Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رمز فاوست رافق البشرية منذ الزمن الأسطوري حتى العصر النووي

باحث أميركي يتناول القضية في الأدب والفن والسياسة والعلم ويظهر كيف أن البشر يبيعون أرواحهم مقابل منافع دنيوية

فاوست كما صوره المخرج الألماني مورناو في فيلمه الشهير (ملف الفيلم)

ملخص

يتناول الباحث الأميركي إد سايمون الظاهرة الفاوستية التي غزت التاريخ البشري على مدى قرون، بدءاً من الإرهاصات الأولى لمفهوم الغواية، إلى عصر الاستعمار والحروب النووية، وصولاً إلى أزمة المناخ والسوشيال ميديا والذكاء الاصطناعي وكل الأمراض الاجتماعية في عصرنا الحالي.

 

كثيراً ما سعى الإنسان إلى تجاوز قدراته المحدودة، لتحقيق ما استحال عليه في رحلة الحياة. وفي غمار مساعيه تلك واجهته أصعب الخيارات، إلا أنه لم يكن دائماً يحسن الاختيار. في كتابه "عقد إبليس: تاريخ الصفقة الفاوستية" Devil's Contract: The History of the Faustian Bargain، الصادر حديثاً عن دار ميلفيل للنشر، يأخذنا إد سايمون، أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة كارنيجي ميلون، في جولة تاريخية حول أسطورة فاوست، الرجل الذي أغراه الشيطان، أو بالأحرى طوع الشيطان لغاياته في مقابل التنازل عن روحه.

أسطورة في كتاب

 بعض الأفكار تبدو مخصبة من تلقاء نفسها ببذرة الخلود، كما هي الحال مع أسطورة فاوست التي أثارت المخيلة الجماعية منذ ظهورها في مخطوط رئيسة أحد الأديرة نحو القرن الـ10 ميلادياً. وهو ما يجعلها متفقة مع منشئها، ويفسر تصنيفها بكتاب لاهوتي. فالجدلية المطروحة في الأسطورة، تلي استجابة الله لإبليس بأن يغوي البشر، مع احتفاظ الذات العليا بشرط حاسم في تلك الصفقة، أن لا سلطان لإبليس عليهم. وما إن انتفى شرط القهر، حتى أصبح الغاوون هم الذين اختاروا طريقهم طوعاً، ومن ثم وجب عليهم العقاب.

مثل هذه الأفكار تحمل في جوهرها حقيقة لا تقبل الإنكار، حقيقة نعرفها كما نعرف أصابع اليد، فهي جزء لا يتجزأ من أحلام يقظتنا التي تحلق بنا إلى عنان السماء، وتغرينا بتذوق الشجرة المحرمة، حين تعجز كل الطعوم عن إشباع شغفنا الهائل.

يعود سايمون إلى الكتاب المقدس ليكشف النقاب عن بعض صفقات إبليس الفاشلة، منها محاولته مع المسيح في البرية. لكن الفضل في ظهور الشخصية يعود إلى كتاب "حياة دكتور جون فاوست" the historical Johann Georg Faust للرسام يوهان سبايس الصادر عام 1587، وهو كتيب ألماني يتحدث عن خطايا فاوست. وهذا الكتاب ليس من نسج الخيال، بل عن شخصية حقيقية عرفت بهذا الاسم، وأثارت جدلاً شديداً في ألمانيا إبان عصر النهضة.

كان المدعو يوهان جورج فاوست متفوقاً في دراسته الدينية، وبعد حصوله على درجة الدكتوراه ضاق ذرعاً بكتب اللاهوت وانكب على دراسة العلوم والرياضيات والكيمياء، قبل أن تظهر عليه بوادر المجون والانخراط في عالم السحر والتنجيم واستحضار الأرواح.

في لحظة جرأة اختلى فاوست بنفسه في غابة، ورسم شكلاً عجيباً يسمح للشيطان بالدخول إليه، وما إن حضر سيد الجحيم حتى أملى عليه ستة شروط تنفذ على الفور، بينما احتفظ الأخير باستحقاقه في شرطين، يحصل عليهما بعد 24 عاماً من النعيم. يوافق فاوست على الفور ويوقع على هذه البنود بدمه.

يظهر فاوست في الكتابات الأولى غير راض عما درسه، وعجز العلم عن إشباع فضوله، وبعد تسخيره للشيطان تمتلئ حياته بالعجائب والغرائب وكل ألوان المتع. ومع أن بعض المصادر تصنف قصة فاوست على أنها خرافة، فإن أستاذ اللاهوت مارتن لوثر كان معاصراً له، وكان من المنددين بممارسات الكنيسة لا سيما صكوك الغفران، فيبدي مارتن حماسة له في البداية، وسرعان ما ينقلب عليه وينعته بشتى النعوت، وهو ما يؤكد وجود الشخصية على أرض الواقع بصرف النظر عن الروايات التي نسجت حولها.

صراع الخير والشر

ينتهي ميثاق الشيطان عادة بالندم والبكاء، ويموت فاوست ميتة بشعة تقشعر لها الأبدان. من هنا اشتقت "الفاوستية" لنعت هؤلاء الذين ضحوا بقيمهم الروحية من أجل السلطة أو المعرفة أو المكسب المادي، ولم يكتشفوا فداحة الثمن إلا في نهاية الطريق.

بعد موته بتلك الطريقة تحول فاوست إلى أسطورة، ألهمت العديد من الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية والموسيقية عبر العصور. دخلت الشخصية للمرة الأولى عالم الأدب على يد كريستوفر مارلو في مسرحيته "التاريخ المأسوي لحياة دكتور فاوست ومماته" The Tragical History "of the Life and Death of Doctor Faustus التي لم تنشر إلا عام 1604، أي بعد وفاته، ثم تناقلتها الفرق المسرحية الجوالة في أكثر من 40 معالجة مع إجراء كثير من التعديلات لتقديم عروض فكاهية.

كان مارلو هو أول شاعر يستفيد من تلك الأسطورة، ونظراً إلى طبيعته المتشائمة ترك بطله فريسة للشيطان، على عكس مخطوط الكاتب والفيلسوف غوتهولد إفرايم ليسنغ الذي صدر عام 1786، من دون أن يكتمل، إذ تظهر رغبة ليسنغ في إنقاذ بطله وترجيح كفة الخير على الشر. يرجع السبب في ذلك إلى اقتناعه بأن طموح فاوست إلى معرفة لا حدود لها، إنما يعكس هدف البحث العلمي في اختراق الآفاق المجهولة، وهو هدف يستحق الثناء عليه وليس اللعنة.

في مسرحيته "فاوست" التي صدر الجزء الأول منها عام 1808، استطاع الشاعر الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته، أن يحقق طموح ليسينغ، وذلك حين يحضر الشيطان ليستوفي حقه في العقد، فيأتيه صوت من السماء محذراً "لن تنجح في ما تريد"، وبهذا تتدخل السماء لإنقاذ دكتور فاوست ومارغريت من براثن الشيطان.

عبر تلك الرحلة الطويلة اختلف هدف فاوست مع اختلاف العصر الذي ظهر فيه. في البدء أراد السلطة والمتعة، ثم أضيفت الرغبة في المعرفة، إلى أن أراد غوته أن يدخله في "التجربة" التي حرم منها داخل فصول الدراسة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفق بحث سايمون، ينتقل فاوست من عصر إلى عصر، مجدداً عهده مع الشيطان على ضوء المستجدات الراهنة، وواضعاً صيغاً جديدة للمفهوم الفاوستي. في معالجة توماس مان عام 1947، استخدم العهد الشيطاني لتفسير انجراف الألمان خلف جنون هتلر. كما استخدمه سايمون في تعريف الفاشية باعتبارها "سياسة الصفقة الفاوستية". يطلق سايمون على أميركا صفة "الجمهورية الفاوستية" فهي تنتهج منذ نشأتها المبدأ المكيافيللي الشهير "الغاية تبرر الوسيلة". وعلى مدى فصل كامل يفند الصفقة الشيطانية في تطوير القنبلة الذرية، مستخدماً كلمات حادة لوصف العلماء الذين رجحوا نبوغهم العلمي على شكوكهم الأخلاقية، لتصبح هديتهم للبشر هي أسرع وسيلة لتدمير أنفسهم.

الفاوستيون الجدد

يؤكد سايمون أن تلك الصفقة بين الإنسان والشيطان لا تزال تبرم حتى الآن. كتب يقول: "أخبرني أنه لا يوجد ذرة كبريت في كل فنان". وبعيداً من الأدب والفن، في الجزء الأخير من الكتاب، ينفض سايمون يديه من التاريخ، ويستدير إلينا، فإذا بنسخ جديدة من فاوست تواصل الأسطورة.

يزعم الكاتب أن البشر على مر تاريخهم يبيعون أرواحهم مقابل منافع دنيوية، لذا يوقعون على الخط المنقط في العقد الشيطاني. وهو يفسر بعض مشكلات العالم المعاصر في ضوء الصفقات الفاوستية، منها مشكلة الاحتباس الحراري التي بدأت منذ أن استبدلنا ببقاء كوكبنا محركات بخارية، ومكيفات هواء، وشحناً سريعاً، بينما ترتفع درجة الحرارة لتعلن قدوم الشيطان من العالم السفلي لتحصيل مستحقاته.

تمتد الفاوستية لتشملنا جميعاً حين يزعم أننا "نخون مبادئنا أحياناً من أجل تحقيق مكاسب شخصية"، نقول نعم للشيء الذي تحدثنا ضمائرنا بأنه خطيئة. إننا نتنازل دائماً لإشباع رغبة ما أو طموح عزيز، وننكب على الشاشات مثل دكتور فاوست المتعطش للسلطة. وفي كل مرة نضغط فيها زر "قبول"، فإننا نوقع اتفاقاً مع الشيطان. يرى سايمون أيضاً أن الذكاء الاصطناعي الذي شاع أخيراً هو الشيطان المكلف بإغوائنا.

إن التضحية بمبادئنا في مقابل القوة تشكل في رأي الكاتب نماذج لجميع أنواع الأمراض الاجتماعية عبر التاريخ، وحتى عصرنا هذا، الذي أطلق عليه "العصر الفاوستي"، لأن الشيطان سواء كان حقيقياً أم وهماً فإن "آثاره في العالم حقيقية". لذا يطلب منا بجدية شديدة أن نستوعب الدرس، لأن نهاية تلك الصفقات هو الهلاك بعينه، وعلينا أن نضافر جهودنا لمعرفة "كيفية إلغاء العقد الذي وقعه الأسلاف".

اقرأ المزيد

المزيد من كتب