Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السياسة والثقافة

العرب كانوا ولا يزالون رواداً للنهضة وطلائع للتنوير للعالم كله

أصدر طه حسين كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938 لإيجاد قنطرة بين الثقافة والسياسة    (مواقع التواصل)

ملخص

فرضت الظروف الدولية والتحالفات الخبيثة على العلاقة بين الثقافة والسياسة بعض التراجع مرحليا لكنها قابلة للتجدد، فالبذرة الجيدة لا تموت أبدا. 

تحدث كثيرون عن خصومة متوارثة بين السياسة والثقافة فلا يوجد ارتباط شرطي بينهما، بل يبدو في كثير من الأحيان أن العكس هو الصحيح وواقع الأمر أن الثقافة وعاء ضخم يحوي المخزون الإنساني من عقول أصحابه، ذلك أن التربية السياسية ليست بالضرورة واحدة من أنماط التعمق الثقافي.

 صحيح أن بعض المثقفين الكبار وصلوا إلى مواقع السلطة الأولى، فكان هافل رئيس جمهورية التشيك على سبيل المثال روائياً مرموقاً، وكان رونالد ريغان ممثلاً معروفاً على الساحة الأميركية قبل أن تقذف به الأقدار إلى المقعد الأول في الإدارة الأميركية، وهناك نماذج كثيرة لتحول الدور الثقافي إلى قوة دفع سياسية كما قد يكون العكس صحيحاً بمعنى أن الوجود على الساحة السياسية والارتباط بالعمل العام يمكن أن يؤديا إلى حالات من التميز تدفع صاحبها إلى صدارة المشهد الثقافي والسياسي معاً.

 ولقد أصدر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938 محاولاً إيجاد قنطرة بين الثقافة والسياسة وتجسير الفجوة بينهما على نحوٍ يدعو إلى الانبهار، وعلى رغم أنه ربط بين مستقبل الثقافة المصرية وعلاقتها على مستوى شواطئ المتوسط وجعل الثقافة الهيلينية أحد روافد الثقافة المصرية المعاصرة، أقول إنه عندما فعل ذلك فإنه كان يفتح الباب على مصراعيه لحوار متدفق بين الشرق والغرب يبحث في الهوية المصرية وسلوكيات المصريين على مر العصور.

 وفي ظني أن طرق مثل هذه الأبواب من مفكر التجديد والحرية طه حسين إنما يشير إلى حال من الوعي ربما لم يستِعدها العقل المصري بالدرجة نفسها في وقت آخر، ولقد حرصت عندما توليت إدارة مكتبة الإسكندرية العريقة (2017-2022) على أن أعيد طبع كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" احتفالاً بالمئوية الأولى لصدوره.

ولفت نظري إقبال الشباب من الأجيال الجديدة على قراءة ذلك الكتاب، بل اقتنائه باعتباره أحد الكتب المحورية في الفكر السياسي المصري المعاصر، ولا شك في أن مؤلف الكتاب الدكتور طه حسين في حد ذاته يمثل قنطرة للتعايش المشترك بين الثقافات والتجاور التاريخي بين الحضارات.

 وفي منطقتنا العربية كان بشارة الخوري شاعراً وسياسياً وكان عبدالله الفيصل أميراً سعودياً مرموقاً وشاعراً صدحت بكلماته كوكب الشرق أم كلثوم، أي أن التزاوج بين الثقافة والسياسة ليس جديداً على المستويين العالمي والعربي، وهنا أطرح دعوة إلى الحوار حول هذا الموضوع يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أولاً: إن التداخل بين الرؤية العامة والبعد الثقافي ليس جديداً على التاريخ الإنساني منذ احتوت قصور الولاة والخلفاء، محاورات للشعراء والأدباء الذين أجزل لهم الحكام المنح والعطايا حتى إن انتهت حياة بعضهم بمأساة مثلما حدث بين المتنبي شاعر العرب الأول وكافور الإخشيد عندما قال المتنبي "لا تشتَر العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ".

 فالخلاف بين السلطان والمثقف أو بين الحاكم والفقيه خلاف تاريخي معروف عصفت فيه السياسة كثيراً بالثقافة والمثقفين وإن كان بعضهم اجتمع لديه الأمران معاً، فمحمود سامي البارودي رب السيف والقلم، وكان ثروت عكاشة من الضباط الثوار وتولى مسؤولية الملف الثقافي لأعوام في مصر جرى خلالها نقل آثار معبد أبو سمبل بسبب بناء السد العالي، وإن هذا النموذج يستحق الاحترام والتقدير لأنه جمع الحسنيين التألق الثقافي والعمل السياسي.

 ثانياً: إن التقاليد الفكرية العربية قدمت نماذج باهرة للتزاوج بين الأدب والشعر في جانب والسياسة والحكم في جانب آخر لأن ذلك أقرب إلى طبيعة العقلية العربية التي تعتمد على ذاكرة الحفظ والتهام التراث ومخاطبة الطبيعة وتأمل الصحراء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وما زلنا نتذكر كيف كان الخلفاء يخرجون إلى الأسواق ويغشون البيوت الفقيرة ويتابعون أصحاب المظالم، فالثقافة العربية تجعل سلوك الحاكم جزءاً لا يتجزأ من ثقافته وتربط بإحكام بين قدراته وما يمكن أن يؤديه في اتجاه يخدم مصلحة الأمة، لذلك فإننا لا نكابر كثيراً في إعطاء العرب حقهم التاريخي في الاختراع بل الإبداع أيضاً.

 وإذا كان هناك من يدعي اليوم أن هناك خصومة بين الثقافة والسياسة، فإننا ندفع هنا بشواهد تشير إلى غير ذلك، فالمجالس الحسنية في المغرب تألقت لأعوام طويلة ومهرجان الجنادرية في السعودية وجلسات الديوانية في الكويت والصالونات الثقافية في مصر وأيقونة محمد بن عيسى في المغرب المسماة "مهرجان أصيلة"، هذه كلها نماذج لمجالس ولقاءات تجمع بين السياسة والثقافة ويقوم عليها سياسيون ومثقفون في الوقت ذاته.  

ثالثاً: إن هناك عدداً من المراكز العلمية والبحثية قد خرّج قوافل ممن يهتمون بالسياسة والثقافة معاً، بل إن الدولة العربية الحديثة ولدت من رحم الصفوة المتميزة من أرباب القلم ودعاة المعرفة والفكر الذين ربطوا الثقافة بالحياة اليومية وجعلوها روزنامة للشأن اليومي على مستوى الأفراد والمجتمعات، ويستأثر العرب المحدثون بتقاليد راسخة من الفكر والبصيرة ويتمكنون من توظيف ما تعلموه وما أدركوه بصورة متواصلة في خدمة الثقافة والسياسة في وقت واحد.

وأنا أتذكر الآن أن مصر الملكية في عهد أسرة محمد علي استوزرت عدداً كبيراً من المفكرين والمثقفين والعلماء، فنحن ما زلنا نتذكر أسماء مثل أحمد لطفي السيد باشا وطه حسين باشا ومحمد حسين هيكل باشا وغيرهم ممن جمعوا بين المعرفة الأفقية والثقافة الرأسية في مدارس الأدب وصالونات الفكر، بل مزج كثير منهم بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية المسيحية سواء كانت لاتينية أو أنغلوسكسونية.

إننا بصدد موزاييك فكري وثقافي تألق على المسرح السياسي بصورة ملحوظة، وهل ننسى أن الثنائي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده قدما نموذجين باهرين لمزج الدراسات الإسلامية في العهد الذي عاصروه، حتى إن محمد عبده كان يراسل الأديب الروسي تولستوي دلالة على ارتفاع مستوى المثقفين العرب إلى مستوى الحياة السياسية في أعلى درجاتها حينذاك.

 رابعاً: إن أسرة محمد علي مؤسس مصر الحديثة تميزت بتوزيع الأدوار بينهم على الأنشطة الثقافية المختلفة، فالنبيل عمر طوسون يرعى إقليم الإسكندرية ويهتم بنشاط حزب الوفد ويعبر عن إرادة المصريين بمؤلفاته القيمة، والنبيل عباس حليم كان معنياً بالحركة العمالية والطبقة المؤثرة في الصناعة والنهضة، بينما تفرغ النبيل يوسف كمال ومعه ابن عمه محمد علي الصغير الذي كان ولياً للعهد في عصرَي فؤاد الأول وفاروق الأول للفنون الجميلة والتراث الباقي في أحضان دولنا العربية وأقاليمنا الشرقية، أي أن الأسر الحاكمة لم تكُن بمعزل عن التيارات الثقافية أو موجات التحضر التي اجتاحت عدداً كبيراً من البلاد في منطقتنا العربية.

بل إن بعض المشايخ الأزهريين في مصر في القرن الماضي وقفوا على مشارف جائزة نوبل للسلام، ونتذكر منهم الآن الشيخ طنطاوي جوهري، حتى تنافس الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقيروان في المغرب في مضمار الأدب والفن والسياسة في وقت واحد. 

خامساً: إن رواد عصر النهضة العربية من أمثال رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك واليازجي وخليل مطران وقبلهم جميعاً صاحب الأيقونة التاريخية المسماة كتاب "النبي" جبران خليل جبران حملوا جميعاً مشاعل الضوء في الأراضي العربية وبلاد المهجر وظلوا دائماً مركز إِشعاع بالثقافة الرفيعة والفهم الواقعي للسياسة العصرية المستنيرة.

هذه ملاحظات نوردها في إيجاز لأننا نريد أن تبقى مكانة العرب في الميدان الثقافي متقدمة، فإذا كانت الظروف الدولية والتحالفات الخبيثة فرضت عليها بعض التراجع مرحلياً، إلا أن ذلك لا ينفي أن العرب كانوا ولا يزالون رواداً للنهضة وطلائع للتنوير للعالم كله، فالبذرة الجيدة لا تموت أبداً.  

اقرأ المزيد

المزيد من آراء