ملخص
يرى باحثون أميركيون أن سياسة إعاقة تطور الصين في مجال الرقائق والذكاء الاصطناعي غير مجدية على المدى البعيد، بالتالي يجب استبدالها بالتركيز على قوة الابتكار والتقدم العلمي وتحفيز التقنيات الصاعدة كالحوسبة الكمومية، كي تضمن استمرار تفوقها في المنافسة مع الصين
في عام 2022 وفي خضم توترات بين الولايات المتحدة والصين، فرضت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مجموعة من الضوابط على الصادرات بهدف منع الصين من الحصول على أشباه موصلات متقدمة وغيرها من المعدات اللازمة لإنتاجها محلياً. تمثل الهدف المعلن لتلك القيود بحرمان الصين من القدرات الأكثر تقدماً في مجال الذكاء الاصطناعي التي قد تستعمل في تحديث أسلحتها النووية والتقليدية. وشددت وزيرة التجارة جينا ريموندو على أن تلك الضوابط "مركزة بشكل فائق" على إعاقة التطور العسكري لبكين. لكن تلك الإجراءات نفسها ربما تحمي التفوق التكنولوجي والاقتصادي الذي تحوزه الولايات المتحدة مقارنة مع الصين. وعلى رغم أن الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي لم ترد صراحة بوصفها هدفاً لتلك القيود، فإن مسؤولين أميركيين تضم صفوفهم ريموندو ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، شددوا بصورة دائمة على أن هذا الأمر يشكل عنصراً أساسياً في الميزة الاقتصادية التنافسية التي تتمتع بها البلاد، والتي تعزز بدورها الأمن القومي الأميركي.
لكن القيود على الرقائق الإلكترونية قد تفشل في تحقيق أي من الهدفين [التفوق الاقتصادي والقيادة في الذكاء الاصطناعي]. فهي من غير المرجح أن تؤدي إلى إبطاء التحديث العسكري لبكين الذي من المستطاع تحقيق جله باستخدام أجيال قديمة من الرقائق الإلكترونية. وعند الحاجة لاستخدام الرقائق الأكثر تقدماً، يستطيع الجيش الصيني أن يستعمل رقائق سبق استيرادها، ورقائق مهربة وأخرى مصممة ومصنعة محلياً. بالتالي، من شأن الضوابط أن تكون أكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بتمكين الولايات المتحدة من الاحتفاظ بتفوقها في التكنولوجيا. وإذا أدت الضوابط إلى إبطاء قدرات الصين في تطوير وتوظيف قدراتها في الذكاء الاصطناعي، فقد تنجح في إبطاء نمو الصين وتلجم قدراتها التنافسية، مما يسهم في احتفاظ الولايات المتحدة بموقعها المتفوق.
في المقابل، لن تؤتي تلك الضوابط أكلها إلا بصورة موقتة وبكلفة مرتفعة.
ثمة مؤشرات قوية إلى أن الضوابط تحفز الصين على التطوير المحلي لسلسلة إمداداتها الذاتية في أشباه الموصلات. بالتالي، قد تؤدي أفعال الولايات المتحدة إلى إبطاء الابتكار والنمو الصينيين، لكن على المدى القصير وحده، فيما ستعمل فعلياً على تسريع التقدم التكنولوجي الصيني. وأثناء ذلك، باتت شركات معدات الرقائق في الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، تشهد بالفعل تراجعاً في عائداتها بسبب إجبارها على ترك السوق الصينية، ما يحرمها من رؤوس أموال تستلزمها عمليات البحوث والتطوير. وقد تستطيع صناعة أشباه الموصلات الصينية اللحاق بركب التطور في مستقبل قريب، ما يحمل إمكانية كامنة بتقليص تفوق الولايات المتحدة وشركائها، على الصين. وفي الوقت نفسه، قد تحمل ضوابط التصدير خطراً متزايداً بفك الترابط الاقتصادي [بين واشنطن وبكين] وتعميق الشرخ الجغرافي - السياسي بينهما.
تحوي الاستراتيجية الأميركية الحالية بعض العيوب، ما ينبغي على واشنطن القيام به هو التركيز بصورة أقل على إبطاء التقدم الصيني، وزيادة التركيز على تحسين قدراتها الذاتية في ملكة الابتكار، وللمضي قدماً، يجب على الحكومة الأميركية الاستفادة من التباطؤ الصيني الموقت الذي تحدثه ضوابط الصادرات، وترسخ تقدمها الحاسم في مجموعة من التقنيات الأكثر أهمية بالنسبة إلى المستقبل.
الاحتفاظ بالتقدم ولو بخطوة واحدة
لقد أحرزت صناعة أشباه الموصلات في الصين تقدماً كبيراً خلال السنوات الـ10 الماضية في مجالات تصميم الرقائق وأدوات صناعتها، والإنتاج المتقدم لها. تتصدر شركتان أميركيتان متخصصتان في تصميم الرقائق هما "إنفيديا" Nvidia و"أي أم دي" A M D، سوق رقائق الذكاء الاصطناعي، ولكن شركتين صينيتين تعملان في تصاميم الرقائق هما "هواوي" Huawei و"بيرن" Biren أحرزتا تقدماً في ذلك المجال. الشركتان كانتا قد كشفتا عن رقائق متطورة لديهما خصائص في الأداء تتشابه مع نظيراتها من الشركات الأميركية. وقد فعلت "هواوي" ذلك في عام 2019 و"بيرن" في 2022. في المقابل، حتى لو اقتربت الشركات الصينية بشكل لصيق من الشركات القيادية الأميركية، فستبقى متأخرة في مجال تصنيع أشباه الموصلات التي تتمتع بالعقد المعلوماتية المتقدمة، أي الرقائق التي لديها أصغر عقد على مقياس النانومتر، وهي تمنح الذكاء الاصطناعي قوة الحوسبة المطلوبة لتطوره. [العقد المعلوماتية هو وصف لنقاط في الرقائق تتقاطع وتتلاقى فيها التيارات الإلكترونية التي تحمل البيانات إلى العقد حيث تجري عمليات معينة لربطها وتحليلها. وكلما كانت نقاط التلاقي أكثر كثافة، بالتالي أصغر حجماً، زادت كمية التدفقات الإلكترونية فيها، وكذلك القدرة على ربطها وتحليلها بواسطة برامج الحوسبة الذكية. وتقاس تلك الكثافة المسافة التي تمتد العقد عليها، التي تقاس بالنانومتر، ما يعني أنه كلما كان القياس بالنانو أقل تكون الرقاقة أكثر قوة في الحوسبة].
وفي الوضع الحالي، فإن العمليات الأكثر تقدماً التي تنجزها الشركات الصينية الريادية في تلك الصناعة، وهي "الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات" Semiconductor Manufacturing International Corporation، "أس أم أي سي" SMIC، تؤدي إلى صناعة رقائق تتأخر عن نظيراتها الأكثر تقدماً بما يراوح ما بين خمس وست سنوات.
وأبعد من ذلك، تستمر أفضل المصانع التي تملكها "أس أم أي سي"، في الاعتماد على معدات هولندية ويابانية وأميركية، إذ تظل المعدات الصينية عاجزة عن إنتاج الرقائق الأكثر تقدماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تريد الحكومة الأميركية حماية تقدم البلاد، وتسعى إلى "المحافظة على أوسع تقدم ممكن" في التكنولوجيات التي تعطي القوة اللازمة لتحديث القوات العسكرية والاستمرار في النمو الاقتصادي، بحسب ما قاله سوليفان في سبتمبر (أيلول) 2023. تلتزم إدارة بايدن بضمان أن تحتفظ الولايات المتحدة بالموقع المتقدم في الذكاء الاصطناعي، خصوصاً عبر الحفاظ على تقدمها التكنولوجي في الرقائق من الأنواع التي تؤدي دوراً محورياً حاسماً في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي. وقد لخصت ريموندو خطة في شأن ذلك، وقدمتها بوضوح في ديسمبر (كانون الأول) 2023، وأوردت أن "أميركا تقود العالم في الذكاء الاصطناعي. أميركا تقود العالم في تصاميم أشباه الموصلات المتقدمة. نقطة وانتهى. نحن نتقدم على الصين ببضع سنوات. ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نسمح لهم باللحاق بنا". واستناداً إلى ذلك، جاءت ضوابط الصادرات.
لن تؤتي ضوابط الصادرات أكلها إلا بصورة موقتة وبكلفة مرتفعة
الواقع هو أن الهدف الذي حددته واشنطن علانية لنفسها محدود الأفق، إذ يقتصر على منع الصين من الوصول إلى الرقائق من الأنواع التي يصنفها "وزارة الصناعة والأمن" بأنها قد تستعمل "في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدماً باعتبار أنها تملك إمكانية بينة في تطوير التطبيقات المتعلقة بالعتاد الحربي الأشد تقدماً". ولكن، بحسب سوليفان، فإن الحفاظ على التقدم الأميركي في أجهزة الحوسبة والذكاء الاصطناعي، من شأنه أيضاً تطوير تنافسيتها الاقتصادية، ولا يقتصر أمره على حفظ التفوق العسكري وحده. وعلى رغم نفي إدارة بايدن أن يتمثل القصد من ضوابط الصادرات بوضع حد للتطور التكنولوجي أو الاقتصادي الصيني، فإن القيود تحمل إمكانات كامنة للتوصل إلى وسائل لتحقيق ذلك الأمر. إن حظر الصين من الوصول إلى الرقائق الأكثر تقدماً يجب أن يقيد قوة الحوسبة المتوفرة للشركات الصينية ومهندسيها، مما يفضي إلى خفض مستوى قدرة تلك البلاد في تصميم أنظمة متطورة في الذكاء الاصطناعي، والحصول على منافع إنتاجية.
ولقد وصفت إدارة بايدن سياستها تلك، بأنها تعتمد مقاربة "الحقل الصغير، والسياج العالي"، مما يعني أن القيود الأشد قسوة ستطبق على مدى ضيق من الرقائق وأدوات إنتاجها. في عام 2022 حظر المشرعون الأميركيون تصدير الرقائق الأعلى تطوراً، إلى الصين، أي تلك التي تستخدم في بناء نماذج الذكاء الاصطناعي، وكذلك الحال بالنسبة إلى المعدات المستخدمة في صناعتها. وحينما تكشفت ثغرات في تلك القيود خلال عام 2023 شددت الإدارة الضوابط، ونسقت القيود مع حلفائها. ومن المرجح أن يستمر هذا النظام في التطور كلما وجدت الشركات الصينية طرقاً للالتفاف على العقوبات، وكلما تعرفت الحكومة الأميركية على مزيد من أوجه القصور في جهودها الرامية إلى إبطاء التقدم التكنولوجي الصيني.
تصيب واشنطن في شأن التضافر بين الأمن القومي للبلاد وقدرتها التنافسية في الاقتصاد. واستنتاجاً، من مصلحة أميركا إعاقة تحديث القوة العسكرية الصينية، وكذلك الحال بالنسبة إلى السعي إلى الحفاظ على أن تكون القدرة التنافسية الأميركية في الاقتصاد والتكنولوجيا، متقدمة على ما تملكه بكين بخطوات عدة. لكن المشكلة تكمن في أنه من غير المرجح أن تؤدي ضوابط التصدير إلى إحداث إبطاء فاعل في تحديث القوات العسكرية الصينية، ولن تنهك تنافسية الصين الاقتصادية إلا بصورة موقتة.
إذا وجدت الإرادة
لن تفعل ضوابط الصادرات الشيء الكثير في لجم مسار الصين لتحديث قوتها العسكرية، لأن معظم أنظمة الأسلحة حالياً لا تعتمد على الرقائق الأكثر تطوراً التي فرضت القيود عليها. وقد اعترف حتى بعض المشرعون الأميركيون بذلك، وبدلاً من ذلك، تعطي المنظومات العسكرية الأولوية للرقائق الموثوقة والمجربة جيداً، التي تنتج عادة بواسطة معدات أقدم [من تلك التي تتوصل إليها الشركات وتكون على الحد الأعلى من التقدم التقني]. ولا تنطبق ضوابط الصادرات لعام 2023، على الرقائق المستخدمة بالفعل في معظم أسلحة الحرب بما في ذلك الدبابات وأنظمة الصواريخ وحتى الطائرات المسيرة. ويعني ذلك أن تلك القيود لا تولد سوى تأثير محدود على تلك القدرات التسليحية. ومع ذلك، تجد الرقائق الأكثر تقدماً مجالات لاستخدامها في بعض التطبيقات العسكرية، خصوصاً أنها تستطيع تسريع إنشاء تصاميم لأنظمة صواريخ متقدمة وأسلحة الدمار الشامل.
لكن، بمقدار ما يحتاج العسكريون الصينيون إلى قدرات حوسبة متقدمة كي يطوروا الأسلحة ويدربوا نماذج الذكاء الاصطناعي، سيعمدون إلى تلبية متطلباتهم عبر استعمال رقائق مهربة والاعتماد على أعداد كبيرة من البدائل المحلية الأقل كفاءة. إن القيود على التكنولوجيا التي فرضها الغرب على روسيا عقب غزوها أوكرانيا في عام 2022، أوضحت التحديات المتضمنة في منع التهرب والمراوغة. وعلى رغم المدى غير المسبوق من العقوبات المنسقة، فإن القيود السارية على التصدير إلى روسيا لم تمنعها من استيراد كميات كبيرة من السلع الاستراتيجية، بما في ذلك أشباه الموصلات التي تصممها شركات أميركية. إذا تمكن العسكريون الصينيون وشركاؤهم التجاريون من تهريب ما لا يزيد على 11 ألفاً من رقائق "إتش 100 أي آي" H100 AI الفائقة التطور من صنع "إنفيديا" [مخصصة للذكاء الاصطناعي المتطور]، أي ما يوازي 0.73 في المئة من الـ1.5 مليون رقاقة التي يتوقع أن تصدرها الشركة في عام 2024، فالأرجح أن يتمكن الجيش الصيني من تدريب نماذج لغوية كبيرة متطورة نسبياً، خلال أسبوع. وستؤدي الضوابط إلى تأثير أدنى حتى من ذلك، بالنسبة إلى قدرة الصين في تطوير أنواع أخرى من نماذج الذكاء الاصطناعي التي لا يستلزم تدريبها سوى رقائق أقل عدداً وأقل تطوراً. وكذلك تستطيع الصين الاستفادة من الرقائق المنتجة محلياً التي تتساوى الأفضل من بينها مع أفضل ما تنتجه "إنفيديا".
ولربما تسببت ضوابط الصادرات في رفع كلفة الجهود المبذولة لتحديث القوة العسكرية للصين، لكن حكومة بكين تملك سجلاً حافلاً في التوسع بالمصادر اللازمة لتحقيق أهدافها العسكرية. وبالطبع، يرجع جزء من السبب في التقدم المحرز ضمن صناعة أشباه الموصلات المحلية إلى التوظيفات التي تضخها بكين بصورة متواصلة في ذلك القطاع. ومع الأخذ بعين الاعتبار الانتشار الواسع للرقائق الخاضعة للرقابة والصعوبة في منع التهريب، وتوفر بدائل لا تخضع للقيود، يتضح أن القيود على الصادرات الأميركية في الرقائق المتطورة لا تملك سوى مدى محدود من القدرة على إبطاء جهود الصين في تحديث قوتها العسكرية.
نافذة الفرص تتقلص
تبدو الضوابط على الصادرات الأميركية واعدة أكثر في مجال ضمان استمرارية التفوق الأميركي في المنافسة، مقارنة مع قدرتها على إبطاء تطوير الصين لنماذج الذكاء الاصطناعي ووضعها قيد الاستخدام الفعلي. في المدى القصير، يرجح أن يستطيع المخزون الضخم من رقائق الذكاء الاصطناعي الصينية، الإيفاء بالطلب عليها، لكن، سيستنفد ذلك المخزون سريعاً، وستبدأ ضوابط الصادرات في إحداث الألم للصين. وحتى مع البدائل المهربة والمصنعة محلياً، يرجح أن تفقد الصين القدرة على الوصول إلى الإمدادات الضخمة من الرقائق المتطورة التي تحتاج إليها كي ترتقي بمستوى استخدام الذكاء الاصطناعي في كل مناحي اقتصادها، مما يحمل إمكانية إبطاء تطورها الاقتصادي مقارنة مع الولايات المتحدة. وحينما ستصل الصين إلى تطوير بدائل محلية في أدوات صنع أشباه الموصلات المتطورة وإنتاج الرقائق، ستكون الولايات المتحدة قد تقدمت عليها. في المقابل، يرجح ألا يدوم ذلك التقدم إلا بشكل مرحلي.
واستطراداً، فإن المشكلة الرئيسة لواشنطن تتمثل في حتمية أن تؤدي ضوابط الصادرات إلى تسريع تطور الصين في الصناعة المحلية لأشباه الموصلات. ومع تقييد وصول الصين إلى رقائق وأدوات إنتاج مصنوعة في الخارج، تعمل الضوابط بالفعل على إحداث طلب جديد للمعدات الصينية المحلية، والقدرة على الإنتاج، والرقائق المخصصة للذكاء الاصطناعي. ويلقي هذا الطلب المحلي بضغوط مستمرة على الشركات الصينية كي تستثمر في سلسلة الإمدادات بأشباه الموصلات، إضافة إلى التعاون والتنسيق مع جميع أطراف تلك السلسلة وفي المستويات كلها. وتستمر شركات يابانية وهولندية وأميركية عدة، في الإمساك نظرياً بالقدرة على حجب الأدوات اللازمة صنع الرقائق الأكثر تطوراً. في المقابل، تعمل ضوابط الصادرات الأميركية على منع تلك الشركات من بيع معداتها إلى الصين، وبالتالي، فإنها تولد ظروفاً في السوق تسهم في دفع العائدات باتجاه صناع المعدات الصينين وتتيح لتلك الشركات التوظيف في نشاطات البحث والتطوير اللازمة لإنتاج أدوات ومعدات أكثر رقياً وتقدماً.
يجب على واشنطن التركيز أكثر على تحسين قدرتها الذاتية في ملكة الابتكار
وربما أدت ضوابط الصادرات إلى تحفيز صناعة أشباه الموصلات في الصين كي تلتحق بمستويات الشركات الريادية في ذلك السوق. وبالنظر إلى المعدل السائد حالياً في التقدم، من المرجح أن تستطيع الصين وليس بعد وقت طويل تصنيع المعدات اللازمة لإنتاج أشباه الموصلات المتطورة. وحينما يحدث ذلك ستتمكن شركات تصميم الرقائق الصينية من استعمال الإنتاج المحلي لإنتاج رقائق للذكاء الاصطناعي متقدمة المستوى، ولنشر الذكاء الاصطناعي في قطاعاتها الاقتصادية كافة. ولا يعرف متى ستصل الصين إلى تلك العتبة المفصلية، لكن الولايات المتحدة لا تملك سوى نافذة فرصة مرحلية في الاستناد على التفاوت الذي يفصلها عن الصين.
وكذلك ستعمل الميول في صناعة الرقائق على تقليص تلك النافذة، وحاضراً، تعمل شركات وضع تصاميم رقائق الذكاء الاصطناعي على توصيل مجاميع من رقائق أقل قوة، يشار إليها باسم "شيبلتس" chiplets، لتكوين رقاقة تضم حزمة تتمتع بأداء مرتفع له قوة أكبر في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي ووضعها قيد الاستعمال.
هنالك شركات عدة في صناعة أشباه الموصلات تستعمل تلك الاستراتيجية [شيبلتس] بغية تخفيض كلف التصاميم والتصنيع، وتتبع شركات صينية عدة المقاربة نفسها، بدعم من الحكومة. ويضاف إلى ذلك أن بحاثة الذكاء الاصطناعي في الصين وبلدان أخرى يعملون على تطوير نماذج في الذكاء الاصطناعي تكون أصغر وأقل تقدماً [من النماذج الأساسية الكبرى مثل "شات جي بي تي"]، لكنها تبقى فاعلة تماماً، وتتطلب مستوى أقل في قوة الحوسبة. وقد يسهم الابتكاران كلاهما [شيبلتس والنماذج الصغرى في الذكاء الاصطناعي] في احتفاظ الصين بالقدرة على اللحاق بركب التقدم في الذكاء الاصطناعي، مع عمل شركاتها في تلك التقنية على التوسع في تطوير معدات متقدمة لصنع الرقائق.
وأثناء ذلك، ستتسبب الضوابط الأميركية في خسارة شركات أميركية وحليفة لها، لأعمالها التجارية في الصين، مما يوصل تلك الشركات إلى امتلاك أموال أقل للاستثمار في البحث والتطوير. وعلى المدى القصير، سيكون هذا التأثير ضئيلاً، وقد أدى الازدهار الحالي للذكاء الاصطناعي إلى تكوين طلب على الرقائق العالية الأداء، فاق إمداداتها بمرات عدة، بالتالي، فإن رقائق "إنفيديا" المتقدمة التي كان محتملاً أن تبيعها في الصين، جرى بيعها بالفعل في أمكنة أخرى. لكن، على مدى أطول، يتوقع أن يؤدي إخراج سوق الصين الضخمة إلى خسارة مؤثرة في عائدات الشركات الغربية.
وكذلك قد تحفز ضوابط الصادرات مسار التفكك في الاقتصاد العالمي، وتعمق الشق بين الصين والولايات المتحدة. لذا، فإن حقلاً أكبر مع سياج أعلى قد يخفض الاعتماد المتبادل بين البلدين ويعمق عداوتهما في الجغرافيا السياسية، مع ما يتضمنه ذلك من إمكانية وضع أميركا والصين على مسار تصادمي. وبالفعل، أدت ضوابط الصادرات إلى تصعيد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، وأسهم في تقييم الزعيم الصيني شي جينبينغ بأن أميركا تسعى إلى تنفيذ "سياسية شاملة في الاحتواء والتطويق والقمع ضدنا".
تسريع الابتكار
إن السؤال الرئيس المطروح الآن هو ما إذا كانت واشنطن قادرة على الاستفادة من نافذة الفرصة التي تتيحها ضوابط التصدير في إحداث اختراقات نوعية في علوم الحوسبة. وبهدف التوصل إلى ذلك، يتمثل الرهان الأفضل للولايات المتحدة على المدى البعيد، في تعزيز إنجازاتها التكنولوجية المتقدمة وقدراتها في الابتكار.
لقد أحرزت الحكومة الأميركية تقدماً جيداً على تلك الجبهة عبر "قانون الرقائق والعلوم، 2022" الذي تضمن استثمار 52 مليار دولار في إنتاج أشباه الموصلات المتقدمة، والبحوث التطبيقية، وصنع النماذج الأساسية الأولية، والتسويق التجاري. ومن شأن مصانع التصنيع المحلية المتقدمة أن تسهل على الباحثين في مجال أشباه الموصلات في الولايات المتحدة تطوير وتوسيع نطاق التقنيات الجديدة والمتطورة. وعلاوة على ذلك، يمول "المركز الوطني لتكنولوجيا أشباه الموصلات"، الذي موله "قانون الرقائق"، مرافق متطورة لتعزيز التعاون بين شركات أشباه الموصلات الأميركية والباحثين من الشركات والحكومات والجامعات.
وتشكل تلك المعطيات خطوات في الاتجاه الصحيح، لكن يرجح أنها غير كافية. إذ تركز على الابتكار التراكمي بأكثر من الاستثمار في الابتكارات الكبرى. وفي وقت استطاع فيه الإنتاج الصيني المحلي للرقائق أن يلحق بركب المنافسة، يجب أن تكون الولايات المتحدة قد تحركت بالفعل للتعامل مع المستويات المتقدمة المقبلة في الحوسبة المتطورة. وهنالك الحوسبة المستندة إلى الضوء (التي تستعمل الفوتون للتعامل مع البيانات)، وحوسبة التشبيه العصبي (التي توظف آليات تحاكي دماغ الإنسان)، اللتان تمثلان المرشحان الواعدان في الجيل المقبل من النموذج العلمي للحوسبة. ويضاف إلى ذلك أن الحوسبة الكمومية (التي تستعمل المكونات التي تتألف منها الذرة في التعامل مع المعلومات)، يجب أن تعمل على إحداث قفزة نوعية كبرى في تسريع الحسابات ضمن تطبيقات معينة. وتحمل تلك التقنيات الصاعدة إمكانية كامنة للتوصل إلى حوسبة بسرعات غير مسبوقة مع استخدام كميات أقل وأقل من الطاقة، بالتالي، تسهيل الاكتشافات العلمية والتغييرات الكبرى في الصناعات وتحديث القوى العسكرية.
وكذلك يجب على واشنطن الآن دفع عجلة التقدم في تلك التكنولوجيات العالية الطموح والتطلعات، عبر تمويل البحوث الأساسية وتوسيع برامج تطوير القوى العاملة والتوظيف في منظومة الصناعة المحلية.
ويجب أن تضع واشنطن على رأس أولوياتها مسألة الدفع بالابتكارات الأميركية إلى الأمام، في سياق المنافسة مع الصين. ومع الأخذ بعين الاعتبار حجم الصين ووزنها الاقتصادي وتقدمها العلمي، لا تملك الحكومة الأميركية سوى قدرة محدودة في سد الطريق أمام التطور التكنولوجي لمنافستها. وبدلاً من ذلك، يجب على الولايات المتحدة تركيز طاقاتها على ما تمتلكه من اقتدار في الابتكار، وكذلك القدرة على البقاء في المقدمة في مضمار الذكاء الاصطناعي والجيل المقبل من التكنولوجيات الحاسمة.
ظهرت نسخة مبكرة من هذا المقال تضمنت خطأً في احتساب المدة التي قد تستغرقها الصين لتدريب نماذج لغوية كبرى متقدمة نسبياً عبر استعمال رقائق الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدماً التي تنتجها "إنفيديا"، وهي "إتش 100 آي أي". ومع 11 ألف رقاقة من ذلك النوع، يرجح أن يغدو الجيش الصيني قادراً على تدريب تلك النماذج اللغوية بقرابة أسبوع، وليس أنه يحتاج إلى 3500 رقاقة "إتش 100 آي أي" كي يدربها في 11 دقيقة.
*هانا دوهمن، باحثة ومحللة في "مركز جامعة جورجتاون للأمن والتكنولوجيا الصاعدة"
**جايكوب فيلغواز، باحث ومحلل للبيانات في "مركز جامعة جورجتاون للأمن والتكنولوجيا الصاعدة"
***شارلز كوبشان، بروفيسور الشؤون الدولية في "جامعة جورجتاون" وزميل أقدم في "مجلس العلاقات الخارجية".
مترجم عن فورين أفيرز يوليو/ أغسطس 2024