تأكل على الطريقة الغربية. أضف إلى ذلك أن تقنية استخدام الشوكة اليوم لا يمنع من اعتماد طريقة تناول الطعام على الطريقة التقليدية القائمة أساساً على تقنية اللقمة بالخبز بواسطة اليد.
ويتجلى لنا أثر السفر واحتكاك المجتمعات ببعضها على المطابخ والأطعمة في مذكرات الرحالة الإيطالي "ماركو بولو"، التي يزعم فيها أن أصل المعكرونة الإيطالية يعود إلى الصين، إذ تذوق خلال رحلاته إلى هناك "نودلز الرز" وجلبها معه. ولعدم وجود الرز في إيطاليا تم تهجين الوصفة لتصنع من القمح، واشتهرت بها إيطاليا منذ ذلك الحين.
وكان الطعام، بما له من قيمة ذاتية وتجارية، سبباً داعياً للسفر وعقد الرحلات الاستكشافية الكبيرة، كما هي الحال مع الهند، التي دعت "كريستوفر كولومبوس" إلى الإبحار غرباً لاكتشاف أقصر طريق بحري يؤدي إلى "أرض التوابل"، ليكتشف عوضاً عنها القارة الأميركية مصادفة في منتصف الطريق.
من عادات المائدة لدى اليابانيين أنه لا يجب تجعيد المناديل وتركها في الطبق الفارغ بعد أكل الوجبة، إذ يعد اليابانيون هذا التصرف غير لائق وينم عن عدم احترام. ويجب عدم وضع عيدان الطعام بشكل مستقيم في وعاء الرز بل في حامل عيدان الطعام لأن وضعها المستقيم يرتبط بالجنازات والتذكير بالأموات. ويمنع ترك البقشيش الذي قد يعد إهانة للموظفين. ويجب عدم غمس رز السوشي في صلصة الصويا، ولا يجوز رفع الطعام فوق الفم نهائياً، ولكن في اليابان، تعد وجبة الإفطار هي الأهم بوصفها وجبة رئيسة في اليوم، وعليها أن تكون وجبة متكاملة تمنحهم الطاقة اللازمة لقضاء يوم كامل. ويتكون الإفطار الياباني من مجموعة من الأطباق كالرز والبيض والأسماك وحساء ميسو والأعشاب البحرية والخضراوات والشاي.
تتطلب عديد من المناسبات اليابانية تطبيق العادات التقليدية وآداب السلوك المناسبة ولذلك يجري تقديم أوشيبوري أو منشفة ساخنة على البخار لتنظيف اليدين. ويجب تجنب استخدامه لمسح الوجه، وكما هي الحال مع التقاليد الصينية يجب تجنب ترك عيدان الطعام في الوعاء. ومن المقبول تناول المعكرونة بصوت عال، إذ يعتقد أن هذا يحسن النكهة ويسمح لرواد المطعم بتناول الأطعمة الساخنة بصورة أسرع، كما ينظر إليه على أنه علامة تقدير تجاه الشيف، ومن الشائع أن تشرب مباشرة من وعاء الحساء إذ نادراً ما تستخدم الملاعق عند تناول الطعام في اليابان.
في تشيلي أهم عادة هي استخدام الأدوات لأكل أي شيء باستثناء الخبز، لأن تناول الطعام باليد يعد غير مهذب. حتى الأطعمة التي تؤكل بالأصابع مثل البطاطا المقلية والبيتزا تؤكل بالشوكة والسكين.
أما في الصين فيعتقد أن إظهار آداب المائدة الجيدة في البلاد يجلب الصحة الجيدة والثروة. أولاً من المهم فهم كيفية استخدام عيدان تناول الطعام. ويمنع لعق عيدان تناول الطعام أبداً، وعند تناول الطعام يجب دائماً ترك كمية صغيرة من الطعام على الطبق، ويعتبر تارك الطبق الفارغ وقحاً ويدل على أنك لم تأكل بما فيه الكفاية. على عكس ما تعتقده العادات الأخرى فإن التجشؤ مرحب به وينظر إليه على أنه مؤشر إلى الرضا.
ويعد فن تناول الطعام تقليداً محترماً تم بناؤه بعمق في الثقافة الفرنسية، وإذا كنت تتناول الطعام في فرنسا فمن المهم عدم تناول الطعام بكلتا يديك، الاستخدام الأساس لقطعة الخبز هو مساعدة الطعام على الشوكة إذ يتوقع من رواد المطعم تمزيق قطعة مقابل قضمها مباشرة.
تحدد المشاهد النابضة بالحياة والروائح الغنية والنكهات الفاخرة للمطبخ الهندي إلى حد كبير التجربة الثقافية للبلاد. من المفترض أن يكون الطعام الهندي تجربة حسية لذلك يتم تشجيع استخدام حاسة اللمس إلى حد كبير لتعزيز الوجبة، وحتى وجبات مثل دالي (حساء العدس) تؤكل باليدين من طريق تغطيس قطع الخبز الهندي فيها، ويعد تناول الطعام بيدك اليسرى من المحرمات لأنه يعد نجساً.
ويعد تناول الطعام حدثاً اجتماعياً في المكسيك، فيتأخر البدء بتناول الطعام بسبب المحادثة والشرب والاختلاط، ويجب ألا تبدأ في تناول الطعام حتى يقول المستضيف "Buen provecho"، التي تترجم إلى "تناول وجبة جيدة". عند تناول الطعام من المقبول استخدام يديك ويعد استخدام الأواني والأدوات المطبخية تفاخراً تقريباً.
في المغرب مزيج من التقاليد الحديثة والأصلية، فإذا تمت دعوتك إلى منزل خاص لتناول العشاء، فمن المهذب خلع حذائك وتركه عند الباب قبل الدخول. عادة ما يتم تناول العشاء على حصيرة أرضية حول طاولة مستديرة تصل إلى الركبة، وغالب الأطباق مشتركة، ومع ذلك من المفترض أن تأكل من المساحة أمامك مباشرة، بدلاً من الوصول إلى جهة أخرى من الطاولة أو من أمام شخص آخر. وإذا قدم مزيد من الطعام فمن المفترض رفض العرض في المرة الأولى ثم قبول جزء صغير عند العرض الثاني.
في الثقافة الروسية عند تناول الطعام على طاولة يعتبر أنه من المهذب إراحة معصميك على حافة الطاولة بدلاً من وضعهما في حضنك. عادة ما يقدم المستضيفون كميات وفيرة من الطعام وغالباً ما يعرض المستضيفون مراراً وتكراراً إعادة ملء الأطباق. يعد من عدم الاحترام رفض جرعة من "الفودكا" في العشاء إذ يعتقد أنها علامة على الثقة والصداقة، كما لا ينبغي خلط "الفودكا" بأي شيء بما في ذلك الثلج، لأن الروس يعتقدون أن هذا يضر بنقاوتها.