ملخص
وثائق بريطانية رفعت عنها السرية نهاية الشهر الماضي تستعرض الصراع الدموي بين الفصائل الكردية في كردستان العراق الذي بدأ عام 1994 وكيف تعامل الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني مع مخاوف الاغتيال وقصة زيارة الوفد الألماني بالتزامن مع بدء القتال.
رفعت وزارة الخارجية البريطانية نهاية الشهر الماضي الطابع السري عن مراسلاتها المتعلقة بالصراع المسلح الذي دار بين الفصائل الكردية في كردستان العراق خلال شهر مايو (أيار) 1994. وعرف هذا الصراع في الأوساط الكردية باشتباكات مايو أو "صراع الأخوة". وشكلت هذه الاشتباكات المسلحة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني بداية حرب أهلية في كردستان العراق دارت رحاها بين عامي 1994 و1997.
وبدأ التنافس بين الحزبين الكرديين مع ولادة الاتحاد الوطني الكردستاني ذي الميول اليسارية مطلع الستينيات من القرن الماضي، إذ ولد الاتحاد الوطني من رحم الحزب الديمقراطي الكردستاني في عهد الزعيم الكردي ملا مصطفى بارزاني.
ومع مرور الوقت تعمقت وزادت وتيرة الخلافات بين الحزبين، وحين فرضت قوات التحالف الدولية منطقة حظر طيران في شمال العراق خلال فبراير (شباط) عام 1991، تمركز أتباع طالباني في المنطقة الجنوبية من كردستان وأطراف مدينة السليمانية، وسيطر البارزانيون على المنطقة الشمالية على طول الحدود التركية مع العراق متخذين مدينة أربيل عاصمة لإقليم كردستان العراق.
ويطلق الكرد تسمية هولير على مدينة أربيل لكن وفق المصادر التاريخية يعود أصل تسمية أربيل إلى العهد الآشوري إذ عرفت المدينة بـ"أربع إيلو" أي أربعة آلهة، كما وجدت التسمية في المدونات الآشورية. وتاريخياً استوطن الأكراد المناطق الجبلية المرتفعة في جنوب شرقي تركيا وشمال شرقي سوريا وشمال العراق وشمال غربي إيران وجنوب غربي أرمينيا.
صراع مصيري
تستعرض البرقية المرسلة من الدبلوماسي في السفارة البريطانية لدى أنقرة فرانك بيكر إلى مرجعيته في لندن بتاريخ الـ20 من مايو 1994 تفاصيل النزاع المسلح الذي اندلع بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. وجاء في هذه البرقية ما نصه:
"بعد أيام من المناوشات التي أدت إلى مقتل أحد كبار قادة الاتحاد الوطني الكردستاني اندلعت المواجهات المسلحة في شقلاوة. وعلى رغم نداءات البارزاني المتكررة من أجل السلام لا يزال الوضع متوتراً. وبدأ المواطنون الألمان الذين أمرتهم حكومتهم الأسبوع الماضي بمغادرة المنطقة في العودة. ولم يتأثر عمال الإغاثة الدوليون إلى حد كبير بالقتال واستمرارية عمليات الإغاثة.
وبعد مزيد من المناقشات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والمكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني والمؤتمر الوطني العراقي خلال الـ11 من مايو، أمر رئيس الوزراء (كوسرت رسول علي) جميع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني في شمال العراق باستكمال الانسحاب الكامل إلى المواقع الأصلية، المتفق عليها في وقف إطلاق النار الذي توسط فيه المؤتمر الوطني العراقي خلال الثامن من مايو. وقد تم الامتثال لهذه التعليمات في محافظتي أربيل (بما في ذلك شقلاوة) ودهوك، ولكن في السليمانية رفض قادة البيشمركة المتشددون بقيادة وزير شؤون البيشمركة في الاتحاد الوطني الكردستاني جبار فرمان إخلاء مكاتب الحزب الديمقراطي الكردستاني، وبدأوا في إقالة موظفي الخدمة المدنية المتعاونين مع الحزب الديمقراطي الكردستاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم هذا الخرق لاتفاق وقف إطلاق النار ظلت المنطقة هادئة بصورة عامة خلال الأيام القليلة التالية. ووقع بعض القتال بين قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة فرمان وميليشيات الحركة الإسلامية الكردستانية المدعومة من إيران في حلبجة وبلدات شرقية أخرى قريبة من الحدود الإيرانية. وأبلغ عن مناوشات أخرى في محافظتي السليمانية وأربيل ولكن يبدو أنها كانت لتسوية خلافات شخصية بين أعضاء الحزب العاديين. وبقيت محافظة دهوك التي تقع تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني هادئة.
وخلال الـ17 من مايو اندلعت اشتباكات حول منطقة كوهسنك (شمال غربي السليمانية) قتل خلالها ستة من عناصر البيشمركة من كل جانب، وقبل بضعة أيام ذهب قائد الاتحاد الوطني الكردستاني في المنطقة حسن كوسنتاني (عضو بارز في الاتحاد الوطني الكردستاني) للتحقيق في الاشتباك والقبض على عدد من اللاجئين الأكراد العراقيين العائدين من إيران، وقتل في قتال لاحق. وعلى رغم أن التفاصيل الدقيقة غامضة فإنه يبدو على الأرجح أنه قتل خلال اشتباك مع قوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني. ورداً على ذلك هاجمت قوات الاتحاد الوطني الكردستاني خلال الـ19 من مايو مواقع الحزب الديمقراطي الكردستاني في شقلاوة وأطرافها، وبعد يوم من المناوشات الخفيفة دخلت قوات البارزاني المدينة في وقت متأخر من المساء، وتراجعت قوات الاتحاد الوطني الكردستاني في الاتجاه العام إلى السليمانية، ونتيجة لهذه الحادثة التقى مسعود بارزاني وكوسرت وأحمد الجلبي في محافظة صلاح الدين في وقت متأخر من يوم الـ19 من مايو. وعقب الاجتماع أصدر كوسرت أمراً آخر لقوات الاتحاد الوطني الكردستاني باحترام وقف إطلاق النار. وفي بيان منفصل دعا بارزاني جميع الأكراد إلى وقف القتال الذي "وضع مصير شعبنا وإنجازاته التي حققها بشق الأنفس... في خطر شديد".
بدء القتال تزامناً مع زيارة الوفد الألماني
"أمرت الحكومة الألمانية الأسبوع الماضي جميع مواطنيها بمغادرة شمال العراق، ويبدو أن هذا القرار كان رد فعل على تقرير وفد وزارة الخارجية الألمانية الذي صادفت زيارته المنطقة بداية القتال. ولم يغادر أي من عمال الإغاثة الآخرين وبدأ بعض المواطنين الألمان العودة. وكان كلا طرفي الصراع حريصاً على عدم تهديد عمال الإغاثة الدوليين الذين تمكنوا في بعض الحالات من التوسط لوقف إطلاق النار بين الفصائل. ولم ترد تقارير عن وقوع أية إصابات في أوساط المنظمات غير الحكومية. وتستمر عمليات الأمم المتحدة وعمليات الإغاثة قدر الإمكان كالمعتاد.
ويتفق عمال الإغاثة الدوليون الذين تحدثت إليهم خلال الأسبوع الماضي على أن الاتحاد الوطني الكردستاني هو المسؤول عن بداية القتال وهو المسؤول عن استمراره. ومع ذلك، حتى الحزب الديمقراطي الكردستاني يعترف علناً بالدور البناء الذي لعبه كوسرت في محاولة نزع فتيل التوتر والتوصل إلى تسوية. المشكلة الحقيقية في موقف القيادات مثل فرمان، إذ من المشكوك فيه أن طالباني حتى يمكنه السيطرة عليه بالكامل.
ما زلت أعتقد أن القتال لن ينتهي تماماً إلا بعد عودة طالباني وتوقيعه اتفاق سلام نهائياً. ولكن ما دامت القيادة السياسية لدى الحزبين عازمة على الاستمرار في الضغط من أجل السلام فمن غير المرجح أن يتوسع القتال إلى ما هو أبعد من المدن القريبة من الحدود الإيرانية، إذ ستواصل الحركة الإسلامية الكردستانية محاولة الانتقام من الاتحاد الوطني الكردستاني بسبب هزيمتها في وقت سابق من هذا العام. وكما أبلغت الوزارة بصورة منفصلة يبدو أن الخطر الحقيقي الآن يتمثل في احتمال دخول حزب العمال الكردستاني (PKK) في الصراع والتصعيد الذي قد ينجم عن ذلك".
مخاوف طالباني من الاغتيال
وحول الصراع الدامي الذي دار بين الفصائل الكردية خلال مايو 1994 شمال العراق، تشير برقية السفارة البريطانية لدى أنقرة بتاريخ الـ12 من مايو (أيار) 1994 إلى مرجعيتها في لندن، إلى أن جلال طالباني كان في دمشق حين خرق أتباعه اتفاق وقف إطلاق النار مما دفع طالباني لطلب دعم الولايات المتحدة لنقله جواً، ليتجنب المرور عبر الأراضي التي تسيطر عليها قوات مسعود بارزاني. وجاء في التقرير ما نصه:
"يستمر القتال بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني ويمتد إلى ما هو أبعد من محافظة السليمانية. وبعد انهيار عدة اتفاقات لوقف إطلاق النار بسبب انتهاكات الاتحاد الوطني الكردستاني على ما يبدو، يبرز أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسط فيه المؤتمر الوطني العراقي لا يزال صامداً. ولكن الوضع لا يزال متوتراً ولن يحل كاملاً حتى يعود طالباني. إن القتال بدأ من قبل بعض قوات الاتحاد الوطني الكردستاني. ورفض طالباني الموجود حالياً في دمشق العودة إلى شمال العراق ما لم تنقله الولايات المتحدة جواً إلى أربيل، بحجة أنه لا يرغب في المرور عبر أراضي الحزب الديمقراطي الكردستاني على رغم الوعود بالمرور الآمن.
لا توجد تقارير عن تورط أي من العاملين في المنظمات غير الحكومية الدولية في القتال. وقد عادت عمليات الأمم المتحدة التي تراجعت بقوة خلال أسوأ المعارك الأسبوع الماضي إلى طبيعتها. ويبدو أن الحزب الديمقراطي الكردستاني التزم إلى حد كبير بشروط وقف إطلاق النار، ونجح بارزاني في كبح جماح قواته عن الرد على الاستفزاز الصارخ من جانب حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. ويعد كوسرت العضو الوحيد البارز في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي خرج من الأحداث الأخيرة متمتعاً بقدر من الصدقية، ولكن يزعم بأنه هو من أمر عناصر الاتحاد الوطني الكردستاني بالهجوم على مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في السليمانية.
ولقد لعب أحمد الجلبي والمؤتمر الوطني العراقي دوراً قيماً في تهدئة التوتر، ولكن من غير المرجح أن يتم حل الصراع قبل عودة طالباني إلى شمال العراق. وحتى في هذه الحال هناك مخاوف لدى المؤتمر الوطني العراقي من أن طالباني قد لا يتمتع بالسيطرة الكاملة على حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. وفي وقت سابق من هذا العام تجاهل طالباني النصيحة بإقالة جبار فرمان بعد القتال بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحركة الإسلامية الكردستانية، ويرجع هذا جزئياً إلى أن طالباني كما اعترف لي خلال فبراير يخشى من رد الفعل السلبي الذي قد يترتب على مثل هذه الخطوة من داخل الحزب. ولكن من المرجح أن يثبت استحالة التقارب الجاد مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ما لم تتم إزاحة فرمان وغيره من المتطرفين من مناصب السلطة".
معارك متكررة
وكان قسم الأبحاث والتحليل في دائرة الشرق الأوسط بوزارة الخارجية البريطانية أعد تقريراً سرياً مفصلاً حول الأوضاع في شمال العراق خلال تلك الحقبة، يستعرض الأحداث والصدامات في شمال العراق ويشير إلى أسبابها ويحمل تاريخ الخامس من يناير (كانون الثاني) 1994:
"اندلعت معارك متكررة بين الفصائل الكردية في شمال العراق وكان أحدثها وأكثرها خطورة بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني والحركة الإسلامية في كردستان. ومع ذلك، فقد شهد الشهر الماضي أيضاً اشتباكات أو توترات خطرة بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والحزب الاشتراكي الكردستاني بزعامة محمد باروني. وتأتي الأحداث بصورة منفصلة تماماً عن مشاركة أكراد العراق في العمليات ضد حزب العمال الكردستاني (PKK) والتي يبدو أن الاتحاد الوطني الكردستاني لعب فيها دوراً متناقضاً. من الصعب الوصول إلى الحقيقة في ظل مزاعم متناقضة بشدة.
ومنذ منتصف ديسمبر (كانون الأول)، وردت تقارير متكررة عن وقوع اشتباكات مسلحة بين الفصائل الكردية في شمال العراق. واندلع القتال في السليمانية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب كردستان الاشتراكي خلال منتصف ديسمبر. وبعد ذلك اتفق الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني على تشكيل قيادة مشتركة بمشاركة البرلمان الإقليمي والحكومة خلال الـ18 من ديسمبر (كانون الأول). وبعد بضعة أيام خلال الـ24 من ديسمبر وقع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني اتفاقاً تضمن إنشاء مجلس رئاسي من ستة أعضاء، وكان من المقرر أن يكون طالباني وبارزاني من الأعضاء الرئيسين فيه. وخلال الفترة بين هذه التطورات نقلت وكالة الأنباء الفرنسية تقارير عن قتال بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وما سمته الرابطة الإسلامية لكردستان.
واندلع القتال بين الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة تحرير كردستان خلال الـ23 من ديسمبر تقريباً. وربما كانت حركة تحرير كردستان بدأت القتال في البداية، فقد زعم الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يحظى بثقة حركة تحرير كردستان وشارك مرات عدة في الوساطة بين الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة تحرير كردستان، أن هذه هي الحال. ولكن الاتحاد الوطني الكردستاني انتهك بعد ذلك شروط الاتفاق الذي تفاوض عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني واستمر القتال".