Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تتأثر المياه الجوفية الليبية بالمشروعات الزراعية في مصر؟

هواجس استنزاف القاهرة "الخزان النوبي" بعد أزمة سد النهضة تقابل برسائل النفي والطمأنة

 مسار الأنهار القديمة في ليبيا يمضي من الجنوب إلى الشرق في اتجاه مصر، ويضم كميات هائلة من المياه الجوفية. (اندبندنت عربية)

ملخص

يحذر تقرير مركز بحثي من ضعف متابعة الجانب الليبي لأشكال استغلال مياه الحوض الذي تتقاسمه البلاد مع مصر والسودان وتشاد.

تبدو الأنباء الواردة من الجانب الشرقي من الحدود الليبية مثيرة لمخاوف قطاعات واسعة من الليبيين حول ما يتردد من استغلال مصر مسارات المياه الجوفية الليبية في إنشاء مشاريع زراعية كبرى، في سياق مساعي القاهرة إلى تأمين موارد مائية تعوض النقص المتوقع في حصص البلاد التاريخية من مياه نهر النيل، إثر بدء إثيوبيا عملية الملء الخامس لخزان سد النهضة على نهر النيل، بحسب ما أظهرته صور الأقمار الاصطناعية، في عملية تستمر حتى منتصف سبتمبر (أيلول) المقبل.

وبينما تقف مصر التي تعاني عجزاً في مواردها المائية أمام تحد متنام منذ عام 2011 يتمثل في نقص حصتها التاريخية من مياه النيل، نتيجة بناء أديس أبابا سداً في منطقة بنيشنقول -قماز الإثيوبية لتوليد الكهرباء وتعويض النقص الحاد في الطاقة في إثيوبيا، فإن الهواجس الليبية تبدو مقنعة بالنسبة إلى كثيرين ممن أعادوا إثارة ملف مياه خزان الحجر الرملي النوبي الجوفية، أكبر نظام خزن للمياه الجوفية معروف في العالم، والذي تتوزع مياهه على مساحة تزيد على مليوني كيلومتر مربع شمال غرب السودان وشمال شرق تشاد وجنوب شرق ليبيا وجنوب مصر الغربي، في وقت يعد الخزان المصدر الرئيس لمشروع النهر الصناعي العظيم في ليبيا.

"نهر الكفرة"

أثيرت قضية للمرة الأولى حين حثت مديرة معمل الأبحاث للاستشعار عن بعد في جامعة نورث كارولينا الأميركية إيمان غنيم السلطات في مصر عام 2017 على الاستفادة من المياه الجوفية المخزنة أسفل واحة الكفرة الليبية، والتي سمتها "نهر الكفرة"، وتكفي البلاد ما بين 100و150 عاماً، مشيرة إلى أنها زودت القاهرة بـ 180 صورة رادارية تغطي ربع مساحة مصر في المنطقة الحدودية مع ليبيا.

وجاءت آخر الإشارات إلى المشروع في حديث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مايو (أيار) الماضي خلال افتتاح المرحلة الأولى من موسم الحصاد بمشروع "مستقبل مصر الزراعي"، وهو مشروع استصلاح لمساحة تضم 4.5 مليون فدان، من استغلال المياه الجوفية غرب مصر، وما أعقب حديثه من تناول وسائل إعلام مصرية ما سمته "النهر الصناعي العظيم" ووصفته بـ "الأطول في العالم" بطول 114 كيلومتراً لاستغلال مياه الصرف الزراعي والجوفية والسطحية في الزراعة بعد معالجتها بمحطة مياه الحمام لإنتاج 10 ملايين متر مكعب لاستخدامات الزراعة، وهو ما عده الليبيون استنساخاً لتجربة "النهر الصناعي العظيم" في ليبيا القائم منذ عام 1984 على نقل المياه الجوفية عبر أنابيب ضخمه مدفونة في الأرض.

هيئة مشتركة

وبينما تتشارك خزان الحجر الرملي النوبي كل من مصر بـ 828 ألف كيلومتر مربع، وليبيا بـ 760 ألف كيلومتر مربع، والسودان بـ 376 ألف كيلومتر مربع، وتشاد بـ 235 ألف كيلومتر مربع، فإن التوافق على تقاسم مياه الخزان على نحو عادل كان أحد الضرورات التي تجلت في تشكيل هيئة مشتركة لدرس وتطوير الخزان بين ليبيا ومصر عام 1989، قبل أن تنضم السودان وتشاد إلى اتفاق رباعي عام 1991 لإنشاء هيئة مشتركة لتنمية مياه الخزان، ووضع معايير متفق عليها لتوزيع موارده المائية والتي من بينها النسبة المئوية من أراضي الخزان لكل بلد عضو في هذه الهيئة.

 

وتزامنت الهواجس الليبية مع اتساع الرقعة الزراعية بافتتاح عدد من المشاريع غرب مصر اعتماداً على المياه الجوفية وتلك المعالجة من الصرف الصحي، وتبدت إحدى تلك الهواجس في دراسة حديثة طالعتها "اندبندنت عربية" للمركز القومي للبحوث والدراسات العلمية الليبية، تدعو وزارة الخارجية الليبية والجهات المعنية بإدارة الموارد المائية إلى تحمل مسؤولياتهم الوطنية والتاريخية في متابعة الهيئة المشتركة لدرس وتنمية خزان الحجر النوبي، والتواصل مع دول الجوار الشركاء في الحوض النوبي لترشيد مستويات استنزاف مياهه الجوفية، وتأكيد استغلالها وفق المتفق عليه، وعدم تجاوز نصيب كل دولة.

الأمن المائي الليبي

وتشير الدراسة التي تحمل اسم "خزان الحجر المائي الرملي النوبي المشترك... واقعه وآفاق استثماره لمصلحة الأمن القومي المائي الليبي" إلى أن ملف الأمن المائي الليبي من الملفات الخطرة والحساسة بمصفوفة عوامل ومتغيرات الأمن القومي للبلاد، كون الموارد المائية الجوفية عامل استمرار للحياة والتعايش السلمي في القارة الأفريقية، وما الصراع القائم بين عدد من الدول حول نسب استغلال مياه نهر النيل والسد والمشاريع المنشأة على مصدر تغذية النهر، إلا دليل على خطورة وحساسية الموارد المائية في الساحل الأفريقي وعمق القارة السمراء.

 

وتتخوف الدراسة من أن ملف الموارد المائية قد يكون عامل اندلاع الحروب والصراعات بين الدول والجماعات حول حقوق وضوابط استغلالها والاستفادة منها، وتنبأ كثير من المحللين الإستراتيجيين لاحتمالات نشوء صراعات وحروب بين الدول، وحدوث أزمات اقتصادية صناعية بسبب شح الموارد المائية، وبالتالي الغداء والدواء، مما ينذر بكوارث وأزمات بيئية وصحية لها تداعياتها على الأمن والسلم الدوليين.

اتفاق عام 2013

وقعت ليبيا عام 2013 اتفاق برنامج العمل الإستراتيجي "أس إيه بي" في مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعاصمة النمسوية فيينا لتنمية خزان الحجر الرملي النوبي المشترك "ليبيا - مصر - السودان - تشاد" من أجل وضع إطار خطة طويلة الأجل للاستفادة من المياه الجوفية بالحوض، وتحقيق الاستخدام الأمثل والعادل للمخزون الضخم والهائل للمياه الجوفية بإدارة فاعلة وعادلة للموارد المائية، ومنع التوتر السياسي والأمني بسبب احتمالات وقوع نزاعات بينية بين الدول الأربع المستفيدة من مياه الخزان.

وينبه تقرير المركز إلى ضعف المتابعة الفاعلة للجانب الليبي لاستغلال مياه الحوض، في حين تبدو دول الجوار الموقعة على الاتفاق أكثر جدية وفاعلية في استغلال المياه الجوفية للحوض، مشيراً إلى أنه مع سوء ترشيد استهلاك المياه في ليبيا واستنزاف مياه النهر الصناعي ومصادره، والتخريب المتعمد والمستمر لخطوط إمداداته، فمن المتوقع حدوث عجز في المياه لمختلف شرائح وقطاعات الدولة الليبية، وبالتالي ضعف قدرة قطاعات الطاقة والصناعة والزراعة على تلبية حاجات المواطنين، بخاصة مع شح الأمطار خلال السنوات الأخيرة، وهي المؤشرات الخطرة التي تنبئ بتهديدات محتملة لأمن ليبيا القومي، وتداعيات خطرة محتملة على الأمن المائي والغذائي والصحي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

تقييم احتياطات المياه

وينصح مدير المركز القومي للبحوث والدراسات العلمية الليبي طارق رمضان زنبو سلطات بلاده بضرورة تشكيل هيئة ليبية عليا لمتابعة وتقييم احتياطات الموارد المائية الجوفية والسطحية، وفرص تنميتها واستثمارها وتقييم أخطار استنزافها وسوء إدارتها على الأمن القومي الليبي، واقتراح إستراتيجية وطنية وآلية فاعلة وعادلة لإدارة الحوض بالتنسيق مع خبراء وباحثين في المركز والمراكز المتخصصة بالتصحر وتوطين المشاريع الزراعية والصناعية، ومراكز تنمية الموارد المائية والزراعية والصناعية والاستدامة البيئية، ومراكز تنمية بدائل الطاقات المتجددة، وكذلك تعميق أواصر التعاون والتنسيق المعلوماتي مع دول الجوار في مجال الصناعات المائية وتنمية واستثمار المياه الجوفية، وتبادل المعارف والتقنيات والخبرات في هذه المجالات وصولاً إلى الاستثمار الأمثل لموارد الدولة الطبيعية والبشرية، وتحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة وأمن الدولة الليبية الاقتصادي والبيئي والاجتماعي، ومنع الصراعات والنزاعات البينية وصولاً لصون السيادة الليبية، وتحسين ودعم ركائز ومناخ الأمن القومي الليبي والإقليمي والدولي.

 

لكن أوساطاً تنفيذية وأكاديمية ليبية قللت من تلك المخاوف ورأتها من قبيل المبالغة، مشيرة إلى أن الاستغلال المصري لمياه الحوض النوبي يقع داخل الحدود المصرية وعبر مسارات مختلفة للمياه عن تلك التي تمد ليبيا بما تحتاجه من المورد الحيوي، ومن هؤلاء ما يقوله عضو مجلس الإدارة بجهاز النهر الصناعي الليبي فوزي الشريف من أن بلاده تعتمد على المياه الجوفية في تدبير 97 في المئة من استهلاك المياه، سواء في الأنشطة الزراعية والصناعية أو حتى مياه الشرب، مما يشير إلى أهمية الحفاظ على هذه الموارد وحسن استغلالها على النحو الأمثل، وهو ما كان نهجاً للحكومات المتعاقبة منذ ستينيات القرن الماضي.

2.2 مليون كيلو متر

ويلفت الشريف إلى احتواء بلاده على مخزون مائي ضخم للغاية بالشراكة مع دول الجوار، موضحاً أن خزان الحجر الرملي النوبي حوض مشترك على مساحة 2.2 مليون كيلو متر مربع تتقاسمه مصر وليبيا والسودان وتشاد، ويقع جزؤه الأكبر في مصر ثم ليبيا والسودان وأخيراً تشاد، مشيراً إلى أن بلاده تستغل مياه الخزان منذ الستينيات.

ويشير المسؤول الليبي إلى أن ما يشاع عن استنزاف مصر لمياه بلاده الجوفية غير صحيح، بخاصة في ظل وجود منظومة متكاملة لمراقبة منسوب المياه الجوفية وهيئة مشتركة لإدارة وتطوير الحوض النوبي.

مشاريع زراعية مصرية

وتحدث عن أن مصر دولة زراعية في المقام الأول، وهي تصدر الخضراوات والفاكهة ولديها الحق في استغلال المياه داخل حدودها، ولديها مشاريع زراعية في غرب الدلتا وتوشكى وشرق العوينات تستغل من الخزان نفسه، لكن عبر مسارات مختلفة عن تلك التي تستخدمها ليبيا، فيما مسار المياه الجوفية في الحوض يأتي من الجنوب إلى الشمال، وهو مسار الأنهار القديمة في ليبيا الذي يمضي إلى الشرق باتجاه مصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشير الشريف الذي خدم في النهر الصناعي منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى دراسة للاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) أعدت عام 1987 وأفرج عنها عام 2011، تتحدث على أن تنفيذ الليبيين مشاريع صناعية وزراعية كبيرة اعتماداً على المياه الجوفية يؤثر في سريان المياه الجوفية باتجاه مصر، بخاصة مع امتلاك ليبيا كميات كبيرة من المياه الجوفية في الكفرة وتازربو ومرزق والحساونة، حيث أنشئ نهرها الصناعي على هذا المخزون، مضيفاً أن معدلات الاستهلاك الحالية لمياه الخزان النوبي تكفي لبقاء المياه 4800 عام، بحسب الدراسات الموثقة، معتبراً أن الأحواض المشتركة ظاهرة طبيعية سابقة لترسيم الحدود وموجودة في جميع القارات، لكن الأهم هو وجود الهيئات التي تراقب وتنظم الاستهلاك بعدالة ومن دون الإضرار بالآخرين.

استغلال مصري قديم

ويتفق المدير التنفيذي السابق للهيئة المشتركة لدرس وتنمية الحوض النوبي لطفي مادي مع ما ذهب إليه عضو مجلس الإدارة بجهاز النهر الصناعي الليبي، مضيفاً أن مصر تستخدم مياه الحوض في عدد من المناطق مثل الداخلة والخارجة والفرافرة وشرق العوينات منذ عقود، ولم يتأخر استخدامها لمياه الحوض النوبي ارتباطاً بمشاريع زراعية مصرية اُفتتحت خلال الأعوام الأخيرة.

ويقول مادي إن عمق حوض الكفرة يصل إلى 3200 متر ويضم طبقات مائية اكتشفت أثناء التنقيب عن النفط خلال خمسينيات القرن الماضي، وأن الهيئة المشتركة بين مصر وليبيا والسودان وتشاد حددت حصة كل دولة في ضوء الدراسات والتوقيع على ذلك عام 2013.

أما عن نقص المياه الجوفية في الجنوب الغربي للبلاد بحوض مرزق، فيعزوها المدير التنفيذي السابق للهيئة المشتركة لدراسة وتنمية الحوض النوبي إلى ارتفاع الاستهلاك من الخزان الضحل الأقرب إلى السطح، فيما المشاريع الزراعية تعتمد على الخزانات الأعمق.

وستظل قضايا المياه من القضايا الأكثر حساسية بالنظر إلى أهميتها في حياة الشعوب والحضارات، فقديماً ارتبطت تحركات وتنقلات الجماعات البشرية ولا تزال تتمحور حول وفرة أو ندرة مصادر المياه، لما لها من أثر مباشر في مستوى معيشة البشر ورفاههم.

اقرأ المزيد