Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قراءة رواية "هوراية" في ضوء الواقع الجزائري المتشظي

السجال الذي قام حول قضية إنعام بيوض يكشف التناقضات التي تشهدها الساحة الثقافية

الروائية الجزائرية إنعام بيوض تتسلم جائزة آسيا جبار عن رواية "هوارية" (مؤسسة الجائزة)

ملخص

 أثارت رواية "هوارية" للكاتبة والناقدة الجزائرية إنعام بيوض سجالاً حول مفهوم الأدب وعلاقاته بالأخلاق، علما أن الرواية تغوص في عالم التخييل الخرافي وتصور أحوال المجتمع الذي لا يزال خاضعاً للتقاليد القديمة. هنا قراءة في الرواية خارج الأحكام التي أطلقت عليها.

يستطيع قارئ رواية "هوارية" للكاتبة الجزائرية إنعام بيوض الصادرة عن دار ميم، رؤية أوجه عدة من المجتمع الجزائري برجاله ونسائه، وتُمثل عتبة النص في هذا العمل مدخلاً وثيقاً لكشف مسارات السرد، إذ تحمل البداية دلالتها عن العالم المتشعب الذي تجري فيه الأحداث، تقول "راحة يد، ترتسم عليها خطوط أزقة بانت ثم امحت، مصائر تشابكت ثم تفرقت، تعالت ثم هوت، حروف تنتظر من يجمعها ويهيجها، كلمات ترقب من ينطقها ويفسرها، أصوات متنافرة تروم الانتظام، قلوب حائرة يصل نبضها وعنفوانها لقارئ الكف: هوارية اسم يختزل مدينة كانت ولم تزل".

وكلمة "هوارية" هي تأنيث من اسم "هواري" الذي يعود أصله لقبيلة هوارة الأمازيغية المعروفة في شمال أفريقيا ولها تاريخ عريق، وفي اللغة الأمازيغية "هواري" تعني الرجل الأزرق، وذلك يعود لتقاليد ارتداء الملابس الزرقاء، أما في اللغة العربية فتعني الجندي في فوج عسكري غير منظم، ومنها جاء اسم هواري بومدين أحد زعماء الثورة الجزائرية، وبالنسبة إلى أهل وهران يرتبط هذا الاسم بالولي الصالح "سيدي الهواري" الذي عاش في وهران خلال القرن الـ 14 الميلادي.

تبدأ الأحداث مع هوارية بطلة الرواية داخل عنبر النساء في مستشفى للأمراض العصبية شبه فاقدة لذاكرتها وجاهلة سبب وجودها في المكان، وهي امرأة فقيرة تعيش في مدينة وهران في حي أكميل، وهو أحد الأحياء الشعبية التي تعاني التهميش وانتشار الجريمة والمخدرات، ويلقبونها في الحي "المنحوسة" لأن أمها أطلقت عليها هذا الاسم، أما أخوها هواري فيناديها بالمصيبة.  تمور في هذا الحي أقدار ومصائر، وتمتد الأحداث قرابة عقدين من الزمن ما قبل سنوات العشرية السوداء وما بعدها، خلال تسعينيات القرن الماضي التي أدخلت الجزائر في بحر من الدماء وبثت الهلع في قلوب الجزائريين، وسببت كثيراً من الفواجع وأعمال القتل والعنف والإرهاب والتعصب.

يجد القارئ في رواية بيوض صوراً متفرقة لحياة الناس في تلك المرحلة الكابوسية وكيف عاشوا؟ وكيف مضت حياتهم في ظل الخوف؟ وكيف تحولوا إلى أدوات لقمع من حولهم، كما هو هواري، أو اضطروا للفرار من البلد للنجاة بأرواحهم كما حدث مع هاني.

قراءة المصائر

"الناس يبدون خيالات في راحة الكف"، هذا ما تراه إلهام بيوض، بيد أنها تُعطي شخوصها حياة من لحم ودم وواقع حيوي نابض، فهوارية أصبحت قارئة كف يعترف بها الشيخ هنان الذي لم يكن متدينًا، لكنه لأسباب عدة اعتكف في زاوية سيدي يوسف عقدين من الزمن قبل أن يُصبح شيخاً تقصده النسوة رفقة أولادهن للتبرك به.

تتهجى هوارية الطالع في كفوف النساء والرجال، ويتردد عليها أشخاص من مختلف الطبقات الاجتماعية، وهي تدرك ما تفعله وتعرف أين تكمن الأكاذيب وكيف تراوغ الحقائق، وتصف نفسها قائلة "هذه هي مواهبي، صحيح أنها ليست مؤكدة دوما مثل توقعاتي التي يثبتها الزمن، ولو على المدى الطويل، ويمكن الادعاء بعدم الإيمان بالعرافة والغيبيات، لكن من لم يرد في قرارة نفسه أن يعرف ما تخبئ له الأيام؟ سأفشي لكم بسر: معظم زملاء المهنة كذابون، حتى أنا أكذب أحياناً، هو ليس كذباً بالمعنى الصحيح، أسميه أنا تخفيفاً لوطأة الحقائق".

 يتقاطع مصير هوارية مع الباحثة هبة التي تقصد هوارية لتسألها عن الطقوس التي يقوم بها الناس عند أضرحة الأولياء، ويمكن اعتبار هبة شخصية موازية لهوارية، إذ يبدأ السرد في الفصل الأول مع هوارية وينتهي في الفصل الأخير مع هبة التي تُمثل الجانب الآخر من التفكير، وتجسد هبة قيمة المنطق والعلم، إنها الوجه المناقض لهوارية حياتياً وفكرياً، وعلى رغم ذلك ثمة ما يجمع بينهما، وهذا يتم التعبير عنه في أكثر من موضع في الرواية.

يعيش جميع الأبطال حالاً من التشظي إلى جانب الإيمان بالغيبيات، والدة هوارية تأخذها مع زوجة ابنها هدية لزيارة الشيخ هنان للحصول على بركته ولطرد الشياطين، وهشام حبيب هوارية الذي يُلاقي مصيراً مفجعاً نشأ في أسرة كبيرة العدد مع أب سكير غائب لا يعرفون له مستقراً، مما يدفعه إلى تجارة المخدرات مثل والده، يقول "وجدت نفسي كبير العائلة لأخ غائب في عوالمه الخفية، وأب لا نعرف له مستقراً، ولم نفكر فيه يوماً كربّ للأسرة، يمتهن كل ما يُعرض عليه من أعمال، ومنها ترويج الكيف، وكنت أتغاضى عن كل أفعاله وأحتمل كل العبارات الجارحة التي يوجهها إلينا وإلى أمي إلا عندما يضربها بحضوري". يشعر هشام بالتقارب مع أخيه هاني الذي يكبره بأربع سنوات والملقب بالروجي، لأن له شعراً أحمر ووجهاً مليئاً بالنمش، يقول هاني "لست أدري عمن أخذت حمرة شعري ونمشي، روايات كثيرة تحاك حول أمنا هنودة الزينة لكن لا أحد يصدقها بخلاف والدي ومن بلغ منا سن التمييز".

يقرأ هاني الكتب بنهم في الفلسفة والأدب والتاريخ، وغالبيتها باللغة الفرنسية والقليل منها بالعربية، لذا شيئاً فشيئاً يضيق ذرعاً بالوسط المحيط به، وبعبثية لجوئه للمهلوسات يتعاطف مع كل الأديان ويتساءل ما جدوى المعرفة إن لم تبدد غمائم الشك وتنير درب اليقين؟ يقع هاني في حب هبة التي تفوقه طبقياً واجتماعياً، وتعد بحثاً عن تركة الأولياء الصوفيين وغرضها منه التصدي للفكر الديني المتشدد.

جمالية القبح

تتنوع الأصوات السردية في الرواية بين المتكلم والراوي شبه العليم، ويمكن اعتبار "هوارية" رواية شخصيات أيضاً، إذ تقدم نماذج سردية تختلف نفسياً وتتقاطع في نقط متفرقة كي تُشكل الصورة الخارجية ككل، والشخوص هم هوارية وهشام وهاني وهاجر وهناء وهدية وهاشمي وهجيرة وهنان وهبة وهالة، وكل شخصية تروي علاقتها بهوارية وتكشف عن عالمها الخفي، كأن تقول هناء عن هوارية "ارتحت لهوارية ابنة جارتي في الحوش ورأيت فيها فتاة بقلب كبير متلهف للحنان مثلي تماماً، بخاصة عندما لاحظت معاملة أخيها وأمها لها، كان فيها شيء غريب بالنسبة إلى الفتاة في سنها، توقعاتها واستشرافها لأحداث قلما تُخطئ".

ضمنت الكاتبة دلالات مفهوم القبح في الرواية كرمز لحال من الفساد الاجتماعي أو الأخلاقي في دلالة على الأماكن القبيحة والأحداث العنيفة إلى جانب انهيار القيم وفقدان الإنسانية، مما يضفي على النص طبقات عدة تحتمل التأويل ويُظهر القبح في الرواية التفاوت الكبير بين المستوى الثقافي والرؤى الجمالية المختلفة مما يُعتبر قبيحاً في سياق معين، وقد يحمل دلالات جمالية عميقة في سياق آخر، وفي علاقة هدية زوجة هواري مع عشيقها الطبيب هاشمي يظهر بوضوح التفاوت الطبقي والفكري بينهما، فهاشمي مولع بتاريخ مدينة وهران وكلما مر مع هدية على مكان يقص عليها حكايته، وهي لا تفقه شيئاً مما يقول، لكن نظرات الانبهار في عينيها ترضي غروره.

تضفر الكاتبة ملامح شخوصها مع الأحداث التاريخية، كما في قصة هاجر أو هيلين جدة هبة، وتتقاطع أيضاً الصلة بين هوارية وهبة، وتُقرب فاجعة فراق الأحبة بينهما، تقول هبة "هي توقفت حياتها عند رأس هشام فراحت تهيم في حيوات الناس، وأنا فرقتني الحياة عند رحيل هاني فصنعت لنفسي حياة بين الكتب والمخطوطات، إلا أنني لم أحاول مطلقاً استغلال مواهبها الاستشرافية لتقصي أحواله".

اختارت الكاتبة تسمية الفصول على أسماء الشخصيات مع مراوحة السرد بضمير الأنا كي يبوح الأبطال بمكنوناتهم الداخلية، ثم يتنقل السرد إلى الراوي شبه العليم لوصف الفضاء الزمكاني، أما الحوار داخل الرواية فمكتوب باللهجة الجزائرية مع هوامش لتوضيح المعنى، لنقرأ "الضباب يغلفها من كل جانب، تتسحب جحافل الوجوه من ذاكرتها كمارد من دخان يدخل في عنق قمقم، لا شيء، لا شيء سوى هذا الصوت الحاد الذي يهشم الفضاء". ثم ينتقل السرد إلى جملة حوارية تقول "بنت الحرام، اشكون هاد الكبول اللي يرسلك البراوات"، وتعني "من هو هذا اللقيط الذي يبعث لك رسائل؟".

 وتحضر الأمثال الشعبية في الرواية بما يتسق مع الشخصيات أيضاً، كما في حوار والدة هوارية حين تضبطها تقرص خدودها تقول لها "خصك غير السواك يا معوج الحناك"، وتعني أنها غير جميلة. أو كما تقول والدة هشام "اللي موالف بالحفا ينسى صباطو"، أي من اعتاد السير حافياً سينسى حذاءه.

الصورة التي في ذهن هوارية عن أماكن المرأة تنحصر في مكانين، "الحمام لتغتسل، والمقبرة لتُدفن"، وتصف نفسها بأنها كانت تمشي في الشارع وعيونها تتبع قدميها كي لا ترى الخيالات التي ترافق المارة، أما هواري شقيقها فيمارس القمع على نساء العائلة زوجته وأخته وأمه، ولا يُخفي كرهه للإناث ويكرر حكمته الأزلية بأن "المرأة بلية الرجل"، ويحكي هاني عنه بأنه كان في وقت ما يعزف على القيثارة إلى أن تغيرت أفكاره وصار يرى الموسيقى لعبة الشياطين. تتعدد الوجوه الذكوريه في الرواية، فهوارية تخاف من أخيها هواري في وقت يمتلئ قلبها شماتة لبشاعته، بخاصة بعد أن أطلق لحية شعثاء، "كان هواري غريمها منذ أن بدأت تعي دنياها، هنيهات السعادة الفريدة التي دغدغت قلبها كانت من صنع هشام" الذي يراها تشبه ناديا لطفي في فيلم "الخطايا"، ثم يستدرك بأنها تشبه هند رستم في "صراع في النيل".

 أما أخوها فيرى أنها دميمة وأن ذهابها إلى حمام النساء لن يجلو قبحها، يراقبها طوال الوقت ولا يتوانى عن إهانتها وذمها، وهي نفسها تتعجب لم يراها هشام جميلة؟ هل بسبب بشرتها البيضاء الملوحة بالشمس؟ أم لون عينيها العسلي المتلون مع أحوال الطقس؟ أم قامتها الطويلة التي يسخر منها أولاد الحي بأنها "طويلة وهبيلة"؟ تبدو المآلات التي اختارتها الكاتبة لأبطالها منطقية ومتماشية مع الواقع المظلم، اختفاء هواري بعد انكشاف أمره، وسجن هدية، وبقاء هبة وحيدة بعد موت والدها والخالة بختة، وهوارية أيضاً لم يبق لها أحد سوى أمها التي تقبع على مشارف الموت، والحاجة هجيرة أم هدية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لغة كاشفة

جاءت اللغة السردية في الرواية متسقة مع السيرورة الاجتماعية والنفسية للأبطال وطريقة تعبيرهم عن بواطنهم، ولم تبدُ فظة أو جارحة بل كاشفة، ولعل اللافت في الأمر في ما يتعلق بهذه الرواية أنها نُشرت قبل تسعة أشهر، لكن بعد نيلها "جائزة آسيا جبار" عن فئة الرواية العربية، وهي إحدى أرفع الجوائز الأدبية الجزائرية، تعرضت إلى هجوم كبير في الجزائر وأثارت جدلاً واسعاً، فتقسمت الآراء في شأنها بين مهاجم للرواية معتبراً أنها غير جديرة بالفوز بسبب موضوعها واحتوائها ألفاظاً خارجة، وبين مدافع عنها لأنها نص أدبي يقدم الواقع في تخييل سردي وجرأة أدبية ضرورية.

وعلى رغم الجدل الواسع تظل "هوارية" شهادة قوية على قدرة الأدب على تحدي المحظورات الاجتماعية والدخول في حوارات عميقة حول قضايا الحرية والتعبير والقيود الاجتماعية والمعتقدات الفردية، إذ إنها تفتح أبواباً جديدة للتفكير والتأمل حول كيفية تعامل المجتمعات مع التغيرات والتحولات الجذرية في مفهوم القيم والأخلاق، وفي علاقة كل هذا بكيان المرأة ورؤية النماذج النسوية المختلفة التي قدمتها الرواية، وبالتوازي مع نماذج أخرى تمارس أدواراً ذكورية تفوق عنف الرجل، كما هو الحال مع شخصية "الأم" والدة هوارية التي تقوم بأدوار قمعية لا تقل قسوة عن ابنها هواري، وفي الوقت عينه نراها متعاطفة مع زوجة ابنها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة