Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائية إدنا أوبراين ابنة إيرلندا الضالة

تحدت المجتمع المحافظ وواجهت المحرمات وبدت نسخة نسوية من جويس

الروائية الإيرلندية إدنا أوبراين (دار فايبر أند فايبر)

ملخص

بعد صراع طويل مع الحياة، وصراع أطول مع المرض، رحلت الكاتبة الإيرلندية إدنا أوبراين عن عمر يناهز الـ94 سنة. وهي طالما أثارت الرأي العام بأعمالها الأدبية الجريئة، وآرائها الصادمة، وحققت خلال مسارها الطويل تجربة روائية خاصة بها.

رحلت الروائية الإيرلندية الشهيرة إدنا أوبراين تاركة وراءها أعمالاً روائية متفردة بموضوعاتها وأساليبها، ومسيرة حافلة بالجرأة والمواجهة، لا سيما من خلال القضايا التي أثارتها وخضت بها المجتمع الإيرلندي والبريطاني. ولدت إدنا في قرية توامجراني، مقاطعة كلير، في إيرلندا عام 1930، لعائلة كاثوليكية متشددة، وفي أجواء من التوتر، فوالدها تسبب، بفشله في تربية الخيول وإدمانه على الكحول والقمار، في اعتلال مزاجه وميله إلى العنف، وأفضت صرامة والدتها إلى تعليمها على يد راهبات، لتحدث تحويلاً إجبارياً عن مسارها في الكتابة التي مارستها، وهي في سن التاسعة. وكثيراً ما رددت إدنا أن المنازل غير السعيدة هي بمثابة حواضن مثالية للقصص.

تقول أوبراين في حوار معها "كانت أسرتي تعارض بشدة أي شيء له علاقة بالأدب. وعلى رغم أن إيرلندا أنجبت عديداً من الكتاب العظماء، فإن هناك شكوكاً عميقة حول الكتابة هناك. فهم يدركون بطريقة ما أن الكتابة خطرة ومثيرة للفتنة. كنت طفلة مطيعة – على رغم أنني أكره الاعتراف بذلك الآن - وكنت أوافق على رغبات عائلتي. عملت في متجر كيماوي ثم درست في كلية الصيدلة ليلاً".

غير أن إدنا لم تستمر طويلاً في تقديم فروض الطاعة، إذ ظهرت بذور التمرد في إصرارها على القراءة، وكان أول كتاب تشتريه بعنوان "تقديم جيمس جويس" لت. س. إليوت. ويحوي قصة قصيرة، ومقاطع من "صورة الفنان"، كتبت تقول "لقد جعلتني قراءة هذا الكتاب أدرك أنني أريد الأدب لبقية حياتي". ظهر التمرد لاحقاً عندما التقت الكاتب الإيرلندي التشيكي إرنست جيبلر 1954، لدرجة دفعتها إلى الهرب معه والزواج به على رغم اعتراض والديها. غير أن هذا الزواج لم يكلل بالنجاح، وتحول إلى عداء مستحكم، وصل إلى تشهير جيبلر بأنه هو من يكتب لها. وكان عليها أن تتجاوز مأزقين في آن واحد، بعدها عن إيرلندا، التي أحست بصعوبة العيش فيها، إذ تآمرت الكنيسة والدولة للسيطرة على جميع جوانب حياة النساء وأجسادهن، وفراق الرجل الذي عاشت معه عشرة أعوام بعيداً من أهلها.

أنجبت أوبراين من جيبلر طفلين، كارلو الذي أصبح كاتباً مثل والدته، وساشا المهندسة المعمارية. عام 2009 كشف كارلو عن أن زواج والديه لم يكن مستقراً، فقد أفضى نجاح أوبراين في فترة قصيرة إلى شقاق بين الزوجين، واعتقاد جيبلر أنه يستحق التقدير عنها لأنه هو من ساعدها في أن تصبح كاتبة بارعة، ومن ثم أعتقد أنه كان مؤلف كتبها.

وداعاً إيرلندا

في لندن، كتبت أوبراين روايتها الأولى "بنات الريف" (The Country Girls)، 1961. وهي قصة فتاتين نشأتا في الريف الإيرلندي، تلتحقان بمدرسة للراهبات وتسافران إلى دبلن ولندن بحثاً عن الحب والمغامرة. تقول "لم أكن قد خرجت من إيرلندا قط، وكنا في نوفمبر (تشرين الثاني) عندما وصلت إلى إنجلترا. وجدت كل شيء مختلفاً وغريباً للغاية... وشعرت بالحيرة والضياع، لذا فإن "بنات الريف"، التي كتبتها في تلك الأسابيع القليلة الأولى بعد وصولي، كانت بمثابة تجربتي في إيرلندا ووداعي لها".

لم تكن إدنا آنذاك راضية من طريقتها في الكتابة، مع إدراكها لفقر تنشئتها في منزل لا يحوي إلا على الكتاب المقدس وكتيبات عن الخيول، كما لم تتلق سوى التعليم الديني، ثم طفقت تنكب على العلوم في كلية الصيدلة حتى برعت فيها. لذا كان الأمر أشبه بالصاعقة، عندما ذهبت إلى محاضرة لآرثر ميزنر عن همنغواي وفيتزجيرالد، واستمعت إلى النثر الواضح والدقيق والصادق في رواية "وداعاً للسلاح"، "أستطيع أن أقول إن الأمرين اجتمعا في ذلك الوقت، استعدادي للاكتشاف وإلحاحي على الكتابة. كتبت الرواية نفسها، إذا جاز التعبير، في غضون أسابيع قليلة. طوال وقت كنت أكتبها فيه لم أستطع التوقف عن البكاء، على رغم أنها كتاب مرح وضحك إلى حد ما، فإن الانفصال عن إيرلندا هو الذي أوصلني إلى النقطة التي اضطررت فيها إلى الكتابة".

لم تمر رواية أوبراين الأولى مرور الكرام، وهو أمر طبيعي ما دامت تعلقت بجيمس جويس، ابن إيرلندا الضال. ليس غريباً إذاً أن تحظر الرواية بعد فترة وجيزة من نشرها، وتحرق النسخ المتبقية من دون أدنى تردد في بلدها إيرلندا، وتتهم أوبراين بإفساد عقول الشابات. ألم يذهب جويس إلى أن الواقعية الكاملة لا تتحقق إلا بوضع الفحش في مركز العالم.

الثلاثية المحرمة

كانت هذه الرواية مجرد جزء من ثلاثية، اكتملت بـ"الفتاة الوحيدة" (The Lonely Girl) 1962، و"بنات في نعيم الزواج "(Girls in Their Married Bliss) 1964. وعكست حال المرأة في إيرلندا الحديثة، غير أن الجميع اعتبرها "إهانة للأنوثة الإيرلندية".

هكذا ظل اسم إدنا مرادفاً للإباحية والفساد والتخريب لعقود طويلة، وربط البعض بين شخصياتها وسيرتها الذاتية، تلك "الفاسقة" التي تلقت تعليمها في الأديرة، ليست إلا كل النساء الفاسقات في أعمالها التي تدعي أنها روائية. يقول الكاتب لوك دود إن هذه التهمة تجعل الكتابة عن السيرة الذاتية في مرتبة ثانوية، وتدل ضمناً على أن تجربة المرأة لا تستحق الأدب "الجاد". غير أن أوبرين ردت على هذا الكلام بما لا يدرأ الشبهة عنها أو يؤكدها، بل يسحب الأقدام إلى المنطقة الأجدى بالنظر قائلة "سواء كانت الرواية سيرة ذاتية أم لا، فإن هذا لا يهم. إن ما يهم هو الحقيقة التي تتضمنها والطريقة التي يتم بها التعبير عن هذه الحقيقة".

جلبت أوبراين تجربة المرأة بلا مواربة إلى صفحات كتبها بالفعل، مشاعرها، هفواتها، جموحها، جسدها الملعون بالرغبة، بما غير من طبيعة الخيال الإيرلندي، وأسس لنوع جديد على طريقة جويس، لكنها لم تنتظم في الحركة النسائية التي تزامنت مع صدور أعمالها، فنساؤها شغوفات بالحب، راغبات في الاكتمال، ولا يجدن في المساواة على طريقة رافعات الألوية، أي ميزة، وهذا لا يمنع من أن ترى أنوثتها مثلهن، صورة من صور النفي.

لم تتأثر أوبراين بكل النعوت التي وجهت إليها، بل على العكس. في روايتيها "أغسطس شهر مقرف" (August is a Wicked Month) 1965، و"الليل" (Night) 1972 – أسهبت أكثر في تفنيد العلاقة بين الجنسين، وفق رؤية نساء أحببن حتى الثمالة وفقدن أنفسهن في هذا الحب، والآن عليهن قطع الطريق لاسترداد سيادتهن المنهوبة. وهو ما يصفه فيليب روث قائلاً "بينما كان جويس في 'أهل دبلن' و'صورة الفنان في شبابه'، أول كاثوليكي إيرلندي يجعل تجربته ومحيطه مميزين، كان على 'عالم نورا بارناكل' أن ينتظر خيال إدنا أوبراين".

إلى جانب ما جلبت على نفسها من لعنات، وتقريع أمها عبر الهاتف على كتابتها الفاسقة، أدى انتظام أوبراين في السياسة وتعاطفها الملحوظ مع الجمهوريين، إلى كثير من اللغط، واتهامها بالإساءة لتدخلها في سياسة بلدها على هذا النحو المثير للاشمئزاز.

في بداية من التسعينيات فصاعداً استلهمت أعمال أوبراين بعض الأحداث التي أظهرت الانقسام في المجتمع الإيرلندي، وتناقضاته مع نفسه، إذ استندت روايتها "على ضفاف النهر" (Down By the River) 1997 إلى قصة حقيقية لفتاة تبلغ من العمر 14 سنة، تعرضت للاغتصاب، ومنعت بموجب القانون من مغادرة إيرلندا للإجهاض. تعكس أوبرين من خلالها ردود فعل المجتمع، وانعدام عاطفة الأبوة التي كادت تودي بالفتاة، والأهم من ذلك كله، الدعوة إلى إقامة حوار عن قضية الإجهاض في البيئة الإيرلندية وحق المرأة في تقرير مصيرها. في رواية "فتاة" 2019 وسعت أوبراين من نطاقها ليشمل 276 تلميذة اختطفن على يد رجال "بوكو حرام" عام 2014، لرصد دائرة فساد المجتمع الأبوي من زاوية مخيفة، ورسم الإطار المحدد للمرأة داخل قفص الذكورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلى جانب أكثر من 20 رواية ومجموعة قصصية، كتبت أوبراين عديداً من المسرحيات والسير الذاتية، فضلاً عن كتب الأطفال والشعر، منها مسرحية "فرجينيا"، التي عرضت في مهرجان ستالفورد أونتاريو، كندا، يونيو (حزيران) 1980. تعتقد أوبراين أن وولف كانت تخشى أن تنطفئ شعلة موهبتها أو تضعف بسبب افتقار كتابها الأخير "بين الفصول" إلى التميز الذي تحلى به غيرها من الكتب. وعندما يشعر الكاتب أو الفنان بأنه لم يعد قادراً على الاستمرار في الكتابة، فإنه يهبط إلى الجحيم.

وتوصلت إلى أهم شيء قد يدمر الموهبة، ألا وهو الحزن المفرط، مستشهدة بـمقولة الشاعر ييتس، "الحزن المفرط قد يجعل القلب حجراً". كتبت تقول، "كثيراً ما أتساءل، لو عاشت إيميلي برونتي حتى الـ50 من عمرها، فما نوع الكتب التي كانت ستكتبها؟ كانت إيميلي في الـ30 من عمرها عندما كتبت رواية "مرتفعات ويذرنغ". وأعتقد أن المعاناة الشديدة هي التي قضت على موهبتها فيما بعد".

أخيراً، لم تحظَ الفتاة ذات الشعر الأشقر المحمر والعينين الخضراوين والحس الفكاهي الشرس بالتقدير إلا في العقد الأخير من عمرها مع ظهور مبدعين مثل إيمير ماكبرايد وآنا إنرايت وآنا بيرنز، الذين يدينون بالفضل لكتابتها، ومن ثم تمت إعادة تقييمها على ضوء جديد، وهو ما أهلها للحصول على أعلى الأوسمة وأرقى الألقاب بعد مسار طويل من الاستنكار والنفي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة