حظي الإسلاميون السودانيون بفرصة لم تتح لغيرهم في الوطن العربي كله، حيث دانت لهم السودان لمدة ثلاثين عاما، ولكنهم فشلوا في أن يحققوا مشروعهم السياسي عبر حكمهم الطويل الذي تمكنوا فيه بالكامل من مفاصل الدولة السودانية، بل أنهم سقطوا على المستوي الديني والأخلاقي سقطة مدوية، عنوانها الأبرز ربما كان حجم الأموال "الكاش" من مختلف العملات العالمية، التي ضُبطت في حوزة الرئيس المخلوع البشير.
ولعل ذلك ما يبرر ردة فعل الشعب السوداني ضدهم في المساجد ومنعهم من اعتلاء المنابر حتي قبل سقوط البشير، كما يفسر عجزهم عن تحشيد قواعدهم التنظيمية في مواكب مناهضة لمواكب الثورة، وعجزهم عن ضمان تحالف متين مع المجلس العسكري المنحل، وإن كانوا مطروحين كفزاعة لقوى الحرية والتغيير من جانب المكون العسكري في المجلس السيادي، الذي يحكم السودان حاليا، مع حكومة انتقالية تواجه ضغوطا متنوعة هي الأخرى.
هذا المشهد المعقد ربما يطرح أسئلة عن طبيعة تفاعل الإسلاميين مع الحراك الثوري السوداني حتى الآن، وهل اجتمع هؤلاء على قلب رجل واحد أم أن هناك ثمة اختلافات ولو نسبية في مواقفهم، وأخيرا ما هو مستقبلهم السياسي في السودان؟.
في البداية لابد أن نمايز ما بين أربعة مستويات من الفعل والحركة للإسلاميين السودانيين؛ الأول هو لتنظيم الجبهة القومية الإسلامية ونخبه السياسية، وخطابات هؤلاء المعلنة، والمستوى الثاني هو التنظيم السري للجبهة الذي مارس أعمالا عنيفة تصل إلى درجة الاغتيال الممنهج، وهو التنظيم الذي أعلن عن وجوده وجاهزيته علي عثمان محمد طه، النائب الأول لرئيس الجمهورية لفترة غير قليلة والمحبوس حاليا. أما المستوى الثالث فهو حزبا المؤتمر الشعبي الذي تزعمه الترابي حتي عام 2016، وحركة الإصلاح التي يتزعمها غازي صلاح الدين أحد تلاميذ الترابي، الذي خرج عن طاعته في مذكرة العشرة ضده عام 1999، الذي خرج عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم عام 2013 على خلفية سقوط 200 قتيل في الاحتجاجات الشعبية ضد النظام وقتذاك.
وفيما يخص الجماعات السلفية فإنها تحوز على 10% تقريبا من الخريطة الدينية للسودان والتيارات التي تكفّر الحكام والمجتمع منهم وهي محصورة في مناطق قليلة ومتباعدة مثل منطقة (أبو قوتة) في ولاية الجزيرة، ومنطقة (الفاو) شرق السودان، وبعض الجيوب الصغيرة في الدمازين ومنطقة كوستي، بالإضافة إلى وجود في العاصمة. وإلى وقت قريب، كانت السلفية السودانية محصورة بجماعة أنصار السنة المحمدية إلى أن أتت موجة ما يعرف بالأفغان العرب، وتوافدت هذه المجموعات، بينهم أسامة بن لادن، للاستقرار بالسودان بداية التسعينيات مع انتهاج البشير ما يعرف بسياسة الباب المفتوح.
وبطبيعة الحال، لا يعني هذا التمايز بين المستويات الأربعة من الإسلاميين السودانيين غياب حالات من التفاعل بينهم تسهم في بلورة موقف كل فريق إزاء الآخر، وإزاء المعادلة السياسية المتحركة في السودان راهنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإسلاميون والثورة السودانية
مارس الجهاز السري للجبهة القومية الإسلامية، العنف ضد الحراك الثوري السوداني في محاولة لتطويقه، حيث تحرك للجبهة للاعتداء على المتظاهرين في المواكب المختلفة اعتبارا من مطلع العام الحالي، وذلك في سيارات بدون أرقام ومارسوا اغتيالات منهجية ضد بعض الشباب من اليسار خصوصا، كما اعتدوا على المعتصمين في محيط القيادة العامة للجيش السوداني اعتبارا من ليلة 7 أبريل (نيسان) منطلقين من بناء تحت التأسيس يسمى مدينة البشير الطبية، وحتى سقوط البشير في 11 أبريل.
وقد بدأ هذا الجهاز في تسعينيات القرن الماضي حيث كانت الحركة تحكم قبضتها على السلطة بعد تنفيذ ما عرف ببرنامج التمكين، وقوام هذا الجهاز البشري من طلاب الثانويات والجامعات، حيث حظي بدعم مالي سخي، وكان يشرف عليه قيادات الدولة التي احتلت منصب مدير الأمن والمخابرات، وأشرف هؤلاء على تدريبات عسكرية بمركز خالد بن الوليد بمعسكر المرخيات شمال مدينة أم درمان، وقد انقسم الجهاز السري للجبهة القومية بعد المفاصلة بين البشير والترابي عام 1999، حيث ارتقي القسم التابع للبشير ليكون رسميا جزءا من جهاز الأمن والمخابرات.
ولقد برز دور الجهاز العسكري السري بشكل واضح في وأد الهبة الشعبية في سبتمبر (أيلول) من عام 2013 رفضا لقرارات رفع الدعم عن المحروقات، فتصدى الجهاز السري للمتظاهرين وأطلق عليهم الرصاص الحي ما أدى إلى مقتل أكثر من 200 سوداني.
وإذا كان جهاز الاستخبارات العسكرية السودانية بعد نجاح الحراك الثوري قد نجح في إلقاء القبض على عدد كبير من عناصر هذه الجهاز، والكشف عن أوكاره وأماكن تخزين أسلحته فإن أطياف الإسلاميين السياسية لا تزال فاعلة على الساحة السودانية خصوصا أنها تملك مفاصل الدولة على المستويين الاقتصادي والبيروقراطي.
وفي محاولة لتفكيك مشهد الإسلام السياسي في السودان لا يمكن إنكار أن القواعد الشبابية للإسلاميين السودانيين، في حزب المؤتمر الشعبي الذي تزعمه حسن الترابي حتى عام 2016 قد شاركوا في الحراك الثوري وانخرطوا في المواكب الجماهيرية وقت قمع النظام لها بدليل سقوط شهداء لهم في هذه الأحداث، خصوصا أن هذه القواعد الحزبية كانت تطالب بفك التحالف مع حزب المؤتمر الوطني قبل ثورة السودانيين، وهو التحالف الذي جرى في أعقاب إزاحة إخوان مصر عن الحكم عام 2013، خوفا من دعم مصري لانقلاب ضد الإسلاميين في السودان. ولعل هذه الفاعلية من جانب هؤلاء وراء شكوك راهنة في الشارع السياسي السوداني بشأن مدى انخراط الجيل الثالث من الجبهة القومية الإسلامية في التخطيط لإزاحة البشير بعد انسداد الأفق السياسي بالسودان حتى يتم ضمان وجودهم السياسي في مرحلة ما بعد البشير.
ورغم هذا الموقف من الثورة لم ينخرط كل من حزب المؤتمر الشعبي أو حركة الإصلاح في إعلان تحالف الحرية والتغييرـ الذي تم في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 بطبيعة الموقف الشعبي العام والمُعادي لكل ما هو مرتدي عباءة الإسلام السياسي.
الإسلاميون والمجلس العسكري
وفي المقابل فإن قواعد الجبهة القومية الإسلامية وحلفاءها في دوائر الحكم ودوائر الحزب الحاكم بلورت موقفا بأن يكون وزنهم في المعادلات قيد التبلور كبيرة، حتى يستطيعوا أن يكونوا جزءا من المستقبل، وذلك حماية لمصالح الجبهة الإسلامية السياسية والاقتصادية، وحينما فشلوا في فض الاعتصام طرحوا الفريق عوض بن عوف وزير دفاع البشير ليعلن تنحي البشير ويترأس مجلسا عسكريا مؤقتا، ولكنهم فشلوا أيضا في هذه الخطوة، التي لم تدم أكثر من 24 ساعة، حيث صعد الفريق عبد الفتاح البرهان ليقود المشهد حتى تكوين المجلس السيادي في أغسطس (آب) الماضي.
ولكن هذا الفشل المؤقت ربما لم يمنعهم بعد ذلك من الضغط على المجلس العسكري للارتداد عن اتفاقاته الأولى مع تحالف الحرية والتغيير قبل فض اعتصام القيادة العامة في يونيو (حزيران) الماضي، وذلك بشأن هياكل الفترة الانتقالية ونسبة تحالف الحرية والتغيير في المجلس التشريعي المنوط به تغيير النظام السياسي السوداني، حيث تراجع المجلس العسكري عن هذه نسبة الـ67% المتفق عليها.
العامل الخارجي في المعادلة السودانية
ثلاثة متغيرات أسهمت في إضعاف موقف الإسلاميين في المشهد السياسي، اثنان منهما داخليين، والثالث إقليمي مدعوم دوليا. أما المتغيران المحليان فهما طبيعة مساهمتهم في فض اعتصام القيادة العامة، وحدود اتفاقهم مع قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي في هذه العملية، وهو أمر سيكون محل تحقيقات في الفترة المقبلة، أما المتغير المحلي الثاني فهو طبيعة مساهمة عناصرهم في القوات المسلحة السودانية في تدبير انقلابات ضد المجلس العسكري، وهو ما أعلن عنه المجلس العسكري مرتين وترتب عليه تغيير وإطاحة قيادات في مؤسسات الجيش والأجهزة الأمنية، حيث شكلت المحاولة الثانية في يوليو (تموز) الماضي نقلة كيفية في علاقة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي والنخب الإسلامية من كافة الأطياف، وذلك بعد أن أعلنت القوات المسلحة السودانية كشفها محاولة انقلابية شارك فيها رئيس الأركان المشتركة، الفريق أول ركن هاشم عبد المطلب أحمد، وعدد من ضباط القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني برتب رفيعة، وهو ما ترتب عليه اعتقال عدد من القيادات الإسلامية، وبينهم أمين حسن عمر، سيد الخطيب القياديان بحزب المؤتمر الوطني، وكذلك علي كرتي وزير الخارجية الأسبق، الزبير محمد الحسن الأمين العام لتنظيم الحركة الإسلامية.
وعلى المستوي الإقليمي فقد شكل فض اعتصام القيادة العامة مع ما أحاط به من عمليات قتل واغتصاب مدخلا مناسبا لتحرك كل من الاتحاد الأفريقي وإثيوبيا لرأب صدع عميق بين المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير، وهو الصدع الذي أسفر عن توقف التفاوض بين الطرفين وهدد بانفلات الموقف في السودان، البلد صاحب الموقع الجيوسياسي المؤثر على أمن ثلاث دوائر في المنظومة الإقليمية منها حوض النيل والبحر الأحمر والساحل والصحراء، وهو ما يعني تضررا غير مسموح به في الإقليم.
وبطبيعة الحال، فإن مستقبل الإسلاميين بشكل عام في المنطقة مرهون بفصل الدعوي عن السياسي، أي بمدى قدرتهم على التحول لأحزاب سياسية مدنية لا تملك مستويات سياسية ولا أجهزة سرية بعيدة عن العلن، وأيضا تخليهم عن فكرة التمكين ولعل تجربة حزب النهضة التونسي هي الأقرب لهذا التصور الذي أثبت نجاحا نسبيا واستطاع التعلم من تجربة إخوان كل من مصر والسودان في وادي النيل.
أما على المستوى السوداني فربما يكون من المطلوب حل تنظيم الجبهة القومية الإسلامية كخطوة مبدئية للانخراط في المشهد السياسي السوداني بشكل مستدام وتحقيق قدر من استقرار له، أما اللعب على التوازنات الداخلية بين المكون العسكري والمكون المدني في المجلس السيادي وأيضا الضغط على الحكومة الانتقالية، أو محاولة تعويقها كما هو جارٍ الآن بالخرطوم، فهو أمر سوف يدفع ثمنه السودان على المستوى القصير. أما على الأجل المتوسط فإن هذا التلاعب من شأنه إنهاء شأفة الإسلام السياسي في السودان خصوصا أنه يعاني عدم مصداقية تاريخية، وعلى المستوى النظري والتطبيقي أصبحت جزءاً من التاريخ السياسي للسودان وللمنطقة.