Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما أسس يوجين أونيل المسرح الأميركي سورياليا قبل السورياليين

"مأساة الرجل الزنجي" في "الإمبراطور جونز": مقتل الحاكم العادل في غابات مريعة

يوجين أونيل (1888 – 1953) (غيتي)

ملخص

تعتبر مسرحية "الإمبراطور جونز" من أقصر مسرحيات الكاتب الأميركي يوجين أونيل، لكنها في الوقت نفسه واحدة من أقواها كتبها عام 1920 لتعتبر عملاً ملحمياً يكشف في ثماني لوحات عما اعتبره النقاد في ذلك الزمن "مأساة الزنجي الأميركي"

هو حوار مسرحي ختم في عام 1920 واحدة من الأعمال المسرحية التي لم يكن أحد سيتصور أنها ستفتتح ما سيسمى لاحقاً بالمسرح السوريالي قبل ولادة هذا المسرح في أوروبا بسنوات طويلة. ويقول الحوار الذي ينطلق وينتهي كاللهاث الهاذي: "لقد قبضنا عليه... لقد مات" - "من أدراك أنه هو، وكيف تعلم إنه مات؟" - "لقد حصل رجالي على رصاص فضي. الرصاص العادي لا يقتله. إنه يتحصن بسحر قوي، لقد حصلت لهم على النقود، وصنعوا الرصاص الفضي والتعويذة السحرية الفاعلة أيضاً" - "إذاً، هذا ما كنتم تفعلونه طوال الليل، أليس كذلك؟ لقد كنتم تخشون مطاردته حتى تصنعوا الرصاص الفضي، أليس كذلك؟" - "فعلاً، إن الرصاص العادي لا يؤثر فيه. إنه محصن بسحر قوي" -  "إيه؟ إيه... إنك لن تصل إليه. إنني أراهن أن الذي أطلق النار عليه هو شخص آخر أيها الأحمق" - "سيأتون به الآن. هذا جزاؤك يا جونز يا بني! إنك ميت كالسمكة. أين كبرياؤك وجبروتك؟ وأين عظمتك؟ الرصاص الفضي يا إلهي. - يا إلهي. إنه... لكنك ميت على أحسن ما يكون الموت، على أية حال!".

بهذه المفاجأة وهذا الحوار يختتم الكاتب المسرحي الأميركي يوجين أونيل واحدة من أقصر مسرحياته، لكنها في الوقت نفسه واحدة من أقوى هذه المسرحيات: "الإمبراطور جونز" (التي استقينا بعض حوارها هنا من الترجمة التي صدرت قبل ما يقرب من نصف قرن ضمن إطار السلسلة المسرحية التي كان يصدرها المجلس القومي للثقافة والفنون في الكويت).

مأساة الزنجي الأميركي

هذه المسرحية كتبها أونيل عام 1920 لتعتبر في رأي الباحثين واحدة من أهم تجاربه التعبيرية، والمسرحية هذه تعتبر في الوقت نفسه عملاً ملحمياً يكشف في ثماني لوحات عما اعتبره النقاد في ذلك الزمن "مأساة الزنجي الأميركي". وهذا الموضوع يتجلى لنا من خلال حكاية الزنجي بروتوس جونز الذي نعرف منذ اللوحة الأولى أنه فر من السجن الذي كان معتقلاً فيه إلى إحدى جزر الهند الشرقية، إذ تمكن من أن يصبح إمبراطوراً هناك.
من هنا إذاً، اسمه واسم المسرحية "الإمبراطور جونز". وكان يمكن جونز هذا أن يعيش في راحة وأمان في إمبراطوريته هذه، هو الذي ما أن "اعتلى العرش" حتى راح يستغل الثروات القومية بقدر كبير من العقلانية التي حققت له رضا الشعب عنه. بيد أن الأوضاع "الدولية" كانت له في المرصاد وبدأت تحرك ثورة ضده. وإذ سمع معلمه السابق الأميركي سميزرز بهذا، يتوجه إلى الجزيرة وكله أمل بأنه عبر التسلل إلى "القصر الإمبراطوري" سيتمكن من استغلال الثورة التي باتت في الأفق، وفقاً لمصالحه، خصوصاً أنه خيل إليه أن إرهاصات تلك الثورة ستربك جونز وتجعله في حاجة إليه، لكن الحقيقة هي أن ما يحدث لا يربك جونز أبداً... إذ ها هو يواصل حياته وسيطرته وضروب استغلاله وكأن شيئاً لم يكن. بل إنه، إذ كان توقع حدوث ما سيحدث، جهز لهربه منذ زمن بعيد، إذ إنه ما إن تندلع الثورة حتى يبدأ الهرب عبر الشاطئ واصلاً إلى جزيرة آمنة من جزر المارتينيك.

مطاردة قاتلة

وبالفعل يتمكن جونز بتلك الطريقة من النفاذ بجلده ويختبئ في واحدة من غابات الجزيرة، ومنذ تلك اللحظة تبدأ عمليات مطاردته للقبض عليه والتخلص منه. ومن ضمن هذه العمليات تلك التي تمارس من طريق بعض الشخصيات الهذيانية الصامتة التي تنتقل وتتحرك كالبشر الآليين، لأنها في الحقيقة ليست سوى الصورة المجسدة المستنسخة لجونز نفسه. وغايتها أن تدفعه إلى الهلوسة حتى يستسلم لمطارديه. والحال أننا منذ تلك اللحظة وصاعداً، وفي كل لوحة من اللوحات سنجدنا في مواجهة جونز الذي بدوره يواجه تلك الشخصيات في لعبة سوريالية ينظر إليها النقاد عادة على أنها أحد أروع ابتكارات يوجين أونيل في مجال الحداثة المسرحية. إذ هنا، في هذه اللوحات المتعاقبة، نصبح وكأننا في مواجهة مشاهد راقصة، تدور داخل عقل جونز نفسه، وهو مع كل مشهد من المشاهد يبدو واضحاً أنه يقترب أكثر وأكثر من نهايته، وهي النهاية تتطابق في الحقيقة مع إمعانه في سلوك درب الوعي الداخلي بما حدث له وبما سيحدث.
ذلك أن جونز في عالم الهلوسة التي يعيشها هنا، يبدأ بعبور الزمن متراجعاً، في مسار منه سيقوده إلى الزمن الجماعي الخاص بالعرق الذي تحدر منه. وهكذا نجده مع الرجل الذي كان هو قتله، مما جعله أصلاً يوضع في المعتقل. وبعد ذلك نراه وسط مسيرة أجداده نحو العبودية حين ابتيعوا من جانب تجار العبيد، ثم نراه مع أبناء جلدته على متن المركب الذي قادهم من موطنهم الأصلي إلى القارة الجديدة. ومن هنا نعود مبحرين أكثر وأكثر في الزمن لنجدنا داخل الغابة التي كانت الوطن الأصلي للزنوج الذين حولوا إلى عبيد، وهناك في الغابة نجدنا وسط مشهد تبجيل طقوسي رائع وأصيل.

هذيان صامت
والرائع في هذا كله هو أن كل هذه المشاهد التي تجسد هذه الرحلة عبر الزمن، في هلوساتها كما في معانيها العميقة تظل صامتة من دون أية كلمة. فقط هناك صوت الطبول القارعة، هذه الطبول التي إذ تثير الحنين داخل جونز إلى ماض لا يكاد أصلاً يعرف عنه شيئاً، تثير لديه الخوف في الوقت نفسه. وهو أمام خوفه، وفي حال تبدو وكأنها نابعة من تحرك لا إرادي، يقوم بين لوحة وأخرى بانتزاع ثيابه قطعة وراء قطعة حتى يصبح في نهاية الأمر شبه عار، مما يمثل عودة "الإمبراطور" من حالته هذه - التي صنعتها ثيابه - إلى حالته الزنجية الأصيلة. لقد انتصر الزنجي فيه على الإمبراطور، حتى وإن كان هو قد عجز عن إدراك فحوى هذا الانتصار تماماً.
فما فحواه؟ في كل بساطة وكما يمكن أن يستنتج كل قارئ أو مشاهد لهذه المسرحية بعمق: إذا كان الهرب في الماضي ناسب "الإمبراطور"، فإنه هنا يبدو غير مناسب على الإطلاق لـ"الزنجي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قربان للخلاص
ومن هنا يبقى على هذا الأخير أن يرتكب فعلاً أخيراً: عليه أن يقدم "الإمبراطور" قرباناً من أجل خلاص "الزنجي". فإنجاز ذات هذا الزنجي لن يكون ممكناً من دون أن يموت الإمبراطور... وتحديداً على أيدي أتباعه ورعاياه. وهكذا ينتهي الإمبراطور جونز، كما شاهدنا في المشهد الأخير، من دون أن نعرف ما إذا كان أنهى معه "أناه - الآخر" أي الزنجي جونز؟ حتى وإن كان من الصعب أن نقول إن مسرحية "الإمبراطور جونز" هذه تعتبر من الأعمال ذات النهايات المفتوحة.
لكن في إمكاننا أن نقول، مع معظم دارسي مسرح يوجين أونيل (1888-1953) إن هذه المسرحية تعتبر الأكثر اكتمالاً بين أعماله، وتحديداً من ناحيتي الشكل الفني والمضمون السياسي. بل إن هذه المسرحية هي العمل الذي يبدو فيه بكل وضوح دين أونيل إزاء الكاتب السويدي التعبيري الكبير أوغست سترندبرغ (1849-1912)، كما أن هذه المسرحية نفسها تكشف دين أونيل على كثير من كتاب النصف الأول من القرن الـ20، من أمثال الدوس هاكسلي الذي يوجد تشابه كبير بين روايته الكبرى "عالم جديد شجاع" وبين "الإمبراطور جونز".

مؤسس المسرح الأميركي
يوجين أونيل، الذي عرف أيضاً بصفته والد زوجة تشارلي شابلن الأخيرة أونا، هو المؤسس الحقيقي للمسرح الأميركي في القرن الـ20 ورائد في المجال الإبداعي الذي سيخوض فيه على خطاه معظم كتاب المسرح في النصف الأول من القرن الـ20 في الولايات المتحدة الأميركية كما في القارة الأوروبية من أمثال تنيسي ويليامز وآرثر ميلر، وصولاً حتى إلى إدوارد آلبي وكليفورد أوديتس، وإن كان معظم هؤلاء إذ استلهموا قوة مواضيعه ومشاكستها على الواقع الاجتماعي عرفوا كيف ينأون في المقابل عن تعبيريته التي سيكون برتولد بريخت في مرحلته الأولى واحداً من ورثتها الكبار. وعرف يوجين أونيل على أية حال بتجريبيته المبتكرة، كما بمضامين مسرحياته التي كانت غالباً ما تسير عكس التيار وسط مناخ مسرحي أميركي كان محافظاً في زمنه، ومن أهم مسرحيات أونيل "رغبة تحت شجر الدردار" و"القرد الكثيف الشعر" و"رحلة الليل الطويلة إلى النهار" و"الاتجاه شرقاً إلى كارديف"... وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة