ملخص
أمثال بزشكيان بسجلهم الممتد في خدمة النظام، يوضعون في أعلى المناصب بحسب حاجة النظام، ولا ينبغي لأحد أن يعقد عليه الآمال في إجراء إصلاحات حقيقية في بنية النظام، وتحسين سجل حقوق الإنسان السيئ في إيران، إنما هي انحناءة ضرورية يقدم عليها خامنئي حتى تمر عاصفة الغضب والاستنكار الدولي.
المرشد الإيراني ورأس دولة الملالي علي خامنئي يفوق في شطارته تاجر السجاد الفارسي، فهو يبيع سجادته مرتين، مرة لتسويق جودتها العالية، ومرة بحكاية السجاد المليئة بالتشويق، وفي كلتا الحالين يكسب تاجر السجاد خامنئي، لسذاجة المشتري الغربي الذي يصدق الحكاية ويأكل الطعم في كل مرة، تتكرر هذه اللعبة لأعوام طويلة في علاقة إيران بالدول الغربية منذ انتصار ثورة الملالي في 1979، مروجة لديمقراطية المرشد المفرغة من المحتوى.
من خلال متابعة قراءات الإعلام الأميركي، والبيت الأبيض لنتائج الانتخابات الإيرانية المعلنة صباح السبت الماضي بفوز من قيل إنه المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان، عبرت كبريات الصحف الأميركية عن مخاوف وشكوك حول قدرة أي رئيس في إيران على إحداث تغيير حقيقي في سياسات النظام الصارمة والعدائية، مع استمرار انتهاكاته لحقوق الإنسان، وقمع الحريات العامة، والزج بآلاف من أنصار المعارضة في السجون، ومواصلة تمويل الميليشيات الإرهابية في المنطقة، فلا يوجد مؤشر في تاريخ دولة الملالي الممتد منذ 1979، يلمح إلى أن النظام مستعد لتغيير سياساته الداخلية القمعية، أو أيديولوجيته التوسعية في المنطقة.
وعلى النقيض من مقاربة الإعلام الأميركي، واصل البيت الأبيض مقاربته التقليدية تجاه إيران، مبدياً انفتاحاً على إمكانية الحوار، ودعم الجهود الدبلوماسية التي يمكن أن تؤدي إلى تخفيف التوترات الإقليمية ورفع العقوبات، مع الإشارة إلى أن أي تحسن في العلاقات يتوقف على خطوات ملموسة من الحكومة الإيرانية.
الموقف الأميركي الرسمي وجد صداه سريعاً في الضفة الأخرى من الأطلسي بإعلان الاتحاد الأوروبي موقفاً مشابهاً للموقف الأميركي، وهكذا يواصل النظام الإيراني لعبته في كل مرة، إذ يرمي شباكه في مياه الغرب المرتبكة ويصطاد حكوماته بالطريقة القديمة نفسها التي خبر الملالي لعبها، واعتادت دول الغرب الوقوع في فيها المرة تلو الأخرى.
الغريب أن الغرب يخدع مجدداً في كل مرة تمارس إيران لعبتها الديمقراطية المقننة من مكتب المرشد، والأدهى من ذلك أن الرأي العام الغربي لا يزال يتحدث عن ديمقراطية إيران ويروج لأفكار المحللين السياسيين من طهران في الإعلام الأميركي، مثل أن فوز بزشكيان يعد دليلاً صارخاً على حرية الانتخابات في إيران، وأنها دولة مؤسسات، والرئيس يأتي في المرتبة الثانية بعد المرشد ولديه القدرة على التأثير بصورة كبيرة في مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية مما يدفع أشخاصاً مثل دينيس روس، الذي عمل مساعداً خاصاً للرئيس أوباما، ليقول إن بزشكيان يمثل موقفاً أكثر واقعية وأقل تصادماً مع الداخل والخارج.
بزشكيان وحكم المرشد المترنح
تعلم أجهزة النظام الإيراني الأمنية والاستخباراتية وهي ليست قليلة في تركيبة النظام الإيراني وتتوزع على مستويات كثيرة تحت رقابة وإشراف مكتب المرشد الأعلى، أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد ديكتاتورية الملالي هو الشعب الإيراني الذي لطالما عبر خلال العقود الماضية عن رفضه للديكتاتورية الثيوقراطية، وكانت أصواته واضحة خلال انتفاضة مهسا أميني المطالبة بسقوط حكم المرشد.
خلال الانتخابات الأخيرة ومن خلال قراءة ما بين سطور بيانات المرشد يتضح أن الوضع الداخلي في إيران يوشك أن ينفجر مجدداً بسبب تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي. فالانتخابات أظهرت مقاطعة شعبية واضحة، إذ أحجم 60 في المئة من الناخبين عن المشاركة وإبداء آرائهم في الجولة الأولى، أما في الجولة الثانية وبعد جهود أسطورية من أجهزة النظام ودعوات المرشد للناخبين لدعم النظام وتعظيم المشاركة، لا يزال مستوى المقاطعة عند 50 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فرية الخامنئي الجديدة في انتخابات يونيو الإسعافية تمثلت في تقديم أصولي متطرف بثياب إصلاحية. الرئيس المنتخب مسعود بزشكيان له تاريخ طويل في خدمة النظام وتنفيذ سياساته القمعية، ربما ليس بما يرقى لمستوى الرئيس السابق رئيسي، ولكنه كانت له أدوار كبيرة في تنفيذ رؤية الخميني التي وضعها في يونيو (حزيران) 1980 وعرفت بالثورة الثقافية، التي أدت إلى تدمير المؤسسات الأكاديمية الإيرانية، وأسهم شخصياً في محاربة الفكر الحر في الجامعات الإيرانية وقمع الطلاب والأساتذة المعارضين وطرد آلاف منهم، مع بداية الثورة الإيرانية.
تنطلق فرية خامنئي من وجود بزشكيان وزيراً في حكومة خاتمي التي وصفت بأنها إصلاحية، وعلى رغم أن خامنئي أبعد كل الوجوه التي وصفت بالإصلاحية وعمل على تقديم المتشددين مطالباً في عدد من بياناته بقيام "حكومة ’حزب الله‘ الشابة" مثل حكومة رئيسي المكونة من عتاة المتشددين، فإنه دفع بترشيح بزشكيان الإصلاحي المتلون والقابل للطرق، لمحاولة خلط الأوراق الداخلية والخارجية، مما يظهر ضعفه المطلق في السيطرة على الوضع الداخلي المتوتر وخوفه من الجماهير الإيرانية الغاضبة، في مرحلة يكثر فيها الحديث عمن سيكون البديل لخامنئي.
ولم يقدم بزشكيان أي برنامج انتخابي، حتى قضية الحجاب التي تناولها في خطاباته الانتخابية تتعارض مع تاريخه في فرض الحجاب الإجباري في الجامعات الإيرانية بداية الثورة، وهو قالها صراحة "ليس لدي سياسة محددة إنما أنا أنفذ سياسات خامنئي"، مما يؤكد أن سياساته في الحكومة لن تكون إصلاحية، بل سيكون بيدقاً في رقعة الشطرنج التي يلعب بها خامنئي مع الغرب، يرسل من خلالها رسائل مشوشة حول إيران الديمقراطية، وأن الشعب هو من ينتخب رئيسه، إنها لعبة تبادل الأدوار لامتصاص تأزم الوضع الداخلي، وإعادة ترتيب وضع أذرعه الإرهابية في الخارج.
أمثال بزشكيان بسجلهم الممتد في خدمة النظام، يوضعون في أعلى المناصب بحسب حاجة النظام، ولا ينبغي لأحد أن يعقد عليه الآمال في إجراء إصلاحات حقيقية في بنية النظام، وتحسين سجل حقوق الإنسان السيئ في إيران، إنما هي انحناءة ضرورية يقدم عليها خامنئي حتى تمر عاصفة الغضب والاستنكار الدولي.
أميركا والغرب في ملعب خامنئي
خلال الأعوام الأخيرة تجاوزت إيران كل الخطوط الحمراء في علاقاتها مع دول الإقليم والدول الغربية وأميركا على وجه التحديد، فطهران وسعت علاقاتها مع الأنظمة الاستبدادية في العالم، وقدمت نفسها بصفتها قوة لا يستهان بها ضمن محور الممانعة للنفوذ الغربي، مدعية القدرة على إزاحة أميركا والحلول محلها في المنطقة، من خلال تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر والخليج العربي وبحر العرب وخليج عدن والمحيط الهندي والبحر المتوسط، وصولاً إلى تهديد السيادة الأوروبية، وهو دور تضطلع به اليوم عبر أذرعها الإرهابية يمنحها قدراً من الإفلات من العقاب.
ومع الأسف لا تزال ألاعيب طهران تنطلي على الدول الغربية، إذ تتردد في أروقة العواصم الغربية احتمالية بروز شريك مفاوض وعقلاني من رحم نظام الملالي الإرهابي، متجاهلين حقيقة أنه لا تكفي لإيقاف النزعة العدائية والتوسعية للنظام الإيراني تلك الرسائل التي تبعثها واشنطن عبر بعض الوسطاء الإقليميين، ووعودها للعودة إلى الاتفاق النووي، وترتيب العلاقات الثنائية، قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يحمل الحزبان فرصاً متقاربة للفوز بها.
الرأي السائد بين أوساط المراقبين والمهتمين في الشأن الإقليمي أن عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض تحمل معها احتمالات عودة الغزل الخفي بين واشنطن وطهران، والتساهل مع استشراس أذرع إيران الإرهابية في المنطقة، بل تركها تعيث فساداً في مستقبل دولها، أما عودة الجمهوريين لقيادة واشنطن فستحمل معها مزيداً من العقوبات الخانقة لنظام الملالي تحول دون تمكنه من تطوير تكنولوجيات الرعب والموت وزعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي، ودعم تطلعات الشعب الإيراني للحرية والانعتاق من الديكتاتورية الثيوقراطية، وقلب هذه الصفحة القاتمة في تاريخه.