ملخص
يقدر عدد المصافي النفطية غير المرخصة بنحو 176 مصفى تقع 120 منها في حدود محافظة أربيل، وفقاً لتحقيق استقصائي حذر نقلاً عن مختصين من أن الانبعاثات السامة الناجمة عن هذه المصافي سواء كانت مرخصة أم غير قانونية لها تداعيات خطرة على الصحة العامة والبيئة عموماً.
في مشهد ملبد بدخان أسود جنوب غربي محافظة أربيل، كبرى مدن إقليم كردستان العراق، أطلق الناشط الكردي جومان هيوا نداء استغاثة عبر هاتفه المحمول، محذراً من أن المنطقة التي يوجد فيها قد تحولت إلى "محيط سرطاني يهدد حياتنا".
وأتى هذا النداء في وقت تشهد فيه المدينة أزمة بيئية متصاعدة تهدد صحة سكانها، وأطلق النداء قرب مجمع يضم مصافي نفطية غير مرخصة، في إطار حملة إعلامية وشعبية محمومة يشهدها الإقليم منذ أشهر للمطالبة بالوقوف على أسباب وأخطار ارتفاع نسبة تلوث الهواء في مدينة باتت واحدة من أكثر مدن البلاد تلوثاً، بفعل عشرات مصافي تكرير النفط المخالفة للمعايير البيئية وتزايد مضطرد في عدد المركبات، مع انتشار آلاف محركات توليد الكهرباء الخاصة بين الأحياء نتيجة نقص مزمن في إمدادات الطاقة المركزية إلى جانب انبعاثات المصانع.
ويتحدث هيوا من خلال ندائه عن "وجود 368 مصفى تطلق في المساء غازات سامة"، وأن ملكية معظمها "تعود لمسؤولين ومتنفذين، وهناك مئات من مرضى السرطان يتلقون يومياً العلاج في مختلف المراكز الصحية المعنية"، ونوّه إلى أن "المأساة المستمرة منذ أعوام لن تحلّ إلا بقرار مباشر من السلطات العليا".
استجابة حكومة متأخرة
ويقدر عدد المصافي النفطية غير المرخصة بنحو 176 مصفى يقع 120 منها في حدود محافظة أربيل، وفقاً لتحقيق استقصائي نشرت نتائجه شبكة "روداو" الإعلامية المقربة من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني قبل أسبوعين، وحذر التقرير نقلاً عن مختصين من أن الانبعاثات السامة الناجمة عن هذه المصافي سواء كانت مرخصة أم غير قانونية لها تداعيات خطرة على الصحة العامة والبيئة عموماً بسبب تداعيات انبعاثاتها ومخلفاتها على الهواء والتربة ومن ثم المياه الجوفية، كما أن معظمها لا يلتزم بمعايير الجودة في إنتاج الوقود باختلاف أنواعه، لاحتوائه على نسب مضاعفة من مادة الكبريت المسببة في انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكبريت الضار، إذ تصل نسبته في وقود الديزل على سبيل المثال إلى 30 ألف جزء في المليون في حين أن السقف العلمي المعتمد لا يتجاوز 9 آلاف جزء في المليون.
وعلى وقع الغضب المتزايد أصدرت السلطات المحلية في أربيل، عقب اجتماع موسع مع الجهات المعنية قرارات عدة، أهمها تشكيل لجنة للتحقيق في تلوث الهواء، واتخاذ إجراءات أولية منها غلق 138 مصفاة نفطية غير مرخصة، ومنح إدارة المصافي المرخصة مهلة قصيرة للالتزام بالمعايير البيئية، ودعوة وزارة الطاقة إلى حجب تزويد المصافي المخالفة بالنفط الخام، وتعهدت بمحاسبة المصانع المخالفة، كما ألزمت أصحاب مولدات الكهرباء الأهلية في داخل الأحياء السكنية باتباع شروط تراعي البيئة، وكذلك مصادرة مركبات النقل المخالفة، وبالتزامن كشفت هيئة حماية وتحسين البيئة الحكومية عن أنها ستباشر بنصب أربع محطات جديدة لقياس جودة الهواء في المحافظة.
مستويات مقلقة
وتراوحت درجة تلوث الهواء في أربيل خلال الأيام القليلة الماضية، وفق مؤشر موقع مراقبة الهواء IQAir السويسري الذي يحدّث باستمرار المدن الأكثر تلوثاً في العالم، بين 59 وما فوق 80 درجة، وهي نسبة تصنف ضمن الدرجات السيئة، في حين أن النسبة المقبولة لا تتجاوز 49 درجة وتعرف باللون الأخضر، وقد تجاوز تركيز الجسيمات الملوثة في الهواء بين أربعة وثمانية أضعاف عن المعيار المحدد لدى منظمة الصحة العالمية في السادس من أغسطس (آب) الجاري، في حين يذهب مختصون محليون إلى أن المؤشر وصل في أوقات سابقة إلى المستوى الأحمر الذي تراوح نسبته ما بين 100 إلى 149 درجة، ويوصف بـ"غير الصحي"، وسبق أن صنف الموقع مدينة أربيل بين عامي 2017 و2022 ضمن ترتيب 336 أكثر المدن تلوثاً في الهواء من مجموع أكثر من 7 آلاف مدينة.
فساد وخروقات
وقوبلت القرارات الحكومية العاجلة بترحيب شعبي لكنها لم تخلُ من الانتقادات لكونها جاءت متأخرة. واعتبر نشطاء في مجال البيئة وسياسيون هذه القرارات اعترافاً بوجود خروقات قانونية، مما يستدعي الإجابة عن تساؤلات عدة حول هوية أصحاب هذه المصافي، وكيف سُمح لهم بتشغيلها؟ ولماذا لم تتم محاسبتهم؟ وما هي الجهة التي تزودهم بالنفط الخام؟
في هذا السياق، كشف نائب رئيس لجنة الصحة والبيئة في مجلس أربيل، عباس سنكاوي، عن تحقيق سابق كانت أجرته ثلاث لجان استمر نحو ثلاثة أشهر وأسفر عن إصدار قرار بغلق أكثر من 124 مصفاة غير مرخصة من أية جهة "وعلى رغم ذلك، كانت هذه المصافي مزودة رسمياً بالكهرباء والماء. ولذر الرماد في العيون، أغلق بعضها باستثناء تلك التابعة لأصحاب النفوذ، بل تم توسيعها لاحقاً ولا تزال تعمل"، وعزا سنكاوي أسباب التلوث الحاصل في بيئة المدينة إلى "المصافي التي تغض النظر عنها السلطات، فهي تبيع الديزل الرديء للمولدات الكهربائية التي انتشرت في الأحياء نتيجة سوء التخطيط وغياب الإرادة والفساد الإداري الذي تسبب في فشل توفير كهرباء وطنية منذ ثلاثة عقود، إضافة إلى عدم وضع معايير لاستيراد المركبات بغية استحصال الأموال عبر الجمارك التي لا نعلم لمن تذهب، وكذلك وجود عشرات المصانع الصناعية في المدن ومحيطها"، وختم سنكاوي "تنظيف بيئتنا الملوثة بالانبعاثات والمخلفات النفطية، سيتطلب أموالاً طائلة".
فضاء مسموم
ويشكو معظم السكان من الانبعاثات الناتجة عن مختلف المصادر وعدم اتخاذ السلطات إجراءات رادعة، بحسب قول المواطن روان عبدالله، الذي يقع منزله خلف أحد الشوارع التجارية ويضم عمارات وفنادق وضعت فوق أسطحها مولدات كهربائية. وأضاف عبدالله "هذا الوضع لم يعد يطاق نحن نستنشق باستمرار السموم التي تدخل إلى المنزل من خلال أجهزة تكييف الهواء. عندما نقوم بتنظيف الأسطح والنوافذ يومياً، لا يمكن تصديق كمية الغبار الأسود الموجودة".
يقدر عدد المولدات الكهربائية الأهلية التجارية المنتشرة بين الأحياء السكنية في مختلف مدن كردستان بأكثر من 5 آلاف مولد إضافة إلى مئات من المولدات الخاصة، إذ تُستخدم لتعويض النقص الحاصل في التيار الكهربائي الحكومي وفق نظام معتمد منذ تسعينيات القرن الماضي. ويشير معنيون في الصحة العامة إلى أن هذه المولدات تطلق كميات هائلة من الغازات الضارة بسبب عدم استيفائها الشروط البيئية، بما في ذلك استخدام الوقود الرديء، كما يصل عدد المركبات التي تعمل بالوقود في الإقليم إلى 2.5 مليون مركبة.
على الجانب الصحي، يربط نشطاء ومختصون انتشار الأمراض السرطانية بالانبعاثات الضارة، وتشير الإحصاءات الرسمية إلى تسجيل 10 آلاف إصابة خلال العام الماضي، نصفها كانت في حدود محافظة أربيل، بزيادة ألف إصابة عن الحالات المسجلة عام 2022، لكن وزارة الصحة تؤكد أن المعدل العام لا يتجاوز 150 إصابة من كل 100 ألف شخص، وهو أقل من معيار منظمة الصحة العالمية البالغ 190 إصابة، وتفيد نتائج بحث محلي أجري على عينة عشوائية أخذت من المصابين في مستشفى "هيوا" بمدينة السليمانية، وهو أكبر مركز لعلاج السرطان في الإقليم، بأن 96 في المئة من المصابين يسكنون مناطق قريبة سواء من حقول النفط أو المصافي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إجراءات مضللة
من جهة أخرى، هناك شكوك حول إمكانية تنفيذ القرارات والوعود الحكومية، استناداً إلى تجارب سابقة، حسب رئيس تحرير موقع "زيد بريس" المستقل، ريبين فتاح الذي أكد "غياب اليقين في تنفيذ قرارات مماثلة طوال العقد الماضي"، وأضاف "لمن يطّلع على طبيعة عمل هذه المصافي التي تحوّل النفط المسروق إلى أنواع مختلفة من الوقود، يدرك صعوبة إغلاقها نهائياً، لأن أصل المشكلة يكمن في فشل الحكومات في تطوير البنية التحتية لهذا القطاع، كما هي الحال في معظم القطاعات الرئيسة الأخرى التي كانت دائماً تحت سيطرة فئة معينة من العائلات المتنفذة، لذا فإن إغلاق هذه المصافي سيؤدي مباشرة إلى ارتفاع أسعار الوقود وتدهور جودته".
وتابع فتاح أن السلطات "تمارس التضليل، لأن العدد المذكور في قرار الإغلاق أكبر من العدد الحقيقي للمصافي الموجودة على الأرض، كما لم تغلق أية مصفاة سابقاً، باستثناء توقف بعضها أو لعدم حصولها على النفط الخام لأسباب شتى، كما حدث عام 2015 عندما علّقت الحكومة بيع النفط الخام محلياً وبدأت بتصديره. وبعد تعليق الصادرات النفطية منذ ربيع العام الماضي، أصبحت هذه المصافي عنصراً أساساً في تسويق النفط محلياً لمصلحة شركات مملوكة للحزبين الحاكمين".
وعما إذا كانت المصافي تمثل المسبب الرئيس في تلويث الهواء، قال فتاح "من المؤكد أن هناك عوامل أخرى لا تقل خطراً، لكن تأثير المصافي يتطلب بحثاً علمياً للوقوف على مستوى الانبعاثات".
رصد مخيف
ويشكل عدم وضع سقف وضوابط صارمة لوقف "تسونامي" المركبات المستوردة عاملاً إضافياً في ارتفاع نسبة التلوث، وتعزز البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة التجارة والاقتصاد المخاوف من تزايد الأخطار، إذ سجل النصف الأول من العام الحالي استيراد أكثر من 80 ألف مركبة، في حين بلغ العدد خلال العام الماضي 119 ألف مركبة، وهذا بدوره، يمثل تحدياً بيئياً كبيراً، لا سيما أن عدد المركبات المسجلة حتى نهاية عام 2022 كان تخطّى 2 مليون و40 ألف مركبة في إقليم يبلغ عدد سكانه 6.25 مليون نسمة، وفي ظل انعدام وسائل النقل العام الحديثة يصبح امتلاك سيارة خاصة ضرورة ملحة.
ومن الجدير ذكره، فإن رقعة غرب أربيل كانت قد سجلت قبل أكثر من عام ارتفاعاً في مستوى انبعاث غاز "الميثان" بثلاثة أضعاف عن المعدل المحدد ضمن المستوى الخطر دولياً الذي كُشف عنه بناء على نتائج رصد أجري بواسطة أحدث الأقمار الصناعية خلال المؤتمر السنوي حول أحدث التقنيات والابتكارات في مجال علوم الاستشعار عن بعد المعروف باسم "ويسبرز" في العاصمة اليونانية أثينا أواخر العام الماضي.