ملخص
بدأت المدن في سوريا تخسرها ذكريات السطوح تدريجاً مع ارتفاع عدد الطوابق واختفاء المنازل ذات الطابق الواحد.
فوق سطوح البيوت وليالي السمر يستعيد كثير من السوريين حياتهم السابقة الثرية وتنتعش ذاكرتهم الفياضة بالمشاعر والصور للحديث عن تلك الذكريات التي لا تخفت جذوة الشوق إليها متى بدأ الحديث عنها واسترجاع زمانها وتفاصيلها.
هذه حال سمية التي ولدت في دمشق خلال ستينيات القرن الماضي وانتقلت في ريعان شبابها مع أهلها في ما بعد إلى مدينة اللاذقية، إذ تقص على سامعها حكايات تكاد تتشابه بين المدينتين، لكنها على رغم سنواتها الطويلة في اللاذقية لا تزال تفضل وتستمتع بالحديث عن دمشق وتفاصيل حياتهم هناك.
تقول سمية "كانت سطوح بيوتنا التي لا ترتفع بغالبيتها في كثير من المناطق عن ثلاثة طوابق كحد أعلى، ملجأ أهل المدن في الصيف، لكن منزلنا الكائن في منطقة المزة آنذاك كان عبارة عن طابق وحيد، فلا تكاد الشمس تسحب أشعتها حتى تسارع بنا أمي إلى السطح لتنظيفه وترتيبه من سهرة الأمس وتحضيره للأمسية المزمع مشاركتها مع الجميع عند كل مساء، فيجهز الطعام والشراب وكل لوازم الجلسة".
وتتابع "على عكس منزلنا في دمشق، كان منزلنا في اللاذقية يعلوه طابقان في حي يجتمع عدد من ساكنيه للسهر عند أحدهم كل مرة، فكان الرجال يجلسون غالب الوقت مع بعضهم بعضاً والنساء كذلك، فلكل منهم أحاديثه الخاصة، وكنا أطفال نلعب ونمرح بينهم ونروح جيئة وذهاباً مع أصواتنا العالية".
فلسفة السطوح
لكن تلك الجلسات لم تكن فقط بغرض السمر والهرب من قيظ الصيف، وإنما كانت فرصة لتقوية الروابط الاجتماعية بين الجيران في نفس البناء أو حتى الحي نفسه، فكان سكان البيت الواحد أو الحي يتبادلون أطراف الحديث عن وضع الحي لتحسينه أو لمساعدة أحدهم، كما كان للحديث عن أحوال البلاد مساحة كبيرة.
وهذا ما يتذكره محمد ابن الـ52 سنة الذي يقول، "كنت أجلس مع والدي في المكان المخصص للرجال، إذ يتبادلون الأحاديث الخاصة بأعمالهم وتلك التي تعني الحي وأوضاعه وحاجاته وواجباته الاجتماعية، لكن أحوال البلاد والوضع السياسي كان يأخذ معظم حديثهم، فانهيار الاتحاد السوفياتي آنذاك كان شغلهم الشاغل وسبباً في نقاشات قد تتفاقم حدتها ويرتفع صوت البعض، فتعمد النساء على إيقاف هذه الجلبة عبر وضع الموسيقى، ليخفت صوتهم تدريجاً ويعلو صوت أم كلثوم أو عبدالحليم حافظ أو فريد الأطرش، فلحظات المتعة هذه تعيد الهدوء لنفوس الجميع وتجعل كلمة (الله) تخرج من أفواههم مع كل مقطع موسيقى يعجبهم وكأنهم كورال مدرب".
ويمضي محمد في حديثه، "على رغم أننا أكملنا طريقة أهلنا في اعتلاء السطوح وممارسة عاداتهم عندما أصبحنا آباء وأمهات، لكن ليالي وأيام طفولتنا كانت أشد وأكثر تأثيراً في نفوسنا".
رصاصة الاختفاء
وعلى رغم أن هذه الذكريات ممزوجة بمشاعر قوية فإن المدن في سوريا بدأت تخسرها تدريجاً مع ارتفاع عدد الطوابق واختفاء المنازل ذات الطابق الواحد، ونزولهم من السطوح إلى الشرفات الخاصة التي ما زالت تستقبل الزوار، ولكنها لم تعد تتسع للجميع في آن واحد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول باسل، "لقد استطعت أن أعيش جزءاً من هذه العادة، فسطح بيتنا الذي كان يعلو بيت جدي كان شاهداً على أجمل سني عمري، فعشقت تلك الجلسات وبخاصة عندما كنت ووالدي ننتظر الجميع ليهبطوا إلى مخادعهم، فنستلقي على الأرض ووجهنا إلى السماء نرقب النجوم".
وعن زوال هذه العادة من عائلتهم يقول باسل، "لقد اضطررنا للانتقال إلى منزل آخر في بناية متعددة الطوابق والسطح فيها مشترك وعليه بعض الإشكالات بين سكان البناية الواحدة". ويضيف، "ومع بدء الحرب هجرنا بيوتنا وبخاصة هنا في حمص، إذ كان رشق الرصاص يمطرنا من كل حدب وصوب واضطررنا للمغادرة وذهب كل واحد منا في جهة، وبعد العودة انعزلنا كل على شرفته الخاصة نستحضر ذكريات تلك الليالي ودفئها وهدوئها".
تنظيم قانوني
تزداد أهمية السطوح في الأعوام الأخيرة مع انتشار التوسع السكاني والكثافة السكانية التي أتت نتيجة الرغبة في العيش بمركز المدينة بعيداً من الأرياف، إضافة إلى وضع الحرب الذي اضطر بعض المدن لاستقبال أهل مناطق كانت تشهد معارك محتدمة والحياة فيها شبه مستحيلة، وعليه نشطت حركة البناء بصورة واسعة في جميع المدن والاتجاه نحو السكن الجماعي لصعوبة الاستقلال بمسكن منفرد لارتفاع أسعار الأراضي ومواد البناء.
لذا ازداد اهتمام المشرع السوري في هذا الأمر، إذ صدرت قرارات إدارية عن محافظة دمشق ووزارة الإسكان والمرافق محاولة في تنظيم موضوع السطوح والسماح بالبناء عليها، وضماناً لحسن الانتفاع بها نظراً إلى ما تثيره أزمة السكن والإسكان في المدن، ومراكز المدن من مشكلات متعددة متزايدة باستمرار، الأمر الذي اقتضى تنظيم العلاقة بين ملاك البناء متعدد الطوابق والمنتفع من خارج الملاك.
إن الأجزاء المشتركة كالسطح في ظل بناء متعدد الطبقات، معدة بطبيعتها للاستعمال المشترك بين ملاك البناء جميعها، إذ يكون كل مالك فيها على هذه الأجزاء حق استعمال وانتفاع بها أسوة بباقي الملاك الآخرين، إلا أن حقه في الاستعمال على هذه الأجزاء المشتركة ليس مطلقاً لكنه مقيد، ومصدر هذا التقييد قد يكون القانون أو الاتفاق.
استعمالات متعددة واستثمار ذكي
يستخدم السطح اليوم في استعمالات متعددة، والشائع منها أنها أصبحت مخصصة أحياناً لبعض الأثاث المرمي أو حقل من الصحون اللاقطة وخزانات المياه، ومع انقطاع الكهرباء بعد الحرب أضيف إلى هذه التفاصيل الألواح الشمسية التي تغزو سوريا رويداً رويداً، حتى إنها أصبحت سبباً في تزويد كامل البناية عبر المشاركة في تركيبها أو سبباً للمشاجرات على مساحات خاصة لسكان البناء ليضع كل منهم ألواحه الخاصة.
وهناك من ذهب لاستخدام السطوح بطريقة استثمارية، فجعل أحد الفنادق في مدينة اللاذقية مقهاه الخاص على سطح البناية التي تطل على المرفأ البحري في المدينة، وعلى رغم ارتفاعه عن مستوى الرؤية فإن قاصديه كثر وبخاصة في وقت الليل صيفاً، إذ يستعيد زبائنه ذكرياتهم السابقة وبخاصة أن للمكان تصميماً بألوان تقارب ذاكرتهم المألوفة عن الطابع البحري.
عن هذا الاستثمار، يقول سامر أحد مرتادي المكان، "معظم المطاعم والمقاهي تجاور البحر وغيرها الذي لا يرتفع أكثر من طابقين أو ثلاثة، لكن الوجود هاهنا على ارتفاع عال تجربة لها نكهة أخرى بمشاعر مختلفة تسكنك، فأصبح هذا المكان خياري الأول إذا ما أردت الخروج مع عائلتي وأصدقائي".
طار الأمان.. حط الحمام
وفي سوريا أينما يممت وجهك في مدنها ترى الحمام يطير في السماء عالياً، ولكنه يعود بعد جولة قد تطول أو تقصر ليحط على سطح إحدى البنايات، ومن خلاله تعرف أنه يوجد على هذا السطح كشاش حمام بني لسرب على السطح وجعله منزلاً له، فإن سمع أحدهم وهو على شرفته صفيراً ورأى حماماً في السماء يعلم أن ما يعرف بـ"الحميماتي" يتولى مهمة تطييره ثم المناداة عليه ليعود بتلك الطريقة.
وبعد الزلزال الذي ضرب سوريا في فبراير (شباط) 2023 وسوَّى عدداً من بناياتها بالأرض في مدن محددة وصدع كثير منها، ألقى ذلك بظلاله على كثير من الأشخاص الذين تملك الخوف قلوبهم من الطوابق العليا ومن السكن فيها، إذ أصبح صعودهم إليها محالاً أو محملاً بتوجس كبير، كحال أحد الرجال الأثرياء في اللاذقية، الذي كان اشترى لنفسه وأولاده أربع شقق في الطوابق العليا مع السطح الخاص بها قبل الزلزال، لكنه اليوم يعرضها للبيع وبأسعار أقل من قيمتها الحقيقية لعدم قدرته على السكن فيها.
بين تأمين المستقبل والحفاظ على العادة
وعلى رغم أن عادة جلسات السطح التي ألفت قلوب الناس وأسهمت في جمعهم وتفاعلهم ضمن النسيج الاجتماعي العام أصبحت شبه منقرضة في المدن، فإن بعض القرى السورية ما زالت تحتفظ بها وبخاصة من لديه منزل منفرد بطابق واحد، وآخرون بما لا يعلو الطابقين، ولكن كثيراً منها تلاشى مع إقدام الناس على تسليم منازلهم وأرضهم لمتعهد بناء ليرفع عليها بناء متعدد الطوابق فيكسبون عدداً من الشقق تعينهم في تأهيل أبنائهم وإيجاد مسكن لهم، ولكنه هذا الإجراء يسهم في زوال هذه العادة الاجتماعية.
وعن هذا تقول حنان وهي سيدة في الـ50 من عمرها وتقطن في منزلها الأرضي بإحدى قرى حمص الغربية، الذي لا يعلوه أي طابق آخر، "مع كل صيف أهيئ سطح البيت لنقضي سهراتنا وجلساتنا عليه، فلا مكان آخر نذهب إليه من حر الصيف الذي يزداد في منزلنا باعتباره طابقاً واحداً ولا يرتفع فوقه شيء يحميه من أشعة الشمس وحرارتها العالية، فأضع بعض الأثاث المريح عليه وأستقبل من يريد زيارتنا أو نجلس غالباً لوحدنا".