ملخص
اختلفت السياسات وانقلبت الإجراءات من أقصى يمين التنديد بحجب المنصات والسيطرة على المحتوى وتأكيد حق الشعوب والجماعات والشركات في محتوى بلا رقابة أو ملاحقة، إلى أقصى يسار التهديد بالحجب والإقدام على السيطرة والمضي قدماً في تحجيم وتقليص "حق" الشعوب والجماعات والشركات في حرية المعلومات.
حجب السلطات المصرية لاتصالات المحمول والإنترنت أحدث ارتباكاً في تنسيق فعاليات المتظاهرين السلميين (2011). الإنترنت والهواتف المحمولة أسلحة تعبير سلمية وحق بدهي من حقوق الإنسان، فكيف للحكومة المصرية أن تخرق هذه الحقوق؟ شباب الـ"فيسبوك" في مصر وتونس وليبيا يصنعون تاريخاً سلمياً عظيماً من الحرية والديمقراطية. إدانات دولية رسمية وحقوقية واسعة لقطع الإنترنت أو إبطاء عمله في تونس وسوريا والبحرين والأردن. وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تحث السلطات المصرية على السماح بالاحتجاجات السلمية وتطالبها بالتراجع عن الخطوات غير المسبوقة التي اتخذتها بقطع الاتصالات. بائع مياه غازية يوزع المشروبات مجاناً على شباب "فيسبوك" و"تويتر" (لم تكن قد أصحبت ’إكس‘ بعد) في ميدان التحرير. ملايين الشباب في دول "الربيع العربي" استخدموا سلاح الـ"سوشيال ميديا" السلمي ليطالبوا بالأفضل لبلدهم والحصول على حقوقهم. الأنظمة القمعية حولت " الـ"سوشيال ميديا" من سلاح للديمقراطية إلى مقصلة للقمع والرقابة.
وفي سياق آخر متصل، لكن منفصل تماماً، ما يجري في شوارع بريطانيا من تخريب وإرهاب يظهر قدرة الـ"سوشيال ميديا" على إحداث الأذى.
الـ"سوشيال ميديا" حلبة المصارعة والمواجهة بين الحكومة والمخربين وأعداء البلاد. الـ"سوشيال ميديا" مضللة وجاري تقليص أضرار جنوح المحتوى. التطرف "أون لاين" مشكلة آخذة في التوسع ولا أحد يفعل شيئاً. خطاب الكراهية على الـ"سوشيال ميديا" يستهدف مرشحة الرئاسة الأميركية كامالا هاريس. اقتحام "الكابيتول" في شتاء 2022 تم بإيعاز من الـ"سوشيال ميديا".
الرئيس الفرنسي ماكرون يعتبر الـ"سوشيال ميديا" مسؤولة عن تأجيج الاحتجاجات في صيف 2023. منصات التواصل الاجتماعي تتحمل مسؤولية الشغب كاملة. بائع يوزع الآيس كريم على متظاهري اليمين المتطرف في ساوث بورت. المعلومات المضللة غير المنظمة على وسائل التواصل الاجتماعي تدمر بريطانيا. وفي بريطانيا، حذر رئيس شرطة لندن (متروبوليتان) السير مارك رولي قبل أيام من أن المسؤولين لن يقمعوا المواطنين البريطانيين بسبب تعليقاتهم المثيرة للفتنة على أعمال الشغب فقط، بل سيقمعون المواطنين الأميركيين كذلك. وقال رولي "سنلجأ إلى القوة الكاملة للقانون. وسواء كنت ترتكب الجرائم في الشوارع في هذا البلد (بريطانيا) أو ترتكب جرائم من أماكن بعيدة عبر الإنترنت، سنلاحقك".
الفارق الزمني نحو عقد
الفارق الزمني بين "ربيع" العرب وصيف بريطانيا وقبلهما فرنسا وشتاء أميركا وغيرهم من الفصول في دول عدة، نحو عقد أو أكثر قليلاً. وإضافة إلى الفارق الزمني، اختلفت السياسات وانقلبت الإجراءات من أقصى يمين التنديد بحجب المنصات والسيطرة على المحتوى وتأكيد حق الشعوب والجماعات والشركات في محتوى منزوع السيطرة بلا رقابة أو ملاحقة إلى أقصى يسار التهديد بالحجب والإقدام على السيطرة والمضي قدماً في تحجيم وتقليص "حق" الشعوب والجماعات والشركات في حرية المحتوى.
الأعوام القليلة الماضية، وتحديداً منذ قيل، وفي أقوال أخرى تأكد، تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أسفرت عن فوز الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2016، ونصف العالم الغربي يراجع دعمه غير المشروط ودفاعه منزوع القيود عن الحرية المطلقة لما يتم بثه على منصات الـ"سوشيال ميديا".
أحداث بريطانيا الدامية الحالية، وقبلها في فرنسا، وبينهما في أميركا وكذلك في ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وغيرها، دفعت غالبية هذه الدول إلى اتباع نهج مختلف تماماً في ما يختص بالـ"سوشيال ميديا"، وهو النهج القريب جداً لحد التطابق من ذلك المتبع في دول ضربها "الربيع" بدءاً من عام 2011.
الاتحاد الأوروبي ينظم
في عام 2022، خرج مفاوضو البرلمان الأوروبي والدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بـ"اتفاق تاريخي". الاتفاق احتوى نصوصاً قانونية "تجبر" شركات التواصل الاجتماعي مثل "ميتا" (فيسبوك) و"إكس" (تويتر) وغيرها من شركات "السوشيال ميديا"، إضافة إلى "غوغل" و"أمازون" وغيرهما من شركات ومحركات البحث على الإنترنت، على "تنظيم" المحتوى الإلكتروني، هذا التنظيم يتعلق بتتبع (مراقبة) خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، على أن يتم إزالة المحتوى غير القانوني، والأهم "التعاون مع السلطات" في هذا الشأن.
وعقب الإعلان عن "الاتفاق التاريخي"، غردت رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين بهذه الكلمات، "قواعدنا الجديدة ستحمي مستخدمي الإنترنت، وتضمن حرية التعبير ووجود فرص للشركات. الشيء غير القانوني بعيداً من الإنترنت سيكون غير قانوني على الإنترنت. هذه إشارة قوية للناس والشركات والدول في مختلف أنحاء العالم".
مختلف أنحاء العالم تلقت الإشارة القوية بالفعل، لكن التلقي جاء مختلفاً بعض الشيء عما كانت تقصده الرئيسة. فما بدأ الاتحاد الأوروبي في التنبه إلى خطره، وسن القوانين من أجله، وإبرام الاتفاقات لمنعه كان حتى الأمس القريب ساحة غناء من الحرية لا مجال للحديث عن السيطرة عليها أو مراقبتها وبالطبع تنظيمها.
تدخل واقتحام وتحريض
ما قاله مسؤولون أميركيون عن تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية عامي 2016 و2020، وما قاله مناهضون ومعارضون للرئيس السابق ترمب وقت اقتحام مبنى "كابيتول" عام 2021 من أنه حرض على عنف سياسي غير مسبوق وأعمال عدائية مميتة وخطرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وما صرح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غير مرة عن دور الـ"سوشيال ميديا" في التحريض على أعمال الشغب التي ضربت فرنسا العام الماضي، وما يجري في شوارع مدن عدة في بريطانيا الذي أدى إلى وصف رئيس الوزراء كير ستارمر نشاط اليمين المتطرف في فضاء التواصل الاجتماعي بـ"البلطجة" و"التحريض على العنف" وغيرها من أحداث شبيهة في الأعوام القليلة الماضية كشفت وجهاً آخر للتمكين العنكبوتي والدمقرطة عبر أدوات التواصل الاجتماعي تختلف تماماً عن الوجه الذي كان سائداً أيام "الربيع العربي".
دائرة اللوم والاتهام في بريطانيا لم تقف عند حدود "بلطجية" اليمين ومحتوى الـ"سوشيال ميديا" المفبرك والمتطرف فقط، بل شملت الشركات أيضاً. قال رئيس الوزراء ستارمر، "اسمحوا لي أن أقول أيضاً لشركات وسائل الـ(سوشيال ميديا) الكبرى، وأولئك الذين يديرونها إن الاضطرابات العنيفة، التي يتم إعدادها على الإنترنت، هي أيضاً جريمة، وهي تحدث في أماكن العمل الخاصة بكم (الشركات). ويجب احترام القانون في كل مكان".
أية قوانين؟
هكذا، وبعدما كانت الاحتجاجات المولودة من رحم "فيسبوك" والتظاهرات المنظمة بفضل "تويتر" ونشر الأخبار "الدقيقة" وبث الفيديوهات "الجلية" عبر شتى منصات الإنترنت التفاعلية أفضل ابتكارات القرنين الـ20 والـ21 الإنسانية والحقوقية، أصبحت منصات فتنة وتفريق، وأدوات استقطاب وإثارة قلاقل، وتطبيقات كشفت عوار القوانين المنقوصة والتدابير المعيوبة.
رئيس الوزراء البريطاني هدد من يشاركون في أعمال "البلطجة"، وتوعدهم بالتعقب القانوني، والندم على ما يقترفون من عنف وشغب وتخريب. غالبية هذه الأعمال التخريبية التي طاولت نحو 20 موقعاً في مدن عدة في بريطانيا استهدفت مساجد ومراكز إسلامية وفنادق إقامة طالبي اللجوء، ووصل الأمر لدرجة استهداف مكاتب محامين متخصصين في قضايا اللجوء والهجرة ولم الشمل.
عمدة لندن صادق خان نفسه قال إنه "باعتباره سياسياً مسلماً" لا يشعر بالأمان في ظل أحداث الشعب والعنف تلك، مضيفاً أن المسلمين في بريطانيا باتوا يفكرون مرتين قبل أن يتوجهوا إلى الصلاة في المساجد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم تنديد الساسة البريطانيين بما جرى من عنف اليمين انطلاقاً من منصات الـ"سوشيال ميديا"، وتهديد المسؤولين لهم بتطبيق القوانين، فإن القوانين التي يجري التلويح بتطبيقها ربما تقف عاجزة أو قاصرة عن تحقيق المراد، ألا وهو وقف خطاب الكراهية والتحريض، ووضع حد للكذب والفبركة، وفرض قيود تنظيمية على ما يتم بثه عبر الأثير.
عبر الأثير، وتحديداً على منصات الـ"سوشيال ميديا"، تجري أتون الفوضى المختلف على نعتها بين نقيضي "الخلاقة" و"الهدامة"، وذلك منذ انتشارها في أرجاء المعمورة ليصل عدد المستخدمين في أبريل (نيسان) الماضي إلى 5.07 مليار شخص، أي 62.6 في المئة من سكان الأرض، وذلك بحسب موقع "ستاتيستا" لإحصاءات الإنترنت.
لوم على الحكومات
التاريخ المعاصر يخبرنا أن "البشارات" الأولى للـ"سوشيال ميديا" بتقنياتها الحديثة تعود إلى منتصف التسعينيات، لكن انتشارها الشعبي الجارف بدأ مطلع القرن الـ21، وهي البداية التي يلوم البعض فيها الحكومات والأنظمة، لا سيما في دول العالم الأول، وعلى وجه التحديد صاحبة القوى الأكبر أو الأعظم، تركها لتنمو وتتوسع وتتوغل بطريقة يصفها بعض بـ"الشيطانية".
من دون ضابط محتوى أو رابط تنظيمي، قدمت الـ"سوشيال ميديا" نفسها، أو بالأحرى قدمتها شركاتها التي تملكها، باعتبارها أعظم الابتكارات وأفضل الاختراعات. منذ مطلع القرن الـ21، لا يمر عام دون أن تحوي قوائم "أفضل مبتكرات العام" و"أنجع خدمات السنة" منتجاً أو خدمة لها علاقة بالإنترنت أو منصاتها أو تطبيقاتها.
انبهار سكان الأرض
انشغل سكان الأرض، باستثناء ربما فئة الحكام والمسؤولين، بتبجيل هذا القادم الجديد العظيم إلى شاشاتهم، الذي يقدم لهم المعلومة أو أشباهها، والخبر أو ما يبدو كذلك، والترفيه بغض النظر عن نسبة السم في عسل المكونات، والأدهى والأروع من ذلك تحويل كل من يملك شاشة إلى متخصص إستراتيجي ومحلل سياسي ومحرك جماهيري وناقد فني ومعلق رياضي ومؤثر في كل تفاصيل الحياة من إبرة الحياكة إلى الصاروخ النووي. لم يلتفت أحد إلى إمكانات هذا القادم الجديد وقدراته واحتمالات تحوله من أعظم مبتكرات القرن إلى أكثرها فتكاً، وذلك بحسب حصافة ودراية وأيديولوجية المستخدم.
ولأن الدعوات الأولى للتنظيم والتقييد، وأحياناً المنع والحجب من قبل حكام وحكومات، جاءت ضمن سياق "ثوري" وأجواء احتجاجية على الفساد والظلم والديكتاتورية وغيرها من عوامل اشتعال ما يسمى "الربيع العربي"، فقد نظر إليها المجتمع الثوري والعالم الأول (الغرب) باعتبارها همهمات بلا قيمة ودفاعات لا تهدف إلا إلى الإبقاء على "الديكتاتورية".
التحول من هذه المرحلة المبكرة إلى المرحلة الحالية التي ترفع فيها دول عظمى راية التنظيم والتقييد والتدقيق والحساب يأتي على خلفية أقرب ما تكون إلى الخيال. خوف بريطانيا من توترات محلية، وأميركا من حرب أهلية، وفرنسا من قلاقل خطرة، ضمن أخطار أخرى كثيرة، تطرح أسئلة كثيرة. هل خرجت شركات الـ"سوشيال ميديا" عن السيطرة؟ هل مراقبة الشرطة البريطانية لمحتوى "تيك توك" أمر منطقي أو مستدام؟ هل تدقيق الجهات الرسمية الفرنسية لما يرد على "إكس" قابل للاستدامة؟ هل حجب "تيك توك" في أميركا هو الحل فعلاً لنزع فتيل الفتنة والفرقة؟ وكل ما سبق يؤدي إلى سؤال أكبر، هل أصبحت منصات وشركات الـ"سوشيال ميديا" قوى عظمى تمتلك ما هو أشد فتكاً من الدبابات والصواريخ؟ وعودة إلى السؤال الأصلي، هل حان وقت تنظيم الـ"سوشيال ميديا" بالنبل أو بالاحتيال؟
الاجتياح بالفوضى
في كتابه "من ينبغي أن ينظم الخطاب على الإنترنت؟" (مارس 2024) يتساءل المؤلف أستاذ القانون ديفيد كول إن كان التعديل الأول للدستور الأميركي قد عفا عليه الزمن في عصر "تيك توك"؟ ثم يقول إن القانون الدستوري صدر في وقت كانت فيه فرص الوصول إلى جمهور كبير أقل بكثير مما هي عليه اليوم، وكان لا بد من حماية هذه الفرص من الرقابة الحكومية. أما فرص التعبير في عصر الإنترنت، فهي وفيرة، وحجب ما يسمعه الناس أو يقرؤونه أو يشاهدونه أو يتلاعبون به خوارزمياً، يمكن أن يمثل تهديداً أكبر من القمع التقليدي لحرية التعبير.
ويشير كول إلى أن أعوام التزام الصحافي أو الإعلامي بخط تحريري بعينه، والتقيد بما يحدده رئيس التحرير والناشر قد انتهت، وحالياً يمكن لأي شخص أن يكون ناشراً ذاتياً وقادراً على الوصول إلى الجمهور من خلال منصات الـ"سوشيال ميديا" الكثيرة، لكن عندما يتمكن أي شخص من النشر، دون الحاجة إلى إقناع أو إثبات لرئيس التحرير مثلاً بأن ما يقوله حقيقي أو جدير بالنشر أو أخلاقي، فإن الخطاب العام يكون معرضاً لخطر الاجتياح بالفوضى، والتعبير عن التعصب والكراهية، وإطلاق العنان للكذب والتضليل سواء كان ذلك عن عمد أو من دون.
يشار إلى أن الغالبية المطلقة مما يتم تنظيمه من محتوى على الـ"سوشيال ميديا" يتم عبر معايير وأدوات تضعها وتطبقها الشركات نفسها، وهي المعايير والأدوات التي قلما شكك فيها أو ناقش كفاءتها أو طالب بتعديلها أو تضييقها أحد أو جهة أو قوة من على الجبهة المناهضة لها حالياً. غالبية المنصات تعمل بطريقة "القواعد المجتمعية" التي تطلب من المستخدمين اتباع قواعد معينة خاصة بالمحتوى، وفي حال تم خرقها، بحسب مستخدمين آخرين، يقومون بالإبلاغ عنها، واختيار نوع الخرق بحسب قائمة معدة سلفاً مثل حض على الكراهية، أو تنمر، أو عنف أو ما شابه. ويقوم فريق من البشر أو تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالنظر في ما تم الإبلاغ عنه، وتحليله والخروج بنتيجة إما أنه بالفعل يخرق القواعد، فيتم حذفه، مع تحذير أو إيقاف صاحبه لفترات زمنية مختلفة بحسب درجة الخرق، أو يعتبرون المحتوى مقبولاً ولا غبار عليه.
تنظيم لطيف
مثل هذه الطريقة في التنظيم والتدقيق والمنع والمحاسبة تبدو لطيفة ومتحضرة، لكنها تقف عاجزة أمام طوفان المحتوى. على سبيل المثال، في كل ثانية يتم التغريد بنحو 6 آلاف تغريدة، وفي كل دقيقة، يتم إرسال 350 ألف تغريدة، ومتوسط عدد التغريدات اليومية نحو 500 مليون تغريدة، وفي العام نحو 200 مليار تغريدة. وهذا على "إكس" (تويتر) فقط.
جزء من الانتقادات سواء الرسمية أو الشعبية التي توجه لـ"القواعد المجتمعية" المنظمة لمحتوى الـ"سوشيال ميديا" يتعلق بالتسييس أو التحيز من قبل الأفراد العاملين في هذا القسم في الشركات، أو عبر تغذية خوارزميات التدقيق بقواعد التسييس.
تسييس التنظيم
على سبيل المثال أيضاً، انتقدت "منظمة العفو الدولية" في ديسمبر (كانون الأول) 2023، عمل سياسات وممارسات "ميتا" على إسكات الأصوات الداعمة لفلسطين وحقوق الفلسطينيين على كل من "إنستغرام" و"فيسبوك"، وذلك في أعقاب عملية "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وما أعقبها من حرب إسرائيلية شعواء على غزة. وصفت المنظمة ما يجري في ورقة عنوانها "وعود ميتا المكسورة". وقالت إن وسائل الـ"سوشيال ميديا" تشهد موجة من الرقابة المشددة، وبلغ عدد التدوينات وغيرها من المحتوى الداعم لفلسطين والمدافع عن حقوق المدنيين الذي تمت إزالته خلال شهرين فقط 1050 تدوينة.
وذكرت المنظمة الحقوقية أن الرقابة على المحتوى المتعلق بفلسطين على "إنستغرام" و"فيسبوك" منهجية عالمية، وأن اتباع "ميتا" لسياسات إزالة المحتوى الخاص بفلسطين بصورة خاطئة لا يتسق وسياساتها المعلنة.
وبعيداً من تسييس القواعد وإعمال التحيز في تطبيق المعايير، يتصاعد التساؤل حول إمكانية استمرار الاعتماد على "القواعد المجتمعية" فقط لتنظيم محتوى الـ"سوشيال ميديا"، الآخذ في التحول من الاستفهام إلى الاستنكار.
الكاتبة الصحافية الأميركية إميلي بازلون كانت قد سلطت الضوء على إشكالية وجدلية تحديد الجهة الجديرة أو المقبول منها تنظيم محتوى الـ"سوشيال ميديا". كتبت "حين يتعلق الأمر بتنظيم حرية التعبير، فإننا لا نشعر بالارتياح إزاء قيام الحكومة بذلك. ولا نطمئن لقيام شركات الـ"سوشيال ميديا" نفسها بذلك. ليس هذا فقط، بل إننا لا نطمئن حين يترك الأمر بلا تنظيم أو تقييد على الإطلاق".
الطريق إلى الفوضى
في السياق نفسه، تدرك الدول الكبرى أن حرية التعبير دون أن تكون حرية مسؤولة هي طريق مؤكد نحو الفوضى. كما يدرك المدافعون عن حرية التعبير أن التعبير المسؤول دون حرية هو الطريق المؤكد نحو دهس المعارضة وخنقها تماماً.
وبينما تصارع بريطانيا من أجل تنظيم المحتوى ومراقبته، وتتحسس أميركا مؤسساتها وجهاتها قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة خوفاً من تكرار تدخل هنا أو توجيه رأي عام هناك، وتستمر دول الاتحاد الأوروبي في المضي قدماً أملاً في التنظيم ودرءاً للفوضى التي يحركها الأثير، فإن شركات الـ"سوشيال ميديا" العملاقة والسوبر عملاقة لا تبدي مؤشرات تدل على تحريك ساكن في هذا الشأن.
الطريف أن جانباً كبيراً من الواقعين والواقعات تحت تأثير الـ"سوشيال ميديا" أنفسهم يقولون أو يشعرون أو يعرفون أن هذه الشركات تمتلك وتمارس قدراً هائلاً من التأثير السياسي. في أبريل الماضي، وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "بيو" لبحوث الإنترنت أن 87 في المئة من الأميركيين البالغين يعتقدون أن شركات الـ"سوشيال ميديا" تؤثر في السياسة بصورة زائدة عن الحد. في عام 2021، تناول المؤلفان بيل باير وكايتلين تشين- روثمان سطوة شركات الـ"سوشيال ميديا" على مجالات التعبير، ومن ثم صناعة وتوجيه الرأي العام، في ورقة عنوانها "التطرق إلى سلطة شركات التكنولوجيا الكبرى على التعبير" على موقع "بروكينغز" وجاء فيها أن القوة الخام يمكن إساءة استخدامها. في غياب قيود الحماية، لا يكون هناك ما يضمن أن هذه المنصات المهيمنة ستستخدم هذه القوة لتعزيز الخطاب للمصلحة العامة في المستقبل. وتنبه الورقة إلى أن القوة السياسية التي تحظى بها شركات الـ"سوشيال ميديا" العملاقة تأتي من قوتها الاقتصادية.
من ينظم من؟
فمن ينظم من؟ وهل هناك رغبة في التنظيم من الأصل، لا سيما أن هذه الشركات، على رغم كل ما يوجه إليها من اتهامات بالتسبب في فتن ترقى إلى الإرهاب وفوضى قد تؤدي إلى حروب أهلية، ماضية في تنمية قيمتها السوقية التريليونية؟ الكاتب الصحافي المصري محمد حسين أبو الحسن رأى في مقال عنوانه "التكنولوجيا فاعلاً سياسياً" (أغسطس ’آب‘ الجاري) أن "يوماً بعد يوم، تذوب الحدود بين السياسة والتكنولوجيا. تتضخم شركات التكنولوجيا العملاقة إلى قيم تريليونية، ويتضخم معها دورها على مسارح الاقتصاد والسياسة الدولية بصورة يصعب تخيلها. تتدفق كل دقيقة كميات هائلة من الأفكار والبيانات والأموال والسلع والأشخاص عبر الحدود، مما يخلق تحولات بالغة في هياكل السلطة والحكم، بل وآليات النظام العالمي كما لم نعهده من قبل. شركات التكنولوجيا بطبيعتها كيانات عابرة للوطنية، تتمرد على القيود وتحلق عالمياً وعالياً".
شركات الـ"سوشيال ميديا" تحلق عالياً. والدول العظمى تخوض صراعاً غير متوقع من أجل الإمساك بهذه البالونات المحلقة آملة في أن تتحكم في تحليقها. شركات الـ"سوشيال ميديا" صارت قوى عظمى هي الأخرى، والصراع على الاحتفاظ باللقب سيشهد فصولاً مثيرة وتحولات كثيرة.