ملخص
يصل عدد المواقع المدرجة على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر إلى نحو 23 موقعاً في سبع دول من نحو 50 موقعاً مهدداً أعلنتها "اليونيسكو" في العالم كله، والعدد مرشح للازدياد بفعل اشتعال المنطقة.
يزخر العالم العربي بتراث ثقافي شديد الثراء تمتد شواهده في جميع البلاد العربية كدليل على حضارات عظيمة عمرها آلاف السنين. وفي إطار أحداث ساخنة تشهدها المنطقة خلال الفترة الأخيرة عانى التراث أيضاً من الحروب والنزاعات المسلحة مثله مثل البشر، فكثير من المواقع الأثرية تضررت أو تصدعت أو حتى محيت بالكامل وعدد من القطع الأثرية فقدت أو سرقت في ظل أجواء الفوضى الناتجة من الحروب، مما يعطي إشارة إلى أهمية العمل على حفظ وصون التراث باعتباره جزءاً من التاريخ والهوية.
ولأهمية وقيمة كثير من المواقع الأثرية في العالم العربي أدرجت على قائمة "اليونيسكو" للتراث العالمي كاعتراف بقيمتها وبأنها جزء من التراث الإنساني للبشرية. وبالفعل هناك 83 موقعاً مسجلاً على قوائم التراث العالمي تنتشر في جميع البلاد العربية بخلاف عناصر التراث اللا مادي، التي سجل كثير منها أيضاً باعتبارها لا تقل في الأهمية عن المواقع الأثرية.
مواقع أثرية في خطر
بفعل الحروب والنزاعات المسلحة وأسباب أخرى متعددة تتعرض المواقع الأثرية للخطر وفي حال كان الموقع مسجلاً على قوائم "اليونيسكو" للتراث العالمي، فقد يتم إدراجه كتراث عالمي مهدد بالخطر لإلقاء الضوء عليه والعمل على توفير الحماية والدعم بجميع صوره. وكنتيجة لاشتعال المنطقة خلال الأعوام الأخيرة واندلاع حروب ونزاعات في دول متعددة جرى إدراج كثير من المواقع الأثرية العربية على قائمة التراث المهدد بالخطر.
ويصل عدد المواقع المدرجة على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر إلى 23 موقعاً في سبع دول من أصل 50 موقعاً مهددة أعلنتها "اليونيسكو" في العالم كله. وتقع هذه المواقع العربية في كل من (سوريا واليمن والعراق وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين). وأدرجت هذه المواقع لأسباب متعددة معظمها يتعلق بوجود حروب أو نزاعات مسلحة في هذه الدول وبعضها لأسباب أخرى، مثل دير أبو مينا في مصر الذي أدرج بسبب تعرضه لأخطار ناجمة عن المياه الجوفية وعملت القاهرة على تداركها وكانت في طريقها لتقديم طلب لرفعه من على القائمة، ومعرض رشيد كرامي في لبنان الذي وضع على القائمة لحاجته الماسة للصيانة والترميم.
وعن تأثير إدراج موقع على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر يقول رئيس اتحاد الأثريين العرب محمد الكحلاوي "هذه الخطوة تمثل سلاحاً ذا حدين، فهو بالفعل يشكل حماية له ولكنه في الوقت ذاته يمثل صورة من صور التدخل الأجنبي في شؤون الدولة الموجود بها الأثر من طريق تدخل الأمم المتحدة وتحديداً منظمة اليونيسكو المعنية بالآثار والتراث والثقافة. وبعض الدول بالفعل قد ترفض هذا التدخل في ظروف معينة مما يهدد بوقوع ضرر أكبر على الموقع الأثري".
ويرى الكحلاوي أنه "بالنسبة إلى البلدان التي تشهد حروباً أو نزاعات مسلحة قد تطلب هي بذاتها من ’اليونيسكو‘ إدراج مواقع أثرية معينة على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر حماية لها من أجواء الحرب، وحدث هذا في حالات كثيرة ببلدان مختلفة داخل العالم العربي وغيره". وأضاف "خلال العقد الأخير شهد كثير من الدول العربية حروباً ونزاعات مثل سوريا والعراق والسودان واليمن وفلسطين وليبيا نتج منها فقدان كثير من المواقع والقطع الأثرية ذات الأهمية الكبرى، ومن ثم إدراج كثير من المواقع على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر".
ويستكمل "يجب علينا إدراك أن الحروب في العالم العربي تستهدف التراث والثقافة وتسعى إلى تدميرها والقضاء عليها، والمثال الواضح هو ما يحدث حالياً في فلسطين من تدمير متعمد للتراث والثقافة ومحاولات مستميتة للقضاء عليها من المحتل، ومن هذا المنطلق يجب على المؤسسات العربية المعنية بالتراث والثقافة إضافة إلى جامعة الدول العربية العمل على اتخاذ موقف، يعمل على توفير الحماية للمواقع الأثرية في الأماكن المعرضة للخطر بفعل الحروب والنزاعات".
إبادة للتراث الفلسطيني
أخيراً أدرجت "اليونيسكو" دير القديس هيلاريون على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر كنتيجة للحرب المشتعلة في غزة حالياً، والتي نتج منها تدمير واستهداف كثير من المواقع الأثرية في القطاع بصورة متعمدة سواء كانت مدرجة على قوائم "اليونيسكو" للتراث العالمي أم لا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال ديسمبر (كانون الأول) 2023 قال المندوب الدائم لفلسطين لدى منظمة اليونيسكو منير أنسطاس في تصريحات إعلامية، إن إسرائيل تتعمد استهداف المواقع الأثرية منذ بداية الحرب. وأشار إلى أن المديرة العامة لـ"اليونيسكو" أودري أزولاي أبلغت إسرائيل بإحداثيات مواقع التراث العالمي الموجودة في غزة بعد اندلاع الحرب، كي لا تستهدفها ولكنها قصفتها بصورة متعمدة.
وكان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أوضح أن إسرائيل استهدفت 200 موقع أثري وتراثي من أصل 325 موقعاً في القطاع، من بينها كنيسة جباليا البيزنطية ومركز المخطوطات والوثائق القديمة في مدينة غزة وقصر الباشا وكنيسة القديس برفيريوس، وغيرها كثير من المواقع التراثية والأثرية.
أزمة المؤسسات المحلية
يقول الأستاذ في جامعة بيت لحم والمدير السابق للمتحف الفلسطيني محمود هواري إن "المنطقة العربية تزخر بالمواقع الأثرية، فلديها عشرات الموقع المسجلة على قوائم التراث العالمي لـ’اليونيسكو‘. حالياً جزء كبير منها مهدد بفعل الحروب والنزاعات المسلحة ولأسباب أخرى متنوعة، فالحرب ليست الخطر الوحيد وإنما هناك أسباب أخرى مثل التمدد العمراني وتغيير طابع المنطقة وهو ما حدث مع موقع قرطاج في تونس على سبيل المثال، ووصل الأمر إلى تهديد ’اليونيسكو‘ برفعه من على القائمة العالمية. وهناك مواقع أخرى في العالم العربي تعاني عدم إدراك المؤسسات المحلية لقيمتها وسيطرة أصحاب المصالح والأعمال مما يهدد الأثر، فللأسف لا يوجد وعي كاف لدى المؤسسات والأفراد بقيمة وأهمية هذه المواقع".
ويؤكد هواري أنه "بالنسبة إلى فلسطين فوضعها استثنائي لأن ما يحدث فيها غير مسبوق، فهي على رغم أنها دولة معترف بها في ’اليونيسكو‘ لكنها تظل محتلة لا تملك السيادة على أراضيها، والأخطار التي تعانيها كبيرة جداً، فإسرائيل تشن حرب إبادة ليس فقط على البشر وإنما على الحجر والتراث والتاريخ. ويكفي أن نذكر أن هناك مواقع أثرية دمرت من بينها مواقع نجحت فلسطين في إدراجها على اللائحة التمهيدية خلال عام 2009، ومن بينها ميناء غزة القديم الذي يعود إلى العصر الروماني وكان بوابة فلسطين الرئيسة على البحر لمئات الأعوام وحالياً دمر بالكامل. والشيء نفسه ينطبق على مدينة غزة القديمة بمبانيها الأثرية مثل الجامع العمري الذي يعود لأكثر من ألف عام، فما يحدث حالياً كارثة إنسانية وتراثية على السواء".
ويستكمل "إدراج موقع على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر بالطبع يضع عين العالم على هذا الموقع ويشير إلى أهميته وقيمته، ولكن طالما لا يصاحب القرارات عقوبات على إسرائيل فستظل حبراً على ورق". وتساءل "هل تمتثل إسرائيل لأي قرار دولي؟ كعادتها تضرب بجميع القرارات الدولية على جميع الصعد عرض الحائط. وحتى خارج غزة هناك مواقع عدة تتعرض لأخطار كبيرة من بينها مدينة القدس المسجلة بالفعل على قوائم التراث العالمي، والتي تتبنى إسرائيل خطوات ممنهجة لتهويدها ومحو كل ما يتعلق بالتراثين المسيحي والإسلامي. وسابقاً وضعت مدينة الخليل والحرم الإبراهيمي على لائحة التراث المهدد بالخطر خلال عام 2017 وإسرائيل لا تزال ماضية في مساعيها ولم يتغير شيء".
اليمن يدفع ثمن ويلات الحرب
يتميز اليمن بمواقع أثرية متعددة تمثل تاريخه الطويل وبعض منها بالفعل مسجل على قوائم التراث العالمي، مثل مدن صنعاء القديمة وزبيد التاريخية وشيبام حضرموت ثم آثار مملكة سبأ في مأرب، لكن ما شهده البلد العربي من أزمات متعددة خلال الأعوام الأخيرة تسبب في تضرر عدد من المواقع الأثرية، لأسباب ترتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالحرب.
وهنا يقول الباحث في التراث اليمني رفيق العكوري "في حالات الصراعات المسلحة والحروب غالباً ما يتأثر التراث الثقافي بشقيه المادي وغير المادي، إذ تسيطر علاقات الهيمنة والعنف لدى الأطراف المتنازعة على الممتلكات الثقافية فتجري إصابتها بصورة متعمدة أو غير متعمدة بهدف طمس وهدم وتجريف التراث الثقافي. وانتبهت المنظمات الدولية لهذا الجانب فتم إصدار مجموعة من التشريعات الدولية لحماية المواقع الأثرية من تداعيات الحروب، ولكنها لم تكن ملزمة بصورة كبيرة للدول الموقعة عليها، بل إن هناك بعض الجماعات المسلحة أو الدول تستخدم هذا الأمر لصالحها فتستغل هذه المواقع وتختبئ داخلها باعتبار أن الطرف الآخر لن يجرؤ على الهجوم عليها حتى لا يتعرض للمساءلة الدولية".
ويروي "بعض المواقع المسجلة كتراث عالمي تأثرت بصورة مباشرة بالحرب مثل ما حدث في صنعاء القديمة التي تضررت مبانيها من جراء القصف الجوي، فهي مبان قديمة تعود لمئات السنين وأساساتها ليست قوية، وهناك منازل تهدمت بالفعل مثل بستان القاسمي. أما التأثير غير المباشر فيتمثل في التغير المناخي مثل السيول والأمطار مثل ما حدث في مدينة زبيد ومدينة تريم حضرموت وبعض القصور التراثية التي لم تجد الدولة موازنات أو موارد للحفاظ عليها في ظل ظروف الحرب".
ويمضي في حديثه "هناك إشكالية في مؤسسات الدولة لأنها تعاني بسبب ظروف الحرب، فنتج من ذلك تجريف للكوادر المؤهلة التي يمكن أن تتولى حماية التراث، فالبعض فقد وظيفته والبعض هاجر من البلاد حتى باتت تعاني عجزاً في الكوادر الوطنية المعنية بحفظ وصون التراث. وبالنسبة إلى المنظمات الدولية فأحياناً تلجأ إلى التعامل مع مؤسسات للمجتمع المدني وتمولها للقيام بصون وترميم بعض المواقع الأثرية بعيداً من الدولة، وهذا يمثل أزمة لأن هذه المؤسسات لا نعرف كفاءتها ولا نعرف مدى التزامها بالمعايير. وهذه الأمور يجب أن تتم بالتعاون مع المؤسسات الرسمية للدولة وتحت إشرافها ولكن في ظل غيابها وضعف المؤسسات الحكومية فتتعامل المنظمات الدولية مباشرة مع مؤسسات المجتمع المدني"
للتراث غير المادي معاناة من نفس الأخطار
لا تقتصر الخطورة في حال الحروب والنزاعات المسلحة على المواقع الأثرية والتراث المادي الملموس، ولكنها تمتد وبالقدر نفسه للتراث غير المادي الذي يمثل الهوية الثقافية للشعوب، فالهجرات إلى بلدان أخرى فراراً من الحرب والنزوح إلى مناطق قد تكون ذات ظروف سيئة يكون سبباً رئيساً في اختفاء عادات وتقاليد وطقوس خاصة بشعب معين، إما بالذوبان في عادات البلد الجديد الذي انتقلوا إليه وإما بفعل عدم وجود ظروف مناسبة أو إمكانات مادية للحفاظ على هذا التراث.
وبعض هذه العادات والطقوس تكون مسجلة على قوائم التراث العالمي غير المادي لـ"اليونيسكو" والأمثلة على ذلك كثيرة في العالم العربي، إذ سجلت مصر عدة ممارسات من بينها التحطيب والنسيج اليدوي في الصعيد والأراجوز، بينما سجل العراق بناء بيت المستضيف، أما السعودية فسجلت حياكة السدو وحداء الإبل، وكذلك المغرب الذي سجل القفطان، وفي فلسطين رقصة الدبكة، إضافة لكثير من العادات والطقوس التراثية في جميع البلدان العربية.
يقول متخصص توثيق التراث الثقافي غير المادي والمفسر المحلي لاتفاق صون التراث الثقافي غير المادي عضو اللجنة الاستشارية للجمعيات الأهلية بـ"اليونيسكو" عادل موسي، إن "التراث الثقافي غير المادي أو ما يطلق عليه حالياً التراث الحي بحسب المصطلح الجديد الذي أطلقته عليه المنظمة الأممية يتعرض لأخطار كبيرة في الدول التي تمر بكوارث مثل الحروب بسبب التهجير والنزوح، فهذا يؤثر بصورة مباشرة على استمرارية وصون التراث فتفقد المجتمعات الممارسة التي تراعي التراث مثل الحرفيين والممارسين بالتهجير وفقدان الأماكن والخامات إن لم يفقدوا هم أنفسهم بفعل الحرب، وهذا يهدد بانقطاع نقل المعرفة والتراث من جيل إلى آخر. وأيضاً تضيع الطقوس والتقاليد لأن الأولوية تكون للبقاء على قيد الحياة فيتخلى عنها الناس لعدم الإمكانية، ومع الوقت يتم فقدها فهي تحتاج إلى مناخ آمن، فالحضارة تنشأ في حال السلم والأمان".
ويطالب بالحفاظ على التراث بوسائل متعددة من بينها التوثيق بالصور والفيديو والكتابة، فإذا تعرض التراث للضياع تكون هناك مادة علمية مثبتة تحفظه من الاندثار، وتشجيع الكبار على تعليم الأجيال الجديدة ونقل المعرفة، ونشر الوعي بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي باعتباره جزءاً من هويتهم وذاكرتهم الجمعية".
ويقول "المؤسسات المحلية والدولية أيضاً مطالبة بتقديم دعم مادي كتمويل مشروعات وتوفير خامات ووجود حرفة أو عادة مسجلة على قوائم "اليونيسكو" للتراث غير المادي يعطيها دعماً وحماية، وبخاصة في ظل الكوارث والحروب لأنها يعترف بها دولياً كجزء من التراث الإنساني فيلفت الأنظار إليها وتوفر الحماية القانونية التي تجعل الحكومات المحلية تصدر قوانين أو إجراءات لحمايتها أوقات الأزمات، وتوفر دعماً مادياً أو تدريباً للأفراد وأحياناً توضع عناصر على قائمة الصون العاجل في حال تعرضها لخطر الاندثار".
ويختم حديثه بقوله "التسجيل في ’اليونيسكو‘ ليس صك ملكية، فالعنصر ذاته يمكن أن يكون موجوداً في بلدان أخرى ولكن يسجل بطابعه في هذه الدولة، وأحياناً تقدم ملفات مشتركة بين دول عدة مثل ملف النخلة والخط العربي ويعطي هذا قيمة وقوة أكبر. التراث الثقافي عامة يتعرض للاستغلال بصورة غير مشروعة بسرقة العناصر الثقافية أو تزييفها لأغراض سياسية، ويحدث هذا بصورة فجة في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي استولى فيها المحتل على كثير من العناصر الثقافية ونسبها لنفسه. وبالمناسبة إسرائيل حالياً ليست عضواً في ’اليونيسكو‘ بينما فلسطين من أعضائها والمنظمة الأممية لديها برامج للتدخل السريع في حال الحرب، تشمل إرسال فرق من الخبراء لتقييم الوضع وتقديم المساعدة التقنية والفنية لحماية التراث المهدد والقيام بحملات دولية للضغط وحشد الدعم من الدول الأخرى".