ملخص
مع ازدياد انتشار الهجمات عبر الإنترنت وتنامي ضررها بفضل التقدم السريع للذكاء الاصطناعي، بات على قادة الحكومات والأحزاب السياسية التصرف على نحو حاسم لوقف وباء العنف المستشري ضد المرأة وإصدار قوانين تطالب شركات التكنولوجيا بمكافحة الكراهية والعنف عبر الإنترنت
تجري هذا العام انتخابات وطنية في دول يبلغ مجموع سكانها نصف سكان العالم. لكن بدلاً من أن يكون الأمر انتصاراً للديمقراطية، تأتي النتائج مشيرة إلى مشهد أكثر قتامة. فالناخبون في بلدان عدة توافدوا إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أو تجديد انتخاب شعبويين سلطويين. والأخيرون حققوا هذا العام انتصارات في بعض أكبر دول العالم، منها الهند وإندونيسيا وروسيا. كما تأتي تلك الانتصارات عقب أخرى حققها شعبويون العام الماضي في كل من الأرجنتين وتركيا.
واليوم، يعيش أكثر من 70 في المئة من سكان العالم تحت حكم استبدادي، فيما الأقلية من حكومات العالم تعدّ حكومات ديمقراطية، وفق التقرير السنوي الأحدث الذي أصدره معهد "في - ديم" (V-Dem) الذي يقوم بدراسة الديمقراطيات في العالم. لكن ما لا يكشف عنه التقرير المذكور هو أن مكوناً رئيساً من تلك الهجمة على الديمقراطية يتمثل في استهداف القيادات السياسية النسائية وحقوق النساء من قبل متطرفي أقصى اليمين وشعبويين منتخبين يمثلون طليعة المسار المتراجع الذي تسلكه الديمقراطية.
طوال ثلاثة عقود، كانت حصة النساء المشرّعات في جميع أنحاء العالم تتزايد بفضل الحصص المفروضة في عدد من البلدان، إلا أن معدل النمو ذلك توقف خلال العامين الماضيين، وهو المؤشر الذي وصفته غيتا رايو غوبتا، السفيرة الأميركية العامة لقضايا المرأة العالمية، بـ"المرعب". النساء اليوم يشغلن فقط 27 في المئة من مقاعد التشريع في العالم. حتى إن هناك أيضاً مؤشراً أكثر وضوحاً إلى سياق التراجع في هذا المنحى، وهو أن عدد النساء اللواتي يتزعمن بلادهن هوى على نحو حاد خلال العام الماضي.
ذلك التراجع من ناحية التمثيل يمكن تفسيره جزئياً عبر رده إلى مظاهر التهديدات والعنف التي تواجهها السياسيات في المجالين الافتراضي والواقعي. فوفقاً للاتحاد البرلماني الدولي، وهو منظمة دولية للبرلمانات الوطنية، فإن ما يقارب نصف المشرّعات تلقين تهديدات بالعنف، وهن أكثر عرضة للاستهداف بسبب هويتهن الجندرية مقارنة بالرجال. أما مشروعا "موقع النزاع المسلح" (Armed Conflict Location) و"بيانات الحوادث" (Event Data) اللذان يتعقبان النزاعات، فسجلا، منذ أن بدآ بجمع البيانات والمعلومات عام 2019، تصاعداً دولياً بمعدلات وحوادث العنف الجسدي ضد النساء السياسيات، أو المشتغلات بالسياسة. على سبيل المثال، تشمل الحوادث البارزة في الولايات المتحدة اقتحام منزل رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي والاعتداء على زوجها (كان المهاجم ساعياً إلى استهدافها)، ومحاولة اختطاف حاكمة ولاية ميشيغان غريتشين ويتمير عام 2020. غالباً ما تبدأ مثل هذه الهجمات وتتطور في بيئات الإنترنت [حيث قد يشعر الأفراد في البداية بالجرأة بسبب عدم الكشف عن هويتهم وعدم وجود عواقب فورية]. ومع ذلك، لم تعُد هذه الهجمات تقتصر على أجزاء غامضة أو أقل شهرة من الإنترنت. فأصبح انتشار الكراهية عبر الإنترنت منتشراً على نطاق واسع وأكثر وضوحاً، إذ تغلغل في المنصات الرئيسة والخطاب العام. ويرجع هذا التحول جزئياً إلى حقيقة أن السياسيين اليمينيين والشخصيات الإعلامية في الولايات المتحدة ودول أخرى يؤيدون ويروجون بصورة متزايدة لوجهات النظر المتطرفة.
ومع ازدياد انتشار الهجمات عبر الإنترنت وتنامي ضررها بفضل التقدم السريع للذكاء الاصطناعي، بات على قادة الحكومات والأحزاب السياسية التصرف على نحو حاسم لوقف وباء العنف المستشري ضد المرأة وإصدار قوانين تطالب شركات التكنولوجيا بمكافحة الكراهية والعنف عبر الإنترنت. كذلك بات على أولئك القادة والمسؤولين دحض الخرافات القائلة إن المرأة لا يمكنها قيادة البلدان بنفس كفاءة الرجال. وينبغي من هذه التدابير والقوانين أن تقترن، على نحو واسع النطاق، بتجديد الالتزام بالحقوق السياسية والمدنية للجميع، وهي الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية التشاركية والتمثيلية الكاملة.
خارج المناصب
إن نسبة النساء المنتخبات في مناصب حكومية هي أحد المؤشرات الدالة على صحة أي ديمقراطية في العالم لأن النساء يشكلن نصف سكان عالمنا وينبغي أن يحصلن على كامل الحقوق ومظاهر التمثيل. إلا أنه وبعد عقود من التقدم المطّرد في هذا الإطار، شهد عدد النساء اللواتي يتزعمن دولاً أو يترأسن حكومات في 195 بلداً، تراجعاً من 38 منصباً عام 2023 إلى 27 اليوم. وقدمت نساء قائدات في كل من فنلندا وهولندا ونيوزيلندا وسلوفاكيا واسكتلندا استقالتهن، أو اخترن عدم الترشح من جديد للانتخابات.
كما أن امرأة من أصل ست برلمانيات حول العالم يغادرن منصبهن قبل انتهاء المدد الدستورية، وفق "الاتحاد البرلماني الدولي". وأيضاً هذا العام في الولايات المتحدة الأميركية قررت 14 سيدة من أعضاء الكونغرس عدم الترشح لولاية جديدة، مما عُدّ رقماً قياسياً جديداً في معدل النساء اللواتي يغادرن مناصبهن. وبحسب "مركز المرأة والسياسة الأميركية" Center for American Women and Politics انخفض عدد المرشحات المحتملات لتقلد المناصب بنسبة 21 في المئة منذ عام 2022، عندما كان إجمالي عدد المرشحات 513 سيدة. وتبقى الإحصاءات الدولية المتعلقة بمعدلات ترشح النساء غير مكتملة، إلا أن راو غوبتا ومسؤولين من حكومات أخرى في العالم يفيدون بأن النساء اللواتي يلتقين بهن في بلدان مختلفة بتن يتجنبن المناصب السياسية بسبب وابل التهديدات العنيفة والإساءات عبر الإنترنت ومظاهر سوء معاملة. وتظهر دراسات أن النساء اللواتي يتولين مناصب حكومية ومحلية يتعرضن أكثر من الرجال، بثلاثة إلى أربعة أضعاف، لمضايقات مرتبطة بهويتهن الجندرية، وعلى المستوى الوطني تتزايد مظاهر سوء المعاملة والتهديدات المفرطة بحق النساء كلما ارتفع المنصب الذي يتقلدنه.
في هذا الإطار، تضاعفت التهديدات العنيفة ضد رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة، ياسيندا أرديرن، بسرعة خلال فترة ولايتها. طاردها المتظاهرون. وتعرّضت للتهديد بالاغتيال والاغتصاب، وتعرضت كذلك عائلتها للتهديد أيضاً. خلال تلك الفترة، تتبعت جامعة أوكلاند زيادة في الإساءات والتهديدات عبر الإنترنت ضد أعضاء البرلمان، لكن أرديرن عانت حجماً أكبر من 50 إلى 90 مرة من الشخصيات البارزة الأخرى. لا عجب أنها استقالت، على رغم شعبيتها الواسعة. وقالت حينها إنه "لم يعُد لديها ما يكفي من طاقة" (للاستمرار).
أرديرن لم تكُن أبداً الزعيمة الوحيدة التي واجهت مستوى غير معقول من التهديدات. فاستقالت نائبة رئيس الوزراء الهولندي سيغريد كاغ التي كانت تحت حماية مشددة من الشرطة بسبب تهديدات بالقتل، بعد أن توسلت إليها بناتها علناً أن تفعل ذلك خوفاً من أن تُقتل. واستقالت سانا مارين، أصغر رئيسة وزراء في فنلندا وثالث امرأة تشغل هذا المنصب، بعد فوزها في إعادة انتخابها، بعد ابتزازها بمقطع فيديو لها وهي ترقص في حفل خاص. ووجدت دراسة أجراها حلف شمال الأطلسي (الناتو) على حكومتها أن غالبية الوزيرات تعرضن لهجمات على الإنترنت بلغت 10 أضعاف الهجمات التي تعرض لها الوزراء الذكور.
أما في سلوفاكيا، فرفضت الرئيسة زوزانا كابوتوفا المناهضة للفساد، خوض معركة إعادة انتخابها على رغم شعبيتها الكبيرة. حتى في البلدان التقدمية في أوروبا، هناك رد فعل عنيف ضد المرأة. وفي مؤشر معبّر عن المرحلة التي نمر بها فاز الحزب اليميني المتطرف الذي يقوده خيرت فيلدرز في هولندا بأكثرية الأصوات الانتخابية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وفيلدرز هذا الذي كان غير مقبولٍ في الماضي، يتهيأ لتأليف حكومة ائتلافية مع حزب رئيس الوزراء الأسبق مارك روته الذي يتوقع أن يصبح الأمين العام الجديد لـ"الناتو" [تشكلت بالفعل قبل أيام حكومة جديدة في هولندا برئاسة ديك سخوف وهي حكومة ائتلافية بين حزب فيلدرز وأحزاب أخرى].
النساء اليوم يشغلن فقط 27 في المئة من المقاعد التشريعية في العالم
وكذلك ثمة نساء قمن بدور في هذا التراجع الديمقراطي وفي الاعتداءات التي تتعرض لها النساء. فالنساء بوسعهن أيضاً ممارسة الاستبداد والتحرك بدوافع من قضايا ومصالح مختلفة. فقد فازت رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة بفترة ولاية رابعة على التوالي في يناير (كانون الثاني) الماضي، وهي التي سجنت خصمها الأول وأُجريت انتخابات مشكوك في نزاهتها خلال معظم فترة ولايتها. كما أن هناك قيادات نسائية أيضاً عملت على دعم الرجال الذين يقودون حكومات استبدادية ونساء يتزعمن بعض أحزاب اليمين المتطرف التي حققت مكاسب في أوروبا، حيث تجتذب دعاوى معاداة الهجرة والنازية الجديدة والتشكيك في الاتحاد الأوروبي، أصوات الناخبين. فـ"التجمع الوطني"، الحزب الفاشي الجديد في فرنسا، فاز بـ31.5 في المئة من الأصوات بانتخابات الاتحاد الأوروبي في مطلع يونيو (حزيران) الماضي، مما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للدعوة إلى إجراء انتخابات وطنية مبكرة. مارين لوبن، زعيمة "التجمع الوطني"، عملت على تلطيف وجهات النظر الشعبوية الأكثر تطرفاً التي كان يعتمدها والدها مؤسس الحزب، حتى إنها صوتت لمصلحة التعديل الدستوري الأخير لتشريع الإجهاض (لتحقيق مكاسب شعبية في فرنسا). أما الحكومة الإيطالية التي تقودها جورجيا ميلوني والتي يتمتع حزبها أيضاً بجذور فاشية على رغم أنها أظهرت سلوكاً متناقضاً.
الحقيقة هي أن النساء السياسيات يحملن وجهات نظر تغطي الطيف السياسي بأكمله، فبعض النساء لا يعارضن الحركة النسوية فحسب، بل يتحيزن ضد المرأة مثل الرجال. ومع ذلك، فإن الاتجاهات الواسعة لتصاعد الاستبداد وكراهية النساء يرتكبها إلى حد كبير الرجال الذين يستحوذون على غالبية السلطة في جميع أنحاء العالم وحقيقة انضمام بعض النساء إلى الجانب المتطرف من هذا الطيف لا يغير من مناخ العداوة الذي تواجهه المرأة.
خسارة المواقع
تشكل الشعبية المتزايدة لأحزاب اليمين السياسي في أوروبا وأمكنة أخرى من العالم تهديداً للنساء والديمقراطية، إذ يقوم السياسيون الشعبويون وعلى نحو صريح بمهاجمة النسوية والمساواة الجندرية، أو يبطنون مواقفهم الرجعية هذه بدعاوى استعادة "القيم العائلية التقليدية". ومع وصولهم إلى السلطة يقدِم أولئك القادة على تخفيض ما تقدمه الحكومة من مصادر تمويل ودعم للمساواة الجندرية والحقوق المتساوية، بما في ذلك حق الإجهاض. وفي هذا الإطار قام فيكتور أوربان في المجر بمزاوجة السياسات المعادية للهجرة التي يعتمدها بتدابير تلغي المساواة الجندرية. وحظر الدراسات الجندرية في المدارس وحل المرجعيات الحكومية المعنية بمسألة المساواة. ويرى أوربان أن دور المرأة الأساس والمحوري يتمثل في الأمومة وأن لديها أيضاً مهمة وطنية هي إنقاذ الأمة من المهاجرين.
وحتى عندما يطيح الناخبون بأحزاب اليمين المتطرف، كما حدث في بولندا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإن استمرار تأثير تلك الأحزاب يعوق محاولات استعادة الحقوق وتغيير السياسات. مثلاً، خلال فترة حكمه التي دامت ثمانية أعوام، أقدم "حزب القانون والعدالة" في بولندا على فرض قيود شديدة على حقوق الإجهاض واستقلالية القضاء، من بين تدابير أخرى، بيد أن الحكومة الجديدة لم تتمكن من استعادة تلك الحقوق. كما تبنت أحزاب محافظة في أماكن مختلفة من وسط أوروبا وشرقها التوجهات المناوئة للإجهاض والمساواة الجندرية. فجمهورية التشيك كانت المثال الأحدث من بين ست دول أوروبية أخرى فشلت برلماناتها في التصديق على "اتفاقية إسطنبول" التي تلزم الدول الموقعة عليها مكافحة العنف النابع من التمييز الجنسي وتعزيز المساواة الجندرية. وقادت تركيا تحت حكم الزعيم السلطوي رجب طيب إردوغان الهجوم على هذه الاتفاقية التاريخية عبر الانسحاب منها عام 2021، بعد عقد من قيام تركيا بالتوقيع والتصديق عليها قبل أي بلد آخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على أن التراجع الحاصل اليوم في إطار حقوق النساء لا يقتصر على أوروبا. فقد جرى انتخاب رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول من خلال مناشدته الصريحة للشباب الذين يعتقدون بأن مستقبلهم تضرر بسبب الحركة النسوية. ووعد يون في هذا الإطار بإلغاء "وزارة المساواة الجندرية والعائلية"، نافياً وجود أي "تمييز جندري بنيوي" في البلاد، على رغم تصنيف كوريا الجنوبية في المرتبة الـ 105 من أصل 146 بلداً في العالم بمؤشر الفجوة بين الجنسين الذي وضعه "منتدى الاقتصاد العالمي". أما الأرجنتين التي تصدرت ذات مرة أميركا الجنوبية في مجال حقوق النساء، فذهبت باتجاه معاكس عندما انتخبت خافيير ميلي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي،إذ بعد ثلاثة أيام من تنصيبه رئيساً، قام الرئيس الأرجنتيني الجديد بإلغاء "وزارة المرأة والجندر والتنوع"، وهو يسعى إلى إلغاء قانونية الإجهاض التي تعتمدها البلاد منذ عام 2020.
من الشبكة المظلمة إلى البيت الأبيض
هناك عاملان دفعا إلى تراجع الديمقراطية وإلى ما يوازيه من هجوم على حقوق المرأة: وصول اليمين المتطرف إلى مشهد الحياة السياسية السائد وحضور الإنترنت المتواصل والمتزايد والمتحرر من كل قيد، حيث تنافس تداعيات وتأثيرات الحياة الافتراضية، وقائع ومجريات الحياة الحقيقية. مع انتقال التطرف اليميني إلى المشهد السياسي السائد في الولايات المتحدة وأمكنة أخرى، تغدو دعاوى هذا اليمين العنصرية ومعاداته للسامية وكرهه للأجانب نقاطاً تركّز عليها عادةً التغطيات الإعلامية. وفي كثير من الأحيان لا تحظى عناصره الأساسية المتمثلة في كراهية النساء العنيفة وتفوق الذكور إلا بقليل من الاهتمام. كذلك يوصف في العادة المتطرفون العنيفون بأنهم نازيون جدد وعنصريون بيض وكارهون للإسلام من دون الإشارة إلى الدور المركزي الذي تقوم به السيطرة على المرأة وقمعها والعنف ضدها في نظرتهم للعالم.
إلا أن الرابط بين المظاهر المذكورة والتطرف اليميني واضح للمتابعين. فقد اكتسب أندرس بريفيك وبرينتون تارانت اللذان يحتلان موقعاً طليعياً ضمن موجة التطرف اليميني المعاصر، سمعة سيئة بعد تنفيذهما تباعاً عمليات قتل جماعي في النرويج ونيوزيلندا عامي 2011 و2019. وأظهر البيان الذي تركه كل منهما ونشرا بالتزامن مع هجومهما، أفكارهما بوضوح. بريفيك الذي قتل 77 شخصاً في تفجير وإطلاق نار، ندد بالحركة النسوية وقال إنه استهدف بهجومه عام 2011 قتل أول أمرأة تترأس الحكومة في النرويج، وهي الرائدة النسوية غرو هارلم برانتلاند. أما تارانت، المتعصب الأبيض الذي قتل 51 شخصاً في مسجدين بنيوزيلندا فكتب بياناً بعنوان "الاستبدال العظيم"، افتتحه بتعويذة تلخص هاجسه: "إنه معدل الولادات. إنه معدل الولادات. إنه معدل الولادات". كلمات تارانت تلك تستحضر نظرية مؤامرة يؤمن بها دعاة التفوق الأبيض التي اكتسبت زخماً على الإنترنت بعد أن صاغها كاتب فرنسي عام 2011. وتعود فكرة اسبتدال الشعوب البيضاء بشعوب ملونة، لأيديولوجيا عنصرية ومعادية للسامية، إلا أنها أيضاً وبالمقدار عينه فكرة "ميزوجينية" (كارهة للنساء)، وفق تعبير المؤرخة كاثلين بيلو (Kathleen Belew)، وذلك في إطار السعي إلى معاقبة النساء والتحكم بهن، كونهن، بحسب هذا التفكير، العامل الأساس في "إبادة الشعوب البيضاء". ومعتنقو هذه النظرية لا يبررون العنف والاستبعاد بحق الملونين فحسب، بل يلومون النساء كذلك على الاختلاط بأجناس أخرى وعدم الإنجاب (من العرق الأبيض) بمعدلات كافية. وتتمثل وصفة أولئك المتعصبين لمعالجة هذا الأمر في حظر الإجهاض ومعارضة زواج المثليين وتشجيع الزواج التقليدي وحض البيض على الإنجاب – إلى جانب سياسات معادية للمهاجرين والإسلام. وخلف دعاوى "قيم العائلة التقليدية" التي يرفعها عدد من الأحزاب اليمينية ثمة أجندة تهدف إلى تشجيع الإنجاب (في أوساط البيض طبعاً). في فرنسا هناك "حزب الاسترداد" Reconquete وهو على يمين حزب "التجمع الوطني" الذي تتزعمه لوبن. وكما يوحي اسم الحزب، فإن مؤسسه إريك زيمور يتبنى نظرية الاستبدال ودعاوى الحض على الإنجاب التي نادى بها جان ماري لوبن (الذي عدّ الإجهاض "إبادة بحق الفرنسيين")، مطلقاً إطاراً معادياً للنسوية يدعو النساء إلى تشكيل غالبية جديدة عمادها فرنسيون من العرق الأبيض.
في الولايات المتحدة، كانت نظرية الاستبدال تنتشر في الغالب بين مجموعات متفرقة من الأشخاص وفي زوايا مظلمة على شبكة الإنترنت عموماً. إلا أن الخطاب المتطرف الذي يزداد انتشاراً عبر شخصيات لها حضورها في الإعلام والسياسة الأميركية السائدة، راح يطرحها على نطاق أوسع. وقام المذيع السابق في "فوكس نيوز" تاكر كارلسون بتطوير نظرية الاستبدال، مروجاً فكرة أن الحزب الديمقراطي سعى إلى استخدام المهاجرين والملونين لإضعاف قوة البيض الانتخابية. "التغير الديموغرافي يشكل العنصر الأساس في طموحات الحزب الديمقراطي السياسية"، قال كارلسون عام 2021. وبموازاة ذلك قام أعضاء الكونغرس ومسؤولو الحكومة من الحزب الجمهوري باستحضار مزاعم نظرية الاستبدال أيضاً، كما حظي في السياق نائب حاكم ولاية كارولاينا الشمالية ومرشح الحزب الجمهوري لحاكمية هذه الولاية، مارك روبنسون، بتأييد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على رغم سجله الطويل والحافل بالمواقف العدائية تجاه النساء وضحايا العنف المنزلي.
أكثر من 70 في المئة من سكان العالم اليوم يعيشون تحت حكم سلطوي
وجرى في الإطار ذاته تبني مواقف معادية للنساء على أعلى مستويات الهرم السياسي من قبل شعبويين حطموا المعايير كافة، أمثال ترمب وأوربان والرئيس البرازيلي الأسبق جايير بولسونارو. وأصبح التحيز الجنسي وكراهية النساء في الخطاب اليميني أكثر علانية بصورة مطّردة. وعلى رغم أن بعضاً من أولئك السياسيين تبنى مواقف معادية للنساء ربما بطريقة انتهازية لزرع الانقسام وكسب الاتباع، إلا أنهم في كثير من الحالات يظلون منسجمين مع مواقفهم المتحيزة جنسياً. في حالة ترمب مثلاً، تفاخر بحديث مشهود عام 2005 بـ"التقاط النساء من فروجهن". وهو أيضاً اتخذ قرارات تكتيكية في معارضة حقوق النساء. وترمب الذي سبق وأيد حق الإجهاض، دأب في التودد للقوميين البيض والمسيحيين الإنجيليين كونهم شريحة انتخابية أساسية. وخلال رئاسته أسهمت تعييناته في المحكمة العليا في تمهيد الطريق للانقلاب على حق الإجهاض في الولايات المتحدة – هذا الانقلاب الذي يعدّه ترمب خلال حملته الانتخابية الراهنة واحداً من إنجازاته. وبولسونارو من جهته أعلن أنه سيحارب "الأيديولوجيا الجندرية" ويدافع عن القيم العائلية والمسيحية، توازياً مع نهج أوربان. وجهدت النساء الناشطات لإحباط سعيه إلى الفوز بولاية رئاسية ثانية في البرازيل خلال انتخابات 2022 التي حاول أنصاره الانقلاب على نتائجها عبر تظاهرات عنيفة تشبه إلى حد بعيد ما فعله (أنصار) ترمب في العام الذي سبق. وما زال حزب بولسونارو اليوم يحتفظ بعدد كبير من المقاعد التشريعية ويسعى إلى تقييد حق الإجهاض بعقوبات أشد من تلك المفروضة على جريمة الاغتصاب.
إلى جانب انتشار الأفكار المتطرفة في الخطاب السياسي العام السائد، يجري، وعلى نحو صادم، تطبيع المواقف العنفية والمتحيزة جنسياً واستعراض روتيني للذكورية المقيتة ونكات الاغتصاب. وفي هذا المنحى ثابر بولسونارو حين كان رئيساً على مهاجمة وشتم الصحافيات النساء، فذكر مرة على الملأ أن إحدى المشرعات في البرلمان "لا تستحق" حتى أن تُغتصب. وترمب أيضاً كثيراً ما اعتمد هجمات "ميزوجينية" ونوبات استخفاف لاذعة ومستمرة بحق النساء، خصوصاً اللواتي يرى فيهن خطراً سياسياً. وحين اجتمع الرئيس الأميركي السابق خلال عشاء مع الناشط العنصري الأبيض نك فوينتس عام 2022، جُردت على الفور حملة تناولت مواقف الأخير الداعمة للنازية الجديدة، لكن قلائل انتبهوا إلى الهوية التي يدّعيها الرجل، إذ يعدّ نفسه "بتولاً"، أو عازباً قسرياً. و"البتولون" هم رجال يدعون إلى ممارسة العنف والإخضاع بحق النساء، وهم جزء من جماعة تعرف بـ "المانوسفيريين" (manosphere). تضم هذه الجماعة أو الحركة رجالاً يؤمنون بتفوق جنسهم ويرون أن حقوق الرجال البيض يجري انتهاكها عبر دعاوى المساواة الجندرية وحقوق المهاجرين والزواج العابر للأعراق. وفي إطار متصل غدا التشدد في معاداة النسوية مسلكاً معهوداً في المناسبات السياسية الجمهورية واللقاءات الشبابية، كالتي تنظمها جماعة "تيرنينغ بوينت" (Turning Point) المحافظة التي تعتنق فكرة قائلة إن "على النساء الخضوع لأزواجهن في كل الحالات... إقراراً منهن بقيادة الرجل"، وفق منشور على الموقع الإلكتروني للجماعة المذكورة حمل عنوان "الحرب النسوية لتدمير العالم". وفي لقاء نظم أخيراً بواشنطن من قبل "الشباب الجمهوريين في العاصمة الأميركية"، كان الضيف المميز في الحفل شاب من أنصار ترمب مولود في أستراليا يدعى نك آدامز، وقد روج الأخير خلال كلمته في المناسبة لكتاب ألفه بعنوان "ملوك الألفا" (Alpha Kings)، كما قدم إرشادات في سبل التحكم بالنساء، منبهاً الحضور في السياق من "أن النساء السافلات يأتين للرجل لأمرين: عقله وخصيتيه".
الأمور تتجه إلى مزيد من السوء
إلى هذا، يتزايد دور التكنولوجيا في الهجوم المترادف على الديمقراطية والمرأة. فقد أسهمت الإنترنت في تأمين شبكة تواصل عالمية لمتطرفي اليمين الذين بات بإمكانهم التنسيق في ما بينهم عبر منصات وتطبيقات مراسلة مثل "تيليغرام" و"ديسكورد". والنساء هن أكثر من يتلقين هجمات متعلقة بالهوية الجندرية عبر تصميمات الإنترنت غير المنضبطة، بالدرجة الأولى والتي تنشر وتضخم محتوى مليئاً بالكراهية عبر خوارزميات صممت لزيادة التفاعلات وجذب انتباه الجمهور. وتظهر دراسات متتالية أجريت منذ عام 2016 أن 80 في المئة من النساء المشرّعات (المنتخبات في مجالس التمثيل التشريعية) يتعرضن لهجمات ذات صلة بهويتهن الجندرية، و40 في المئة منهن تلقين تهديدات بالاغتصاب والقتل أو اعتداءات عنيفة أخرى، و25 في المئة تعرضن فعلاً لاعتداءات جسدية.
وخلال اجتماع عقد أخيراً على هامش أنشطة "لجنة الأمم المتحدة المعنية بأوضاع النساء" ذهل مسؤولون من "مايكروسوفت" مما قدمته نساء مشرعات من أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية من شهادات عن تهديدات خطرة تصلهن عبر البريد الإلكتروني مرات عدة كل ساعة. وفي هذا السياق تلت لوسيا نيكولسونوفا، النائبة السابقة لرئيسة البرلمان السلوفاكي، تغريدة مقذعة على منصة "تويتر" (منصة "إكس" اليوم) مصدرها شخص تعهد بإسكاتها وهدد باغتصابها وتشويهها والتنكيل بها ثم قتلها. وسيلفانا كوش ميرين من جهتها، مؤسِسة منظمة "النساء القائدات في السياسة" (Women Political Leaders)، المجموعة التي نظمت الفعالية، أشارت إلى دراسة أظهرت أن المعدل الوسطي لتغريدات الكراهية (ضد نساء سياسيات) قد يصل إلى 2000 تغريدة في الساعة.
ومع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، ازداد إلى حد كبير هذا الأذى الرقمي (على الإنترنت) الذي يمكن أن يكون كارثياً ويتسبب في إنهاء الحياة المهنية لبعض الناس. وثمة في هذا الإطار برامج رقمية متوافرة راهناً أدت إلى انفجار في مجال خلق مواد تزييف عميق، غالبيتها الساحقة مقاطع فيديو بورنوغرافية بطلاتها نساء. كذلك تزايد على نحو هائل إنتاج مواد وصور العري المزيفة بمعدل 290 في المئة منذ عام 2018، وفق الباحثة في هذا المجال جينفييف أوه، وغالباً ما تظهر تلك المواد وجوه مشاهير وسياسيين (سياسيات)، من أمثال عضو مجلس النواب الأميركي ألكساندريا أوكاسيو كورتيز. والنساء هن أكثر من يظهرن في مواد الفيديو والصور والرسائل المزيفة شديدة الواقعية تلك، وهذه المشكلة تزداد سوءاً، إذ باتت هناك تكنولوجيا غامرة جديدة يجري استخدامها في أدوات وأجهزة الواقع الافتراضي، وهي تضع المشاهدين ورواد الألعاب الرقمية أمام مواد أجواؤها شديدة الشبه بالحياة الحقيقية، مما يؤدي إلى انتشار مشاهد اغتصاب مزيفة وهجمات عنفية ذات وقع صادم ومرعب. على أن تأثيرات تسونامي المواد البورنوغرافية والتكنولوجيا الغامرة شديدة الإيحاء الواقعي، لم تحظَ بعد بدرس معمق. غير أن إحدى الدراسات في هذا المجال وجدت علاقة وطيدة ما بين استهلاك مواد البورنو من قبل الشبان في مقتبل العمر، وبين الرغبة في التسلط على النساء.
أما الواضح والجلي في هذا السياق، فهو أن التطرف الراديكالي في سياسات اليمين وقوة التكنولوجيا المسمة، يسهمان في تعزيز ومفاقمة التمييز الجندري المزمن بدلاً من الإسهام في تخفيفه. وتشير الاستطلاعات في هذا المجال إلى أن الأجيال الجديدة من الذكور تظهر دعماً أقل للقضايا النسوية مقارنة بأهلهم. وأظهر استطلاع أجرته "إبسوس" شمل متجاوبين من 31 بلداً أن 60 في المئة من ذكور الجيل "زد" (Generation Z جيل ما بعد الألفية) يعتقدون بأن المساواة الجندرية تمثّل تمييزاً ضدهم، مقارنة بمعدل 43 في المئة من ذكور جيل الطفرة (مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية). هذه المواقف التي تزداد تمييزاً جنسياً إزاء النساء تتضافر مع موانع بنيوية ما زالت تواجهها النساء المشتغلات في السياسة، تتضمن غياب إجازات الرعاية بالأطفال والإجازات العائلية وفوارق الرواتب وتدني فرص بلوغ المراتب الحزبية القيادية. ويكشف تقرير "المسح العالمي للقيم" World Values Survey في أحدث إصداراته عن بنية تحتية محبطة من التحيزات المتينة والمستمرة، الباقية من دون تغيير أو تراجع طوال العقد الماضي. ويرى نصف المشمولين بالدراسة المسحية في هذا التقرير (نساء ورجال) أن الرجال أفضل في تولي القيادة، فقط لأنهم رجال. كذلك وبهوامش أكبر، يرى المشمولون بالمسح أن النساء أقل قدرة على اتخاذ القرارات المصيرية (قرارات الحياة والموت) وهي القدرة التي ينبغي من قادة الحكومات التحلي بها حين يتولون مهمات الأمن القومي والسياسة الخارجية.
هذا الإجحاف ضد النساء في المراكز القيادية ليس خاطئاً فحسب، بل تم دحضه تماماً من قبل نساء هن راهناً رئيسات جمهورية وحكومة، إذ مارست كثيرات منهن قيادة سليمة وشجاعة واستثنائية خلال مواجهة الأزمات. مثلاً، الرئيسة التايوانية لولايتين، تساي إنغ ون، اجتازت بنجاح أفعالاً عدوانية مارستها الصين، فثبتت استقلال تايوان الواقعي عن بكين من دون الإفراط في استعداء القادة الصينيين. أما في إستونيا فساعدت رئيسة الوزراء كايا كالاس في تنسيق وتوحيد مواقف القادة الأوروبيين وسط التهديد غير المسبوق الذي تتعرض له أوروبا. كذلك قامت الرئيسات النساء في كل من جورجيا وكوسوفو ومولدوفا بالدفاع عن بلدانهن بجرأة في مواجهة عدائية وتهديدات روسيا ووكلائها. يوليا نافالنايا من جهتها، زوجة زعيم المعارضة الروسي (الراحل) أليكسي نافالني، باشرت دوراً قيادياً في الحال إثر موت زوجها في سجنه بسيبيريا. وتوازياً تقود البيلاروسية سفياتلانا تسيخانوسكايا حكومة بلدها المعارضة من المنفى. نساء قائدات أخريات في هذا الإطار يواجهن قضايا عدة مثل الاستقطابات السياسية الداخلية (سلوفينيا وتنزانيا)، والفساد (سلوفاكيا)، وإصلاح التمويل الدولي المخصص لقضايا المناخ (بربادوس). هؤلاء القائدات والزعيمات يثبتن أن مناصرة حقوق الإنسان – من بينها حقوق النساء ومجتمع الميم والمثليين – لا تمنع ممارسة الحكم لمصلحة الجميع والدفاع عن الأنظمة الديمقراطية بوجه الأخطار والتهديدات الداخلية والخارجية.
لذا، وعلى رغم قيام دول كبيرة بقيادة موجة الاستبداد الحالية، إلا أنه يمكن تعلم الكثير من الدول الـ 18 التي تتحول نحو الديمقراطية، وفق تحليل "في- ديم" V-Dem وهي بمعظمها دول صغيرة تقود النساء عدداً منها. وقامت بلدان عدة من الدول المتحولة نحو الديمقراطية بترشيد الحوكمة وتصويبها وتقليص الاستقطابات التي تستنزف بلدان كثيرة. كما قام عدد من هذه البلدان التي تنمّي ديمقراطياتها بإقرار قوانين تدعم حقوق النساء والمساواة في الزواج، إضافة إلى انتهاجها سياسات اقتصادية واجتماعية وأمنية مصممة لمصلحة جميع مواطنيها. فلم يجرِ في سياق تلك السياسات تهميش الرجال، حتى لو طلب منهم القبول بالمبدأ الأساسي المتمثل في المساواة في الحقوق والفرص للجميع. والرئيسات والزعيمات الديمقراطيات في هذه الدول قمن بدعم الحقوق السياسية والمدنية وتوسيعها، ويقفن أمام التحديات الوجودية التي يفرضها تغير المناخ، ويظهرن دفاعاً فاعلاً إزاء الاعتداءات التي تتعرض لها بلدانهن. هن في الحقيقة لم يحققن جميع الأهداف المرجوة بعد، لكنهن يسلكن وجهة موثوقة، تبدأ، كما ينبغي، بالتخلص من المغالطة المستمرة التي ترى، وبأوجه مختلفة، أن النساء لا يمكنهن القيادة بفاعلية وشجاعة.
*ليندا روبنسون باحثة رفيعة بمجال دراسات النساء والسياسات الخارجية في "مجلس العلاقات الخارجية".
مترجم عن "فورين أفيرز" 3 يوليو 2024