Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ليل المدينة" مسرحية تدخل الراهن السوري من باب الانتحار

المخرج وليد العاقل اشتغل عرضه وفق أسلوبية المسرح الواقعي ليقارب واقع جيل الحرب

مشهد من مسرحية "ليل المدينة" (الخدمة الإعلامية)

ملخص

تذهب مسرحية "ليل المدينة" إلى سياق اللحظة الساخنة في مدينة السويداء التي تشهد اضطرابات منذ قرابة العام، لكن العرض السوري لا يدخل في المباشرة، بل يحقق معالجة فنية تجعل من الصراع بين الشابين ذريعة لاستعادة ماضي كل منهما

يكاد لا يخلو عرض مسرحي سوري من تناول ظاهرة الانتحار بين جيل الشباب، فعلى مدى الـ10 سنوات الأخيرة قدم سمير عثمان عرضه "المنتحر" عام 2017، ثم حقق جمال شقير عرضاً بعنوان "ستاتيكو" من العام نفسه، فيما أخرج كفاح الخوص عرضاً بعنوان "في رواية أخرى" عام 2023. كل هذه التجارب وسواها كانت انعكاساً لواقع تزداد فيه نسبة المنتحرين من جيل الشباب السوري، ويكونون في الغالب أشخاصاً ينهون حياتهم، إما هرباً من الظروف القاسية التي تحاصرهم، أو يكون انتحارهم بمثابة احتجاج على واقع لم يعد بالإمكان تغييره أو محاباته، وهذا ما دفع زاهر حجو المدير العام لهيئة الطبابة الشرعية عام 2020 إلى الدعوة لتخصيص خط ساخن لتقديم الدعم النفسي للشباب، وذلك لإنقاذ الأشخاص الذين يعانون ضغوطاً وظروفاً نفسية صعبة.

اليوم يقدم الفنان وليد العاقل عرضاً جديداً في هذا السياق بعنوان "ليل المدينة"، وهو من تأليف الكاتب الأردني محمد المعايطة. قام العاقل بإعداد النص عن فكرة لأحمد سرور، إذ كان هذا الأخير قد حققها عرضاً من إخراجه وتمثيله بعنوان "آية" عام 2022، وتناول فيه هو الآخر ظاهرة إقدام شباب أردنيين على الانتحار من فوق أحد الجسور المطلة في منطقة جبل عمان.

نسختان

وإذا كانت النسخة الأردنية من العرض ذهبت إلى صدام مباشر مع الواقع المعيشي الراهن، فإن النسخة السورية حاولت تقديم مناقشة هادئة ومتصاعدة درامياً لحكاية كل من كريم (سلمان رضوان) ونجوى (عبير رافع)، واللذين ستقودهما الصدفة إلى لقاء عند أحد المتحدرات الخطرة في مدينة السويداء (جنوب سورية). هناك سيلتقي الشاب الثلاثيني العاطل عن العمل ومدمن شرب الكحول بالفتاة العشرينية الخائفة والهاربة من مجتمع ذكوري يطبق عليها حصاراً نفسياً مرعباً، ويحصي عليها حتى الأنفاس.

هكذا يذهب "ليل المدينة" إلى سياق اللحظة الساخنة في مدينة السويداء التي تشهد اضطرابات منذ قرابة العام، لكن العرض السوري (المسرح القومي في السويداء) لا يدخل في المباشرة، بل يحقق معالجة فنية تجعل من الصراع بين الشابين ذريعة لاستعادة ماضي كل منهما، فالشاب يرى أن كل مسوغات موته تضافرت في هذه اللحظة، وأنه كان ضحية من باعوه الأمل كمعلبات فاسدة، فيما تعتقد الفتاة أن أسباب تفكيره بالانتحار لا قيمة لها أمام ما تمر ربه يومياً من الاضطهاد والكراهية التي تمارس ضد بنات جنسها، فلقد صادر الجميع حلمها في الحرية والانعتاق من قسوة الأعراف والتقاليد التي أمست بالنسبة لها نوعاً من سجون لا مرئية. سجون كل يوم تضعها كموضوع للجنس والرغبة، وتعدها ضحية مؤجلة، فهي تخاف مثل كثيرات من أن تكون الضحية التالية لما يمارسه مجتمعها من قتل علني للنساء.

هموم

الشاب بدوره يجد في كلام الفتاة نوعاً من الميوعة والهذر لا طائل منه، فباعتقاده أن كل النساء في مدينته يشكين من هموم لا قيمة لها، فكل شيء تم تسليعه وكل شيء يمكن أن نجده ما دام له ثمن. يسوق الشاب حديثه وهو يترنح تحت تأثير الكحول، فيما تحاول الفتاة أن تعيده إلى رشده في كل مرة يقترب من المتحدر محاولاً رمي نفسه من فوق التل المشرف على بيوت المدينة، والتي يقدمها العرض كمدينة شاحبة بنوافذ مطفأة تحيط بها أصوات سيارات الإسعاف وصراصير الليل، وبينما يتبادل الشابان حديثهما عن اليأس والتخلي عن الحياة تفشل كل المحاولات في عزم كل منهما على الانتحار، فالفتاة تكشف عن أن خطيبها ذا الرأس الحامي ما هو سوى قصة من اختراعها كي ترهب الشاب به، وتمنعه من التحرش بها، فيما يستمر الشاب في تناول جرعات إضافية من الكحول تساعده على التخلي عن خوفه ووضع حد لحياته الباهتة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتبدو المفارقة الساخرة مع التقدم في زمن العرض واقتراب بزوغ الفجر، فالفتاة التي كانت تعول على وضع حد لحياتها ها هي تفشل في ذلك، وهذا يعني أنها باتت ليلتها خارج البيت، مما سيرتب عليها مساءلة وعقاب من أهلها، فماذا ستقول لهم، وأين قضت ليلتها خارج المنزل؟ سؤال لا يكترث له الشاب الذي يتمتع بشخصية ساخرة مفعمة باللامبالاة والشعور بالعدمية، وهو ينتظر إفراغ زجاجته من الشراب حتى ينهي حياته، لكن هذا لن يحدث بعد أن يفصح كل من الشابين أنه ولو أول مرة يتحدثان بهذه الطلاقة، فكل منهما كان يعاني الوحدة والاغتراب في مدينة تغيرت وتغير معها كل شيء.

لا يصرح العرض بوقوع الشاب في غرام الفتاة، لكن هذا سيتضح من السياق عندما يغط الشاب فجأة في نوم عميق، فيما نشاهد الفتاة تقوم بنزع مئزرها وتغطيه به، ثم تنسحب من المكان لا تلوي على شيء. ينتهي العرض بانبلاج الفجر، واستيقاظ المدينة على أصوات وجلبة باعتها وموظفيها والأطفال الذاهبين إلى مدارسهم. نهاية مفتوحة تركها الفنان وليد العاقل كإجابة من جملة إجابات تطل على واقع جيل الحرب السورية وما قبلها، وصولاً إلى عرض لم يتوخ الإغراق في المأسوية واستجداء الشفقة لشخصيتيه، بل عمل على تطريف الواقع وجعله مسلياً حتى في أشد مآزقه الراهنة قسوة ودموية.

حلول

من هنا يمكن القول إن "ليل المدينة" لا كنهارها، فلقد وجد مخرج العرض ومعده حلوله البسيطة، ليكون هذا الليل بمثابة مساحة من بوح، واعترافات صعبة جعلت من الحب ملاذاً لشاب وفتاة يحاصرهما الخوف من كل شيء حولهما، وهذا ما دعم الفرضية التي استند إليها العاقل في إدارة ممثليه، والذهاب معهما إلى أقصى درجات المواجهة، والبحث مجدداً في سيكولوجيا المنتحرين، وعن ماهية الانتحار كعنف موجه نحو النفس، والذي بغالبه يكون نوعاً من الاحتجاج من الشخص المنتحر إزاء محيطه العام، وشعوراً عميقاً بالذنب لا يتم التكفير عنه إلا بقتل النفس ونحرها.

على مستوى آخر راهن مخرج "ليل المدينة" على تقشف في الديكور (هلال ناصر الدين) معتمداً في ذلك على توظيف مقعد في حديقة وعمود إنارة وشجرة عارية الأغصان للإيحاء بالمكان (الشارع)، فيما حافظت الإضاءة (فيصل حاطوم) على صيغتها العامة دون اللجوء إلى بقع ضوئية، بل التعويل على إنارة خافتة إلى جانب شاشة عرض في عمق الخشبة صورت المنحدر الخطر الذي تجري أحداث العرض عند حافته، وعليه ركز مخرج العرض على الحياة الداخلية لشخصيتيه، وعمل على إدارة ممثليه وفق شرط المسرح الواقعي، ودون اللجوء إلى شطحات في الأداء، مما جعل (62 دقيقة) وهو زمن العرض يمضي من ذروة إلى أخرى، ويطرح أسئلة محرجة عن انعدام الأفق لدى الجيل الجديد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة