Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الانتماء والعبودية في رؤية النوبلية توني موريسون

 كتاب "أصل الآخرين" يسائل الأدب الأميركي وتحولاته

الروائية توني موريسون (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

ملخص

"أصل الآخرين" كتاب للروائية توني موريسون (1931-2019) الحاصلة على "نوبل للآداب" عام 2016 تستعيد فيه مفهوم العبودية من خلال الأدب الأميركي.

من الأمور البديهية التي صارت معتمدة في نوع الرواية الأدبي - ولدى البعض بصورة خاصة - أن يحتاج الكاتب الروائي إلى قدر من التأمل والبحث المسهب في موضوع ما يزمع كتابته، من أجل أن يخرج صنيعه الأدبي تام الصدقية أو من أجل الإحاطة التامة بجوانب المشكلة أو الأطروحة التي يدافع الكاتب عنها على امتداد فصول الرواية. وذلك هو شأن عديد من الروائيين الكبار أمثال أومبرتو إيكو وميلان كونديرا ولوكليزيو وتوني موريسون وغيرهم.

وقد صدر للأخيرة موريسون (1931-2019) الحاصلة على "نوبل للآداب" عام 2016 عن مجمل أعمالها كتاب مترجم حديثاً إلى العربية بعنوان "أصل الآخرين"، نقله الكاتب أسامة أسعد إلى العربية وصدر عن دار شركة المطبوعات للتوزيع والنشر هذا العام (2024). والكتاب كناية عن مجموعة محاضرات ألقتها الكاتبة الأميركية ذات الأصول الأفريقية في جامعة هارفرد عام 2016، تعالج فيها معضلة التمييز العنصري والعرقي داخل الولايات المتحدة الأميركية والتي كانت مفاعيلها لا تزال قائمة إلى حينه. علماً أن هذه المحاضرات كان لها صدى وتأثير مباشر في مجرى الحياة السياسية على ما قالت كاتبة مقدمة الكتاب تا نيهيسي كوتس، بدليل أن رئيس الجمهورية في حينه باراك أوباما أوعز إلى وزيري العدل والأمن في الحكومة بإجراء التحقيق اللازم حول انتهاكات الشرطة والإدارة بحق المواطنين من ذوي البشرة السمراء والداكنة، والتي ذهبت بهم حد قتلهم واعتبارهم كائنات أقل شأناً لكونهم "مختلفين عرقاً"، على ما جرى لمايكل براون أو إريك غارنر وهما مواطنان قتلا على يد رجال الشرطة لأسباب واهية تتصل بقوانين السير في الظاهر.

طابع الرومانسية على العبودية

إن أول ما لفت انتباه الكاتبة موريسون وهي تدرس عدداً من الأعمال السردية واليوميات العائدة لأميركيين من القرنين الـ18 والـ19، وبخاصة تلك التي انطوت على تصور معين عن الزنوج أو ذوي البشرة السوداء أو العبيد على ما كان يطلق عليهم في حينه، هو إضفاء كتاب النصوص طابع الرومانسية على امتلاكهم العبيد من الزنوج والتصرف بملكهم كيفما شاؤوا مشفوعاً بنظرة دونية إلى شخصية العبد، دفعت بأحد الأطباء ويدعى صموئيل كارترايت إلى وضع قوانين فيزيولوجية يصنف بها الزنوج على أنهم متراخون طبيعياً ويحتاجون إلى الرجل الأبيض كي يسوقهم بعصاه، وأن دماغهم حافل بالخرافات والجهل وأن في دمائهم تسري أمراض مستعصية مثل الدرابيتومانيا أو مرض هرب العبيد، أو مرض "إثيوبيكا" أو مرض الخمول العقلي الذي يجعل الشخص نصف نائم...

وبناء على هذا التوصيف يخلص هذا الطبيب من أوائل القرن الـ19 إلى أن الزنوج ليسوا بشراً بصورة واضحة ولكنهم ليسوا تماماً كالبهائم، بالتالي لا يصلح العبيد سوى لزراعة الأرض بالقطن والرز والتبغ ورعاية الماشية وللمتعة الجنسية متى ما يحلو للأبيض، ومن دون أن يشعر أحدهم بوخز في الضمير. بل إن الرجل الأبيض على ما بينت توني موريسون لدى تفحصها يوميات أحد الأثرياء من أبناء الطبقة الإنجليزية العليا ويدعى توماس ثيسلوود والتي سطرها عام 1750، كثيراً ما تباهى بكونه مالكاً للعبيد ومشرفاً على عمل هؤلاء في مزرعته لإنتاج قصب السكر ومستمتعاً بمجامعته إحدى الإناث منهم وقتما يشاء، باعتباره عملاً عادياً مثل تنظيف الورشة أو جرف تربة البركة أو سقاية الأزهار، ولا يتوانى عن إعلان ذلك على الملأ من دون أن يتساءل قط عن جريرة أعماله ولا عن الطبيعة الأخلاقية لممارسته العبودية، ما دام المجتمع الأميركي الأبيض مسلماً بتلك العبودية ومستغلاً لها على صورتها المقززة التي نراها اليوم، خلال القرن الـ21.

وفي المقابل، سعت المحاولات الأدبية أواخر القرن الـ19 إلى إضافة شيء من الرومانسية على العبودية لتلطف الصورة عما بلغته اليوميات المشار إليها، فها هي هارييت بيشر ستو تكتب للرجال البيض تدعوهم إلى عدم الخوف من العبيد ومراعاة إطارهم الفلاحي الرومانسي نوعاً ما عند محاولتهم التواصل معهم. ومن هذا القبيل كانت رواية "الكوخ عم توم" التي وضعت للقراء البيض وحملت في طياتها قدراً من معاناة السود المستعبدين والمعرضين لشتى صنوف القهر والإبعاد والشراء، فراجت رواجاً كبيراً في أميركا وأوروبا، واعتبر البعض أنه كان لها (الرواية) نصيبها في تحريض الأميركيين على الثورة ضد العبودية، في ما سمي الحرب الأهلية الأميركية التي اندلعت عام 1861. وأياً يكن مفعول الرواية ذات السيرورة الكبرى في زمنها التي وضعتها هارييت ستو للرجال البيض تحديداً حتى يروا العبودية من الإطار الطبيعي مطعماً بقدر من التسامح والقبول حيال الزنوج، فإن موريسون رأت فيها رومانسية تظلل العبودية التي بقيت آثارها راسخة في نفوس الأميركيين، وبخاصة العبودية الجنسية التي ألبست إطاراً مجملاً من المشاعر.

وبناء على تلك المعرفة العميقة بالعبودية مضت الكاتبة توني موريسون في روايتها "العين الأشد زرقة" بالكشف عن مكامن الضعف في نفسية الزنجي، وأولها الكراهية التي يبديها الشخص الأسود لعرقه وما ينجم عن هذا الكره من استعداد للرضوخ للرجل الأبيض وتقبل عبوديته.

فكرة الغريب واللون

ولا تكتفي الكاتبة موريسون باستجلاء فكر العبودية من خلال أدبيات فكرية سابقة وإنما تستنطق أيضاً بعضاً من المدونات السردية والمجاميع القصصية لتستنتج منها فكرة الغريب، والشغف باللون الأسود والأبيض كما فعلت لدى قراءتها قصة الكاتبة فلانيري أوكونور وهي بعنوان "الزنجي المصطنع". وتروي القصة حكاية جد وحفيده يزمعان على زيارة المدينة مسقط رأس الصغير ليتعرف الأخير على الزنوج، وليتأكد الجد من انطباعاته عنهم. وتجري الأحداث بما لا يتوافق مع انتظارات كليهما وبما يكشف عن أن فكرة الغريب وأية فكرة عن الآخر مهما تكن لا تولد مع الكائن، وإنما هي تلقن للفتى أو للفتاة منذ سنواتهما الأولى. وعلى هذا فإن فكرة العرق الدال على الهوية شأن السمات المميزة للفرد مثل الثقافة والسمات الجسدية والدين واللغة والطبقة تلقن للمرء منذ نعومة أظفاره، بحيث يصير شخصاً فاعلاً في "الاستراتيجيات التي تهدف إلى تعزيز الهيمنة وتكريس السلطة" (ص:33)

وفي هذا الشأن تستحضر الكاتبة هذه المرة مسارد الزنوج وبعضاً من سجلاتهم ومذكراتهم التي يروون فيها المظالم الرهيبة التي قاسوها وهم في عهدة أرباب العمل، مالكيهم والمتصرفين بهم بيعاً وشراء وعملاً وجنساً وضرباً سادياً وحياة، ومن تلك المسارد مذكرات ماري برنس (1831) والتي روت فيها بعض ما قاسته في عملها بمناجم الملح إذ تقول "أعطوني نصف برميل لأملأه بالملح ومجرفة، وكان علي أن أظل واقفة في المياه التي تصل إلى ركبتي من الساعة الرابعة صباحاً إلى التاسعة لنحصل على بعض الذرة الهندية المغلية في الماء... وسرعان ما امتلأت أقدامنا وسيقاننا بالدمامل المروعة التي كانت في بعض الحالات تأكل اللحم حتى تبلغ العظام من جراء الوقوف في الماء ساعات طويلة..." (ص:34)

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبعد هذه البينات الصادمة التي تظهرها موريسون على بشاعة التمييز العنصري والشرور الكبرى التي تنجم عن استغلال الإنسان لآخرين بأية ذريعة وتحت أي غطاء تصنيفي وهوياتي معين، تمثل الحروب الدينية والإثنية والقومية المهلكة لأرواح الملايين من البشر ذروتها المقيتة والهدامة، فإنه "لا وجود للغرباء بالنسبة إلى الأديبة. بل لا وجود سوى لنسخ من أنفسنا لم نتبن كثير منها، ونتمنى حماية أنفسنا من معظم هذه النسخ" (ص:41)

سرد الآخر والغريب في وطنه

وفي المحاضرات الثلاث الباقية من الكتاب تفصل الكاتبة موريسون الكلام حول صورة الرجل (الإنسان) الأسود في مخيال الرجل الأبيض، والتي لا تزال ارتكاساتها السلبية تفعل فعلها في تعاطي المجتمع الأميركي مع الأفراد السود، على رغم التحول السياسي المفترض الحاصل بعد ثورة مارتن لوثر كينغ وعموم الإصلاحيين عام 1968. وكان دليلها على استمرار الانتهاكات بحق السود أحداث حصلت عام 1992 وقبل ذلك بكثير، اغتيل فيها رجال سود من دون سابق اتهام بأي جرم سوى أنه مختلف لوناً وطبيعة.

وتفصل الكاتبة موريسون الكلام على الغربة التي يشعر بها الرجل الأسود كلما يمم شطر أفريقيا خزانة الأحلام والخيبات والأساطير والفقر والنماذج البدئية التي ما وني الشعراء والروائيون يستثمرونها من غير نفاد، مع الإشارة إلى النظرة الاستعمارية التي أسقطها عديد من الكتاب على أفريقيا منبت الكاتبة الأول ومصدر عذابات كثيرين.

كتاب توني موريسون على قلته (91 صفحة) يدفع بالقارئ العربي إلى آفاق كثيرة حول عالم الرواية الموريسونية بخاصة، والأميركية بعامة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة