ملخص
النائب والوزير السابق باسم السبع يروي قصة العلاقة الشائكة بين رئيس الوزراء اللبناني السابق وأركان الحكم في دمشق.
صدر كتاب جديد للسياسي اللبناني باسم السبع يحمل عنوان "لبنان في ظلال جهنم- من اتفاق الطائف إلى اغتيال الحريري" يروي فيه فصولاً من العلاقة الشائكة بين رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وأركان الحكم في سوريا.
والسبع عمل لأعوام مستشاراً لرفيق الحريري حتى اغتياله في 2005، وفاز بعضوية مجلس النواب اللبناني من عام 1992 حتى عام 2009، وشغل كذلك منصب وزير الإعلام في حكومة رفيق الحريري بين عامي 1996 و1998، وهو ينتمي إلى "تيار المستقبل" ومن أقطاب تيار "14 آذار".
ووفق صحيفة "الشرق الأوسط" التي عرضت لكتاب السياسي اللبناني، فإن علاقة رفيق الحريري مع السلطة السورية دامت قرابة ربع قرن ونيف بدأت في مستهل الثمانينيات. وتقاطعت في التأسيس لتلك العلاقة، لنجاحاتها وإخفاقاتها أدوار ومصالح وحسابات سياسية وشخصية لمسؤولين في النظام السوري، حصلوا من الرئيس حافظ الأسد على إذن التدخل في المسألة اللبنانية والتعامل مع مكوناتها الطائفية والحزبية.
يرصد باسم السبع أن جانب العلاقة المباشرة مع الحريري تولاها كل من نائب الرئيس عبدالحليم خدام ورئيس أركان الجيش العماد حكمت الشهابي واللواء غازي كنعان واللواء رستم غزالة، وانضم إلى هذه القائمة بشار الأسد خلال الأعوام الأخيرة لوالده.
وتولى جانب الاهتمام بالمعارضة اللبنانية ورموز المواجهة مع الحريري، باسل الأسد قبل مقتله، ومن بعده بشار وماهر الأسد واللواء محمد ناصيف (أبو وائل) واللواء آصف شوكت واللواء علي المملوك.
وأضيفت إليهم لدواعٍ رسمية وطارئة شخصيات تولت رئاسة الحكومة السورية، ووزراء من وزن وزير الدفاع مصطفى طلاس، ووزير الخارجية وليد المعلم وسلفه الوزير فاروق الشرع، وكبار الضباط ممن تولوا قيادة القوات السورية في لبنان.
جسر الثقة وانهياره
نشأت العلاقة بين الحريري الأب والأسد الأب، وتطورت واختبرت تحت مظلة العلاقات السعودية - السورية، وحكمتها ظروف عززت الثقة والاحترام المتبادل بين الرجلين، إلى حدود سمح فيها لقيادي في حزب البعث من آل الأحمد بكتابة مقالة في جريدة "السفير"، يطالب فيها برئيس للحكومة السورية من طراز رفيق الحريري، في وقت كان اسمه يسطر في وسائل الإعلام وزيراً لخارجية البلدين، وأهم صناع اتفاق الطائف والوفاق الوطني في لبنان.
لم تنسحب علاقة الحريري مع حافظ الأسد على علاقته بأبنائه، أي بكل من باسل وبشار وماهر، بل هي على النقيض من ذلك، إذ شابتها رسائل مفخخة عدة وانعدام الثقة، وتعرضت لنكسات سياسية خلفت أضراراً جسيمة في العلاقات اللبنانية - السورية، وانتهت إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، وسقوط لبنان وسوريا معاً في مستنقع الأحقاد المتبادلة.
قبل بشار، عقد حافظ الأسد لواء الوراثة السياسية لابنه البكر باسل الذي قضى في حادثة سير على طريق مطار دمشق. وفق السبع الذي شارك مع الحريري في مأتم باسل الذي أقيم في بلدة القرداحة شمال سوريا، وشهد على الحشد الذي تجمع في باحة المسجد، يتقدمه الرئيس حافظ الأسد والرئيس حسني مبارك وخدام وكبار المسؤولين، "لاحظتُ الرئيس الحريري يبكي متأثراً، خلافاً لبقية كبار المشاركين".
ويذكر السبع، "سألتُ الحريري بعد المأتم عن سبب بكائه وهو لم يكُن على معرفة بباسل وليست بينهما علاقات ود تستوجب البكاء"، فأجاب أن "كل ما في الأمر أنني تذكرت ولدي حسام (ابنه الذي قضى في حادثة سير أواخر الثمانينيات في الولايات المتحدة). ليس هناك أصعب من هذه اللحظات على الأب. كان اللَه في عون الرئيس الأسد".
بين باسل وبشار
كان باسل بطل سوريا الدائم في الفروسية والأول في دورته للإنزال المظلي، والضابط الذي بهر أساتذته وحصل على دكتوراه في العلوم العسكرية بدرجة ممتاز من الأكاديمية العسكرية في الاتحاد السوفياتي عام 1991، قبل شهر واحد من بدء تفكك الدولة السوفياتية.
أما بشار، فدانت له في عمرٍ مبكر لم يتجاوز الـ23 سنة شهادة الطب من كلية الطب في الجامعة السورية، قبل أن يجري الحديث عن التحاقه للتخصص في طب العيون في بريطانيا، ويستدعى قبل نهاية تخصصه إلى دمشق عام 1994 لنيل رتبة وريث حافظ الأسد بعد مقتل شقيقه باسل، ويجرى تعديل دستوري يتيح لابن الـ33 تولي رئاسة الجمهورية.
سار بشار على خطى الوالد، وقفز من الطب إلى الجيش، ومنه إلى قيادة الحزب والرئاسة. الابن الثالث ماهر، درس إدارة الأعمال ومارسها على أعلى المستويات. لم يساعده طبعه الحاد في وراثة موقع شقيقه باسل، لكنه احتل في المعادلة العَلَوية موقع عمه رفعت، واحتل الموقع الثاني في النظام، منذ توليه قيادة الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، الدرع العسكري الذي يحيط دمشق ويقوم مقام سرايا الدفاع أيام رفعت، المكلف حماية الرئيس من السقوط.
قام الأبناء الثلاثة بأدوار متفاوتة في التأثير في الدور السياسي لرفيق الحريري، ويضاف إليهم من البيت العَلَوي العماد علي دوبا واللواء كنعان بحكم موقعه كرئيس لجهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية في لبنان، واللواء محمد ناصيف المعروف بوفائه لبيت الأسد، واللواء آصف شوكت، زوج ابنة الرئيس الذي قوي نفوذه بعد مصرع باسل وتولى مسؤوليات أمنية رفيعة مع بشار.
حاول رفيق الحريري التقرب من باسل الأسد بداية التسعينيات لدوره الأساس في الملف اللبناني وشبكة العلاقات التي أقامها مع كثير من الشخصيات اللبنانية المصنفة في خانة المعارضة، لكن الرئيس حافظ لم يسعفه في تحقيق هذه الرغبة، ووجد الوقت الملائم لتحقيقها أواخر التسعينيات من خلال فتح الباب للقاء مع بشار.
العلاقة مع بشار
اتسمت العلاقة مع بشار في تلك المرحلة بمنسوب عالٍ من النفور بعد اعتماد الرئيس إميل لحود رجل سوريا الأول في لبنان، وتسهيل عمل فريقه القضائي والأمني في تركيب الملفات الكيدية وملاحقة رجاله في الإدارة وشن حملات التشهير بسياساته بعد إبعاده من رئاسة الحكومة.
اعتبر الحريري أن الموقف يتطلب تحركاً لفك الحصار المفروض عليه من لحود وجماعته بالتعاون مع مسؤول الاستخبارات السورية في لبنان اللواء غازي كنعان ومعاونه رستم غزالة، واختار الذهاب إلى منبع المشكلة للبحث عن الوسائل الممكنة لتصحيح العلاقة.
تحرك نحو الشام في زيارة غير معلنة للقاء الرئيس السوري حافظ الأسد عام 1999، العام الأخير في ولاية استمرت زهاء 30 سنة انتهت بوفاته في يونيو (حزيران) 2000. قد يكون اللقاء الأخير بينهما، وفيه أدرك الحريري أن الأسد الأب أنهى تعبيد الطريق أمام ابنه بشار إلى قصر المهاجرين، وبات يعدّ الأيام التي يسلم فيها الروح ليسلم ابنه زمام القيادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نصح الأسد الحريري بالانفتاح على بشار والتحدث إليه مباشرة في الملف اللبناني والعلاقات الثنائية. "بشار على علاقة طيبة مع لحود وقادر على معالجة الأمور". ووافق الحريري من دون تردد وتعهد الأسد الكبير ترتيب لقاء مع الأسد الصغير. وفهم الزعيم اللبناني أن قدرة صديقه نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام على التأثير تراجعت وأن تجديد تأشيرة الدخول إلى قصر المهاجرين يستدعي تقديم الطلب لدى بشار.
يروي السبع، "استدعاني الحريري إلى قريطم (مقره في بيروت) صبيحة يوم في أواخر سبتمبر (أيلول) 1999، وأبلغني بوجوب الاستعداد للتوجه برفقته إلى دمشق في زيارة خاصة، تحرك الموكب من دون توقف إلى أن وصل إلى سوريا ومنها إلى جبل قاسيون. وفوق تلة معزولة عن بقية أحياء الجبل استقبل بشار الحريري عند مدخل مكتبه.
"حاولت استراق السمع لما يدور من أحاديث. لم أوفق، إلا بصدى قهقهة اختلطت بكلام لم يصل واضحاً إلينا، على رغم الإشارة التي أعطيتها لرفيقي بضرورة التزام الهدوء إلى حدود الصمت. فعسى أن نحصل على عبارة، تنعش أجواء الزيارة وتخفف التوتر الذي أطبق علينا كما لو أننا في زيارة معتقل.
"استمر الاجتماع زهاء ساعة ونصف الساعة. ودع بشار ضيفه بمثل ما استقبله، وأشار إلينا بتحية عن بعد أمتار قليلة، من دون مصافحة أو كلام، سوى الوداع التقليدي وعبارة وصل من خلالها إلى أسماعنا صوت بشار يقول، ’إلى اللقاء قريباً إن شاء اللَه دولة الرئيس‘.
"استقللت السيارة إلى جانب الرئيس في طريق العودة. قطعنا الحدود وصرنا في الجانب اللبناني من المصنع. فأعرب الحريري عن مخاوفه ليس على لبنان، بل على سوريا أيضاً في ظل حكم بشار".
الحريري مفتاح العلاقات الخارجية
الانطباع الذي خرج به الحريري من الاجتماع، لم يمنعه من متابعة التصدي للهجمة التي يتعرض لها. "فاتحني في اليوم التالي بأن هم بشار ينحصر حالياً في ’ترتيب البيت الداخلي للحزب والنظام والعائلة، لمواجهة أي طارئ يتعلق بصحة والده‘. يبدو أنه يرى في صداقتي مفتاحاً لعلاقات خارجية يحتاج إليها في المرحلة المقبلة. سألني عن علاقتي بالرئيس شيراك وولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز والإدارة الأميركية، طالباً التعاون مع لحود ومواكبة التغيير الذي ستشهده سوريا. الشاب يترقب رحيل والده من دون أن يفصح عن ذلك ويردد أن صحة الوالد تقلقه، والسكري مرض غدار يفرخ أمراضاً في القلب والشرايين".
"بدا الحريري مطمئناً لانشغال بشار بالشأن السوري الداخلي، ولم تفُته مواكبة هذا الانشغال بالتواصل مع خدام والعماد حكمت الشهابي واللواء كنعان، لتطويق أي مضاعفات تنشأ عن الانفتاح على بشار.
"ذهب أبعد من ذلك أيضاً، عندما سألني عن جدوى التواصل مع اللواء محمد ناصيف (أبو وائل)، رأس حربة باسل الأسد ومن بعده بشار في الملف اللبناني، وأحد أركان النظام المقربين من العائلة والمتابعين لملف العلاقات الشيعية والإيرانية، والمعروف بصلته الوثيقة بالعلامة السيد محمد حسين فضل اللَه.
شجعته على ذلك وأشرت إليه بوجود شخصية مقربة منه على صلة باللواء ناصيف هي المهندس الفضل شلق (تولى وزارة الاتصالات في مرحلة لاحقة)، ملاحظاً أن ناصيف لا يرتاح لشخصيات لبنانية من بينها هو والرئيس نبيه بري وميشال المر، وتربطه صداقة خاصة بالرئيس حسين الحسيني، ويراه الأجدر لتولي رئاسة مجلس النواب، كما يعبر عن مواقف شديدة السلبية تجاه سياسيين لبنانيين على صداقة مع خدام، ليس بينهم وليد جنبلاط.
"بعد أيام قليلة من اجتماع قاسيون، أبلغني الحريري بأن خدام ينتظرني في منزله في مدينة بانياس الساحلية و’يمكن أن تضعه في الأجواء المستجدة وتشرح خلفيات اللقاء مع بشار، والمهم أن تأتي لي برد فعله الذي لا يقوله على الهاتف‘. قصدت بانياس أسأل عن منزل عبدالحليم خدام، فأفادني صاحب دكان بعنوان دارة شقيقه في محيطها فيلا على الشاطئ خاصة بخدام.
اختليت مع نائب الرئيس السوري مدة ساعة، انتهت برسالة إلى الحريري تقول ’يبدو أن الشاب مستعجل على دفن والده. بكل الأحوال أبو بهاء (يقصد الحريري) يعمل جيداً، وعليه أن يكمل بهذا الخط. الهجمة عليه كبيرة جداً في بيروت وفي دمشق، ويستحسن تخفيف الخصوم والضغط ليتمكن من حشر لحود. لكنني بصراحة غير متفائل، وهناك من يحفر له في سوريا وفي لبنان. بكل الأحوال أخبره أنا معه لآخر نَفَس‘".
ويتابع السبع "في هذا الوقت تحرك الحريري في اتجاه اللواء محمد ناصيف الذي يقيم في نطاق سكني حديث في منطقة الصبورة لجهة المدخل الغربي لمدينة دمشق. استقبلنا ناصيف بحفاوة مميزة عند مدخل الفيلا التي قال إن المرحوم باسل بناها له، وهي متواضعة نسبياً وليس فيها ما يشير إلى ثراء غير طبيعي، ومن ضمنها حديقة زرعت بأشجار مثمرة وغير مثمرة.
"كنت على معرفة بأبو وائل، والتقيته غير مرة في مكتبه برفقة الزميل وليد الحسيني صاحب مجلة ’الكفاح العربي‘، وكان من القيادات التي تحتفظ بخط عسكري مباشر مع بشار، يتلقى عبره التوجيهات ويسأل عن أمور تتعلق تحديداً بالوضع اللبناني وخريطة التحالفات الانتخابية، على ما شهدت في إحدى المكالمات.
"عبّر اللواء ناصيف عن حفاوته بضيفه بالقول’أنتظر هذا اللقاء منذ سنوات. أنت يا دولة الرئيس، عزيز على سوريا وعلي شخصياً. فرحتي كبيرة بتشريفك البيت. هذا بيتك كما هي بيوت كل السوريين. الحق على الأخ أبو يعرب (يقصد اللواء غازي كنعان) الذي أراد احتكار صداقتك. نحن أيضاً أصدقاء وأخوة لك. اليوم خاص لا شريك لي بدولة الرئيس. نتناول الغداء ونرتاح بالجنينة ونأخذ راحتنا من دون تكليف‘.
"الأحاديث الشخصية والمأدبة التي فرشت بكل ما طاب من مناسف ومأكولات شامية، والإلحاح المتواصل من المستضيف على تناول معظم الأصناف، تقدمت على أحاديث السياسة التي بدت تفصيلية أمام مظاهر الترحيب".
كسر الجليد
ويروي السبع أن "أهم صنف على المأدبة كان كسر الجليد مع رجل صنف لأعوام في خانة الخصوم وفبركة أخصام للحريري في لبنان. تركنا الصبورة مشيعين بمثل ما استقبلنا بعد وجبة وداعية من الرمان ساعدت على هضم سائر الوجبات، وعطلت ألغام أبي وائل ولو إلى حين.
"أدرك الأسد الأب أن ولده لن يقلع بأمان في غياب احتضان عربي ودولي لوجوده على رأس الحكم. ولعله رأى من خلال حاسته السياسية المتوقدة، أن الحريري يمكن أن يكون لاعباً أساسياً في الاحتضان وأن جنازته لا بد من أن تكون مناسبة لانطلاق سفينة بشار في الحكم، وعلى متنها الرئيس الفرنسي جاك شيراك وولي العهد السعودي الأمير عبدالله والرئيس المصري حسني مبارك والإدارة الأميركية ممثلة بوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، ومن هو أفضل من رفيق الحريري لتحقيق هذا الهدف؟".
زحف لبنان إلى جنازة حافظ الأسد في ما يشبه تقاطر الشخصيات العربية والدولية والقيادات اللبنانية وجماهيرها، إلى احتفال بتنصيب بشار الأسد رئيساً. انتظر بشار هذه اللحظة أشهراً طويلة واجتماعه مع الحريري في جبل قاسيون يأتي في إطار تلك اللحظة.