ملخص
ظلت الزفة المصرية الشعبية تقليداً مبهجاً وطقساً كرنفالياً وثقته السينما، ولكنها تحولت في الأعوام الأخيرة إلى ما يشبه سباق السيارات والدراجات النارية، يسفر عن ضحايا كثر تراق دماؤهم على الطرق العامة.
مدن مصرية هنا وقرى هناك تشبع تاريخها بثقافات وأجواء احتفالية لزفة العروسين، تكاد تتشابه في مشهدها العام وتتباين في بعض تفاصيلها على مدار عقود وربما قرون، إلا أن هذا البند الاحتفائي الأكثر أهمية في مراسم الأعراس طرأت عليه تغييرات مع انتشار السيارات والدراجات النارية. فما بين صورة كلاسيكية مقتصرة على قاعة مغلقة تحتضن أغنيات ورقصات واستعراضات متنوعة، تقدمها فرقة موسيقية مع تدليل العروسين بعبارات التفخيم والثناء وزفة شعبية مكانها عادة الشارع، اتخذت هذه الأجواء صوراً متعددة فرضها انتشار المركبات بعدما كانت تكتفي بالسير على القدمين أو الحنطور "عربة يجرها حصان".
وفي حين كانت أبواق السيارات (الكلاكسات) الصاخبة وسيلة احتفالية تلقى معارضة من المارة إلا أنها في النهاية لم تكن تهدد الحياة. وحالياً أصبحت الزفة في شوارع مصر وسيلة لاستعراض مهارات القيادة والتفحيط بالسيارات والقفز بالدراجات النارية، بعد أن ظلت مقتصرة على شارع أو اثنين على الأكثر في محيط المنزل لاستعراض جمال العروس ووسامة زوجها.
ومفهوم الموكب الاحتفالي يوجد في ثقافات عدة ويشمل مناسبات كثيرة بينها المهرجانات الشعبية، أما في مصر فيرتبط بمناسبات شتى من بينها مواكب موالد الأولياء الصالحين التي تقام بجوار مقاماتهم، وكذلك زفة جهاز العروس (العزال) التي يتخللها غناء الأهازيج في الطرق التي يسلكها المدعوون لنقل مشتريات العروس إلى منزل زوجها. وتظل زفة يوم الزواج الأكثر شهرة والأكثر تعرضاً للتحديثات، حتى أصبحت تتخطى كونها وسيلة للتعبير عن الفرح والابتهاج إلى تعد على الطرق العامة وتعريض حياة الناس للخطر، وممارسة العنف اللفظي والنفسي وربما البدني ضد المعترضين على ما يجري.
موكب الزفة طقس ديني وشعبي
هذا الخطر ليس مجرد افتراض ولكنه موثق بالأدلة الرسمية وبشهادات المارة، ويدهم كل من يتصادف مروره في زفة عروس على الطرق العامة السريعة والداخلية. وبعد أن كانت السيارة المزينة بالورد والأعلام والبالونات هي العلامة الوحيدة التي تكشف عن وجود عروسين فيها، وتثير الانتباه وتستدعي مشاركة الفرح من قبل سائقي السيارات المجاورة بالتلويح وإطلاق الكلاكسات، تحول الموقف تماماً وبات التقليد المتبع هو منع باقي السيارات من اجتياز المركبة التي تحمل العروسين، بالتالي حينما يتعطل الطريق على خلفية الاستماع إلى أغنيات شعبية صاخبة، يتيقن الجميع بأنهم مجبرون على انتظار ما يحدث من حلقات دائرية بالسيارات والقيادة بأبواب مفتوحة، أو اشتراك مركبات الموكب التي قد تزيد على عشرة في عمل تابلوهات بهلوانية وهندسية مروعة.
يعود الأكاديمي محمد شبانة الأستاذ بالمعهد العالي للفنون الشعبية إلى أصل الزفة المصرية مشيراً إلى أنها مشتقة من الفعل يزف، والذي يستعمل عادة في المواقف السارة. والزفة هنا تشير إلى اجتماع الناس من أجل حدث سعيد، مؤكداً احتفاظها بتاريخ عريق. وتعتمد على الشارع عادة لأنها تستدعي المشاركة وفعل قائم على الإعلان. وهناك الزفة التي تعقد للصبي حينما يجرى له الختان، إذ كان يحرص بعض العائلات في مناطق معينة على أن يسير ابنهم وهو يركب حصاناً ليحتفل مع الأحبة والجيران باعتبار هذا الحدث بمثابة عبور له من مرحلة عمرية إلى أخرى جديدة. وتقام كذلك في الموالد الشعبية احتفالاً بالأولياء ويجري خلالها زف شيخ الطريقة بالطبل والمزمار البلدي والصاجات، إضافة إلى الرقص التراثي مع حمل الرايات الخاصة بالطريقة الصوفية.
ويرى شبانة أن زفة العروس كان الشارع هو الأساس لها، وكان شائعاً استخدام المزمار والطبول وتدريجاً أصبحت هناك فرق متخصصة في الزفة بينها الصعيدي والإسكندراني والدمياطي، مرفقة بفقرات فنية محددة ومسارات بعينها ولم تكن تسبب مشكلة، لكن ما يحدث اليوم من احتفالات قد يسبب الرعب خصوصاً في عملية القيادة غير المسؤولة التي تسبب كوارث.
واعتبر أن هناك تغيراً سلبياً في سلوكات المصريين يظهر بقوة في زفة العروسين، مضيفاً "هناك حالة من عدم الانضباط والانفعال الزائد الموازي لحركة الحياة السريعة المنفلتة، إذ تراجعت التفاصيل والقيم الفنية والجماليات في الزفة وكذلك الآلات الموسيقية الشعبية، ليصبح الاعتماد الأساس على الضجيج والصراخ".
قانون الزفة
على رغم بهجة طقس الزفة نفسه الذي يكون فصلاً من فصول إشهار الزواج، ويحول المساحة إلى حفل يشترك فيه الجميع، وقد يجاملهم أيضاً الأغراب على الطريق بالمشاركة تصفيقاً وإطلاقاً للكلاكسات، ولكن النتيجة أن الطريق قد يتوقف لأوقات طويلة من دون الاستماع لتوسلات المارة أو قائدي باقي المركبات بضرورة ترك مساحة للسير، لأنه قد يكون هناك طارئ طبي يستدعي التحرك سريعاً.
كما أن التصرفات نفسها ربما تثير الفزع نظراً إلى غرابتها وأنها قد تذهب إلى ما هو أبعد باستخدام أسلحة بيضاء والرقص بها، وهي طريقة شائعة أيضاً لدى بعض الثقافات، وهو ما حدث أخيراً على أحد الطرق بمحافظة الشرقية، إذ اعتقلت أجهزة الأمن المصرية مجموعة من المحتفلين بإحدى حفلات الزفاف نتيجة القيادة بصورة متهورة مع استعراض قدراتهم على الرقص بالأسلحة البيضاء.
وقبل واقعة الشرقية بأيام غرق ثلاثة من أقارب عروس بعد سقوط سيارتهم من أعلى الطريق الدائري في نهر النيل بمنطقة المعادي في جنوب القاهرة. ومن هنا عادت المناقشات بضرورة النظر في تحول الزفة الشعبية إلى طريقة لاستعراض التهور وتحدي قواعد المرور، وتجاهل حاجات من يرتادون الطريق سواء كانوا كباراً في السن أو مرضى أو أطفال أو متعبين من يوم عمل شاق وغيرهم، إذ يتباهى المشاركون عادة ويفخرون بقدرتهم على إخضاع الركاب بصورة موقتة لقانون "الزفة" وبتمكنهم من جعل عروسهم سبباً في انقلاب حال الشارع، فيتحول الفرح في بعض الأوقات بسبب هذه السلوكات إلى مأتم، وينخرط ذوو العروسين في تشييع الجنازات بدلاً من تنظيم الزيارات للمباركة.
وهنا قالت المحامية القانونية دعاء عباس إن المشرع شدد عقوبة تلك الأفعال بسبب انتشار حوادث المرور وسقوط عدد كبير من الضحايا جراء سلوكات سائقي السيارات المخصصة لزفة العروسين، مما يعطل حركة المرور ويعرض حياتهم والآخرين للخطر، بل ونشر الذعر بين الناس على الطريق، لافتة إلى أن العقوبة قد تصل إلى الحبس لمدة خمسة أعوام.
من شوه الكرنفال الشعبي؟
تتزايد المطالبات بوضع حد للمبالغة في الاستيلاء على الطرق العامة خلال زف العروسين، خصوصاً مع ارتفاع ضحايا حوادث الطرق إلى 5800 وفاة و71 ألف إصابة خلال عام 2023، وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر. لكن هذه المطالبات تصطدم كثيراً بدعوات شعبية إلى ترك "الناس تفرح" باعتبار الطرق العفوية في إظهار السعادة أمراً مهماً خصوصاً عند الزواج، لكونها جزءاً من مكونات الشخصية المصرية.
وعن الزفة على وجه التحديد فهي وفقاً لموقع الأرشيف المصري للحياة والمأثورات الشعبية تعد "من أهم عناصر الفرجة الشعبية وهي إحدى العادات المتأصلة في المجتمع المصري أشبه بالكرنفالات التي تمارسها الجماعات الشعبية في احتفالاتها في مختلف الدول"، ومن ثم فهي عنصر ضمن قائمة الحصر الخاصة بالتراث الثقافي غير المادي الخاص بمصر.
والزفة الشعبية أيضاً كسلوك تعد أمراً بهيجاً للغاية، كما أن صورها ذات الأصل الفولكلوري تعد ملمحاً تراثياً يلقى قبولاً بين الناس، فهي تصاحب عادة إحضار العريس لعروسه من مركز التجمل ومن منزل أهلها إلى مكان إقامة الحفلة الأساس أو إلى منزل الزوجية مباشرة، وكلما زادت مظاهر التصفيق والزغاريد والأغاني والرقص والحضور شعرت العروس بأن لديها عزة وسنداً، وذلك بحسب المعايير المتبعة.
وساهمت السينما المصرية في توثيق كثير من أغنيات الزفة التقليدية والتي لا تزال حاضرة في أفراح اليوم وبينها "تمخطري يا حلوة يا زينة ـ طالعة السلالم ـ حلو ومدلع من يومك - دقوا المزاهر ـ ما تزوقيني يا ماما". إضافة إلى العشرات من أغنيات الزفة من الفلكلور سواء الفلاحي أو الصعيدي أو الساحلي. ووثقت الدراما أغنيات أخرى أكثر حداثة للزفة سواء لفاطمة عيد أو ليلى نظمي أو عايدة الشاعر، وصولاً إلى أغنيات أحمد عدوية وعلي الحجار وسعد الصغير ومحمود العسيلي وغيرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك فإن توثيق الزفة تم التعبير عنه في مشاهد عدة بدءاً من تلك البسيطة التي تقام في مساحة صغيرة بالحارة إلى تلك التي تحييها راقصة تؤدي حركات احترافية وهي تحمل على رأسها وعاء به شموع مشتعلة، أو زف العروسين وسط الزغاريد ونثر الملح والورد والحلويات على الرؤوس تجنباً للحسد وهم يرقصون ابتهاجاً بالحدث السعيد، وصولاً إلى الزفة التي تستخدم بها العربة سواء التي تجرها الخيول أو السيارة الحديثة المكشوفة التي تسير بطريقة هادئة لتحيي الحضور، ثم الاحتفال من طريق إيقاف المارة من أجل الزفة في الشوارع البعيدة من منزل العروسين وتموج السائقين بالسيارات مجاملة للعروسين واحتفاءً بـ"دخولهما الدنيا" كما يقول التعبير المصري، وكذلك التجول لتوثيق الحدث وبخاصة في محيط جامعة القاهرة أو بشارع جامعة الدول العربية، إذ أصبحت طريقة شائعة للغاية لاحتفال العروسين مع عائلتيهما والتوقف لالتقاط الصور في الحدائق والميادين والمحال الشهيرة التي تعد من علامات المكان.
حتى وإن كان هذا السلوك يجري من دون ترتيبات وقد يتسبب في أزمات مروية، لكنه يبتعد بعض الشيء من الخطر المباشر الذي تسببه طريقة زفة "سباق السيارات" ـ إن جاز التعبيرـ بل قد تشترك أيضاً الدراجات النارية في الموكب لتزيدها صخباً وذعراً... ماذا حدث للشارع المصري وما الذي تغير لتكون طريقة التعبير عن الفرح محاولة لفرض السطوة والسيطرة على حفنة من المواطنين تواجدوا مصادفة من دون وضع اعتبار لعوامل الخطورة؟!
المواد المخدرة غير مستبعدة
المعالجة ومدربة العلاقات والتنمية الذاتية إنجي شوقي تعدد أكثر من سبب للوصول إلى هذا النمط من السلوك الخطر في زفة العروس، بينها على سبيل المثال الرغبة في المبالغة والتي تجدها أصبحت سمة سائدة في التعبير عن مشاعر الحزن والفرح في هذا العصر، مشيرة إلى أنه في ما يتعلق بالزفة فكل أسرة تريد أن تتفوق على نظيرتها، علاوة على ظاهرة تصوير وتوثيق كل لحظة لوضعها على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل تحقيق المشاهدات والشهرة، وهو ما يقود إلى أن الجميع يقلدون وربما الوصول إلى مستوى أعلى من التجاوزات والتباهي بذلك.
ولم تستبعد شوقي سيطرة العقاقير المخدرة على سلوكات البعض خصوصاً في المناسبات السعيدة، مشيرة إلى أنها بحكم عملها لمست كيف يمكن لأسرة بسيطة في منطقة شعبية أن تنفق كل ما تملكه وربما تستدين من أجل أن تخرج حفلة زفاف ابنهم أو ابنتهم بالطريقة التي يعدونها مشرفة، وبينها إحضار كميات كبيرة من المشروبات الكحولية والمخدرات وتوزيعها على الحضور. وأشارت إلى أن بنود حفلات الزفاف في كثير من المناطق الشعبية المصرية تتضمن أموراً كثيرة تكون عادة فوق طاقة الأسر المادية تماماً مثل بنود جهاز العروس، إذ إن الغالبية الأكبر منهم تسير وفقاً لوعي جمعي يحركهم من دون وضع اعتبار للمعايير.
ومن بين الأساليب التي تسوقها أيضاً متخصصة التنمية السلوكية أن مظاهر العنف أصبحت متعددة في الشارع وتظهر حتى في أكثر الأوقات بهجة، وربما يكون منبعها "الكبت وعدم امتلاك مقومات التشبه بذوي النفوذ وكذلك الضغوط الاقتصادية، وهي أزمات تخرج في صورة سيطرة موقتة وشعور بالسلطة والمقدرة خلال هذا المدى الزمني المحدود". وتابعت شوقي "ممارسة العنف والإجبار هي إسقاطات نتيجة الكبت والتقييد، ومن ينفذها يكون غالباً مفتقداً الشعور بالحرية من داخله ويختار مواقف بعينها للتنفيس الموقت ليستدعي شعور السيطرة والقوة والتمكن من الآخرين، من دون حساب عواقب ما يمكن أن يحدث ومن دون التفكير في احترام حقوق الآخرين وتحركه هنا الغريزة فحسب، والمؤكد أن الحل في هذا الوضع هو التطبيق الصارم للقانون بيد من حديد".
"الشارع أصبح أكثر عنفاً"
يعود الدكتور محمد شبانة أستاذ الفنون الأدائية بالمعهد العالي للفنون الشعبية للحديث عن أن الاحتفال من طريق السيارات المكشوفة أو غيرها في الشوارع أسلوب شائع ويبعث على السرور، ولكن المشكلة في السلوكات غير المسؤولة والرعونة أثناء القيادة، منبها إلى أن هناك تغيراً ما حصل للسلوك العام في الشارع المصري، ولم يعد رواده ملتزمين بحقوق غيرهم مثلما كان الحال منذ 50 عاماً على سبيل المثال، حتى حركة السيارات والمرور في العاصمة وخارجها باتت تثير الفزع.
وواصل شبانة حديثه "الشارع أصبح غاضباً ومتحفزاً وفي حالة نفسية سلبية نتيجة التغيرات الاقتصادية والمجتمعية والثقافية، بالتالي يجب أن يكون هناك حركة ضبط وقيادة للشارع من دون الاعتماد فقط على كاميرات المراقبة، بل يجب أن يعود الوجود البشري لرجل المرور ليفرض ويضبط قانون الشارع".
محافظات الجنوب
صحيح أن الحوادث متكررة وتشهدها غالبية المحافظات المصرية لكنها تأخذ طابعاً مختلفاً في الصعيد (محافظات الجنوب)، ففي قنا لقي عروسان حتفهما ومعهما مصور الحفل بعد سقوط السيارة في أحد مصارف المياه خلال موكب الزفة. والأمر نفسه ينطبق على إطلاق الأعيرة النارية خلال العرس إذ أصيب ستة أشخاص بأعيرة نارية في مناطق بالصدر والظهر والبطن في إحدى حفلات الزفاف بمحافظة أسيوط في جنوب البلاد، وطريقة إطلاق الرصاص لا تترافق مع العرس فقط ولكنها تصاحب غالبية الأحداث السعيدة.
حوادث القتل الخطأ والإصابة جراء ضرب النار في المناسبات السعيدة يتعامل معها قانوناً وفقاً لظروف كل موقف، ولكن الأمر يتحول إلى التعمد حينما تستعمل تلك الأسلحة في مشاجرة تنشب على هامش الاحتفال وهو أمر متكرر أيضاً.
وعن استعراضات السيارات على الطريق أوضحت المحامية دعاء عباس أن المادة 375 مكرر في قانون المرور نصت على أن من يعطل المرافق العامة واستعراض القوة يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن عام، ولكن العقوبة لن تقل عن عامين ولا تتجاوز خمسة أعوام إذا وقع الفعل نفسه من شخصين فأكثر أو إذا صاحب هذا الفعل تصرفات أخرى كثيرة، ومن بينها استعمال أسلحة أو مواد خطرة وإن تمت ممارسته على من يبلغ أقل من 18 عاماً، مضيفة "هناك نقطة مهمة أيضاً وهي أنه يقضى في جميع الأحوال بوضع المحكوم عليه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة المحكوم بها عليه".