ملخص
في رحلتها الفنية كثيراً ما تسعى الرسامة ريم الجندي خلف تأملاتها ومشاعرها وعلاقتها بمحيطها، كي تروي حكاياتها في سرديات بصرية نابعة من ذاتها. ومعرضها الجديد الذي يحمل عنوان "ملمس الماء" يدور حول الماء الأزرق وناسه السباحين.
في عالم الرسامة ريم الجندي تشكل معضلات الوجود وحوادث الزمن والتجارب مع المرض والعادات اليومية مادة حيوية للفن نفسه في المعنى الأوتوبيوغرافي، إذ تبدو كل مرحلة من مراحل الفن هي رحلة الأنا في محطات الحياة نفسها. ومن هذا المنعطف الذاتي يأتي المعرض الذي تقيمه ريم الجندي لجديدها الفني في غاليري "أجيال" (الحمرا- بيروت) بعنوان "ملمس الماء"، تروي فيه عن علاقتها بالمكان وتأملاتها العميقة بالماء كملمس ومادة وشكل ووهم وشفافية ومحتوى عاطفي. وتقول في مقدمة المعرض "ليس للماء ملمس بصري، هو مخادع يستعير ملمس الأشياء التي تحيط به ليخترع ملمساً وهمياً. أعرف هذا وأعرف أن ملمسه وهم، ولهذا السبب تحديداً ذهبت إليه".
المعرض يأتي في صيف بيروت الحار لينعش حواس الاستمتاع بالأزرق ويشتمل على مجموعة من اللوحات بمختلف الخامات والمواد، تقدم صوراً ورؤى وآفاقاً ومناظر مستوحاة من هناءة العيش في بيئة متوسطية مشمسة حافلة بالضوء والألوان النضرة والأفياء والانعكاسات الحيوية لصور الأشجار والسباحين في الماء. فاللوحات بكاملها تتمحور حول عالم حوض السباحة الكائن في أحد المنتجعات السياحية داخل بلدة عمشيت في جبيل الواقعة على شاطئ البحر. وهو موتيل يعود إلى سبعينيات القرن الـ20 مكون من مبنيين متقابلين بينهما "بيسين" يطل على منظر أشجار نخل وسرو، قصدته الفنانة منذ ثلاثة أعوام طلباً للراحة والتعافي من هشاشة العظام وهرباً من الكآبة والضيق في فضاء مدينة بيروت، خلال المرحلة المأزومة من وباء الكوفيد وأجواء الحروب.
بطلة نفسها
في واحة الأزرق والنعومة والسيولة يكمن المعنى العلاجي للفن الذي يتحول ملجأً وانطلاقة جديدة للفنانة في بحثها عن الخامات الجديدة، وإلهامات الريشة واللون في تحقيق مشاهد متنوعة من المناظر التي تصف طبيعة المكان من الداخل في أوقات خلوه أو حين يقصده رواده القلائل. تصفه في النهار تحت أضواء الشمس الساطعة التي ترسم على صفحات ماء المسبح بقعاً لولبية من الضوء، وتترصد تفاصيل المكان وتتفقد زواره وهم يقفون على حافة المسبح استعداداً للقفز في مياهه، أو حين تغمر المياه أجسادهم فتغدو لينة بلا معالم واضحة. غالباً ما تكون الفنانة بطلة لوحاتها فهي ترسم نفسها في قاع البيسين الجميل ببلاطه الأزرق وهو خال بشعور شبيه بالخسران، وترسم نفسها في الليل كأنها تكتشف جسدها في الماء وفي عتمة المكان الذي لا يضيئه سوى الضوء الذي ينوص في الماء، وترسم نفسها في النهار حين تعوم وحين تستريح وحين تجلس لتتأمل تحت ظل شجرة وارفة تنثر عليها زهراً أصفر كما في الأحلام.
ثمة حوائط أبنية ومقاعد ومظلات وسطوح ذات حافات متقاطعة ترينا إياها الفنانة من زوايا ذكية في التأليف، يصعب التقاطها عادة من دون الاستعانة بالكاميرا. وريم الجندي تتفنن في لعبة المنظور حين تقوم بتأليف لوحاتها على زوايا منحرفة وسطوح حادة متقاطعة هندسياً، بأسلوب واقعي في التقاط معالم الأشياء التي تراها أحياناً من خط الأفق أو من مكان علوي، حين ترسم جانباً من المسبح مع رواده في حين أن النخلتين ترميان بظلهما الهائل داخل ماء المسبح وعلى العشب، في منظر بديع التقطته الفنانة من إحدى الطبقات العليا من المبنى. وهي في التأليف تصل إلى جماليات بصرية أقوى من أسلوبها في فن التشخيص، الذي يبتعد من المبادئ الأكاديمية للجسم الإنساني، ويقترب من هوى الفنانة في إيجاد أشكالها الإنسانية المؤسلبة بنزعة فطرية مطعمة أحياناً بنكهة أيقونوغرافية معاصرة.
يتعذر فصل تجارب ريم الجندي عن ذاكرة "لوحات Pool" الشهيرة للفنان البريطاني ديفيد هوكني المبهجة والمشمسة لحمامات السباحة في كاليفورنيا التي يتحرك حولها ويعوم فيها العراة الذكور، وكانت سبباً في ذيوعه وانتشار أعماله في الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً بعد لوحة "A Biger Splash" عام 1967، التي عكف فيها على تحقيق المظهر السائل لشفافية الماء، باستخدامه طلاء الاكريليك مخففاً بالماء وقليل من سائل غسل جلي الأطباق، الذي وضعه مباشرة على القماش الخام. بالطبع كان رسم العوم في المسبح بالنسبة لريم الجندي نوعاً من التحدي بسبب شهرة أعمال هوكني، وبسبب تشابه التيمة ومواصفات المكان ومناخات الأزرق الطاغي على مشهدية اللوحات، علماً أن هوكني الذي انبثقت لديه الفكرة أساساً من بعض اللقطات الفوتوغرافية وصل في تجاربه المتقدمة حول الموضوع، بأن قام برسم خطوط حلزونية داخل المسبح الفارغ ليحقق مزيداً من تأثيرات علاقة السائل بالضوء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد يكون التأثير اللا واعي لريم الجندي منعكساً في مياه حوض السباحة وطريقة تقطيع المشهد، غير أن هوكني يبدو بارداً مسطحاً إذا ما نظرنا إلى الغليان اللوني في مناظر الجندي المفعمة بجماليات المكان كمنطقة جاذبة للعين بقوة التناغمات والتناقضات الساطعة تحت ضوء الشمس. إذ تبدو الألوان مشبعة وقوية لا تستكين كما تظهر مساحاتها الخالية مثل أقمشة مشغولة بالزخارف تحمل في طياتها عطوراً مشرقية من كل صورة ولون، إذ يختبئ الزعفراني الحاد بين أعطاف البرتقالي والذهبي والأحمر الساطع.
كأن الفنانة تسعى إلى قتل فراغ المكان بالطريقة التي تقتل فيها الوقت والضجر، وهي تنثر أوراق الأشجار الصفراء المكحلة بالذهبي والأخضر على فناء المسبح المنزلق الشفاف، أو تبتكر من مخيلتها مشهد أشجار من حدائق موهومة بعيدة. لعل أجمل منجزاتها هي اللوحات الصغيرة المشغولة أقمشتها من مادة الخيش النافر، وهي تؤطر مشاهدها كي ترينا إياها كما لو كانت من فتحة باب أو من عدسة كاميرا أو من نافذة العينين.
ريم الجندي في معرضها "ملمس الماء" تستكشف تجربة العيش في واحة من الهدوء والجمال بعيداً من يوميات الواقع المأزوم، تستكشف ليس بعينيها فحسب بل بدفق مشاعرها ومخيلتها وصدق ارتمائها في غبطة الماء وملمسه، سعياً إلى التقاط الوهم الهارب في فضاء العزلة.