Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المسرحي رضا فواز المتعدد الهويات يبحث عن أرض الأب

مسرحية "على الطريق..." تروي بالفرنسية رحلة الاغتراب بين اللغات والجذور

الكاتب والممثل رضا فواز في عرضه البيروتي (خدمة المسرح)

ملخص

الكاتب والممثل المسرحي رضا فواز المتعدد الهويات يقدم في عرضه "على الطريق... إلى" في بيروت مدينة أبيه، بعدما جال بها على مسارح عالمية، باحثاً عن أرضه الأم.

احتلت عملية البحث عن الذات حيزاً كبيراً في نصوص الأدباء والكتاب منذ القدم. يشعر الكاتب في أحيان كثيرة بالحاجة إلى الكتابة عن يتمه الكوني، وبخاصة ذاك الذي يهاجر أو يترك وطنه، فهو يرى نفسه بعيداً من نفسه، يبحث عن مكانه وكأنه لا ينتمي إلى أي مكان أو كأنه يعيش حياة لا تشبهه ولا ينتمي إليها. تصبح المدن عدوة الكاتب ويروح يغرق في النوستالجيا والميلانكوليا والسوداوية. ومن الواضح أن إشكالية البحث عن الهوية والانتماء ليست معضلة القرن الـ21 وحده، فمنذ القدم فكر الفلاسفة والكتاب في مسألة الهوية والانتماء والعلاقة بالآخر وبالوطن وبالنفس وبالرحيل. وعلى رغم وحدة الموضوع والتيمة تبقى القصص فريدة من نوعها مختلفة، فلكل صراعه مع هوياته "القاتلة" ولكل تشاذباته الخاصة وتخبطاته.

وللمدن حصتها في تأجيج هذا الصراع الداخلي، فكما يقول الكاتب السويسري باسكال مرسييه (1944-2023) في روايته "قطار الليل إلى لشبونة": "دائماً ما نترك أشياء من أنفسنا خلفنا عندما نغادر الأمكنة، وكأننا نبقى فيها حتى عندما نغادرها. وهناك أشياء منا لا نجدها إلا عندما نعود إلى هذه الأمكنة التي غادرناها". وهذا ما يحصل تماماً مع الكاتب المسرحي والممثل رودا أو رضا فواز. فهذا الفنان الرباعي الهوية والانتماء إن لم نقل خماسيها، عالق بين مدن وقصص وجذور لا يعرف إلى أيها ينتمي ولا في أيها يبقى. ففواز ولد في المغرب ونشأ في غينيا وعاش في بلجيكا ودرس المسرح في فرنسا ووالداه لبنانيان. ونضيف إلى هذه السلسلة أنه ادعى في مرحلة من حياته أنه إيطالي كضرب من المزاح بينه وبين أصدقائه. فمن هو رودا/ رضا/ محمد فواز؟ وإلى أي وطن ينتمي؟

العرض المسرحي

كتب فواز مسرحيته "على الطريق... إلى" بالفرنسية (Roda Fawaz, On the road…A) وعرضها عام 2016 ونال عنها جائزة النقد البلجيكية عن فئة "أفضل عمل مكتشف"، ثم نال جائزة أخرى عام 2017 وهي الجائزة التي تقدمها المفوضية الفرنسية في منطقة بروكسل (COCOF)، لينال عام 2021 جائزة جديدة من مؤسسة الكتاب وكتاب الدراما في بلجيكا (SACD). وهذا العمل الذي أخرجه البلجيكي إريك دو ستارك يأتي أخيراً ليعرض على خشبة مسرح مونو في بيروت، بعد أن تم عرضه على خشبات مسارح بلجيكا وفرنسا وسويسرا على مدى أربعة أعوام. وهو أيضاً موجود في كتاب يحمل العنوان نفسه ويقدم نص العمل بكامله.

ويتناول العرض غربة فواز وعدم انتمائه إلى أي مدينة وإلى أي لغة وبحثه عن هويته بين البلدان التي عاش فيها أو عرفها أو انتمى إليها. فهو في بلجيكا غريب من أصل عربي، وفي غينيا التي نشأ فيها صار "الأبيض" الآتي من الغرب، وفي فرنسا هو البلجيكي اللهجة واللغة، وفي لبنان هو الأوروبي الآتي من الغرب. لا ينتمي فواز إلى أي عرق ولا أي لغة، ففي كل مدينة ينسبونه إلى مدينة أخرى ليختار هو بنفسه أن يكون إيطالياً في سنوات فتوته رغبة منه في دخول أجمل السهرات والتعرف إلى أناس جدد.

بنوع من الرغبة في الإفصاح إنما الإضحاك أيضاً، يقدم فواز عرضه ببراعة وتماسك. ببنطاله الأحمر وقميصه الأبيض البسيطين اللذين يشبهان ملابس البيت المريحة يقدم فواز عرضاً بانورامياً حميمياً دافئاً عن حياته منذ ولادته إلى تاريخه الحاضر. فيعود إلى ولادته فنشأته فإقامته في بلجيكا فتوجهه إلى فرنسا مع تفصيل لصداقاته وعلاقاته وقصصه. يقدم فواز عرضاً يكاد يناهز الساعة ونصف الساعة لا يتعب فيها ولا يتوتر ولا يخسر تركيزه بتاتاً كما أن النص لا يسقط في أي لحظة بالملل أو بالرتابة، ففواز ينتقل من مدينة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر ومن هوية إلى أخرى ببراعة وحنكة وعمق.

عدا عن النص القوي الذكي، تأتي تأدية فواز دوره لتضيف مزيداً من الجمالية على العرض. ففواز يؤدي أدواراً وأصواتاً وشخصيات كثيرة ومختلفة ببراعة وسلاسة يحسد عليهما. ينتقل من تأدية دوره إلى تأدية أدوار أصدقائه وأمه وأقربائه ووالده وكل من يلتقيهم من أساتذة وأناس بكل سهولة وبراعة. يحتل فواز خشبة المسرح ويسيطر عليها ويحولها إلى ملعبه وملعب شخصياته، حتى إنه يقيم حوارات سريعة مقتضبة بين شخصيات متعددة ملتزماً خصائص كل شخصية بسلاسة عالية.

بين الأب والصديق الوهمي

إلى جانب الصراع الداخلي الذي يعيشه فواز مع هويته، يكتشف الجمهور العلاقة غير الموجودة بالأب، هذا الأب الغائب إنما الحاضر بصوته وبالأحجيات التي يجيب بها ابنه. يتوق فواز إلى حضور الأب، لكن الأب غائب، هو في سفر دائم، لا نراه ولا نعرف عنه شيئاً ولا يساعد فواز في شيء وهو عندما يقدم نصيحة لابنه إنما يقدم له ألغازاً لا تفهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يلاحظ الجمهور أن فواز يلجأ إلى والده دوماً، يبحث عنه، يخبره أخباره، يحاول أن يتواصل معه بأي طريقة. يمثل الأب برمزيته هنا الأصول والتاريخ والجذور، فرحلة البحث عن الأب الغائب إنما هي رحلة البحث عن الجذور. ويبدو أن الأب ليس في غينيا ولا في لبنان ولا وسيلة للقائه، فهل من وسيلة لإيجاد الهوية الضائعة؟ كيف السبيل للقاء الأب وللقاء الهوية؟ ولماذا هذا الغياب القاسي؟

الأم نفسها بدورها الهامشي تبدو عاجزة، فعلى رغم أنها تملك بعض السلطة على ابنها بملعقتها الخشبية، يبقى دورها ثانوياً في ظل هالة الأب الغائب إنما الحاضر بصوته فحسب. ليظهر الصديق الوهمي "سلينكي" ليحل محل الصديق والأب والأم والمرشد. "سلينكي" هو الصديق الذي يطبطب على فواز ويهدهد مخاوفه، هو الشريك الذي يرافق الممثل في مغامراته وهو النصيح الذي يبقى معه ويوجهه منذ صغره ولغاية النهاية. يرافق "سلينكي" الوهمي بطرافته وخفته وسرعة بديهته فواز ويشجعه على خوض المصاعب كلها والمواقف كلها، فهل يكفي اللجوء إلى صديق وهمي لحل معضلة الانتماء وغياب الأب والرحيل الدائم عن المدن؟

"على الطريق... إلى" عرض متماسك يقدمه فواز ببراعة للجمهور اللبناني الملوع بشدة من قصص الهجرة والغربة والوحدة والتنقل بين المدن. لحظات تساؤل وعودة إلى الذات وتفكير عميق في العلاقة بالمدن والرحيل يقدمها فواز ويتركها معلقة منهكة، تماماً كما يجب للفن أن يفعل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة