ملخص
تلجأ روسيا بشكل متزايد إلى عمليات تخريب واغتيالات في أوروبا والغرب، والتي تنظمها أجهزة الاستخبارات الروسية. وتستهدف هذه الهجمات السرية، التي تذكر بتكتيكات الحقبة السوفياتية، البنية التحتية الصناعية والدفاعية، بهدف إضعاف الدعم الغربي لأوكرانيا. وعلى رغم المخاوف المتزايدة، لا تزال الدول الغربية بطيئة في تطوير استراتيجية موحدة لمواجهة هذا التهديد الروسي
في 26 يوليو (تموز) الماضي، أي في يوم افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس، نفذ مهاجمون مجهولون عملية تخريب منسقة ضد خطوط السكك الحديدية الوطنية الفرنسية، مما أدى إلى تقطع السبل بملايين الركاب. لم يعلن أحد في البداية مسؤوليته عن الهجوم، والذي لا يزال قيد التحقيق. ولم يستبعد وزير الداخلية الفرنسي أن المتطرفين "من اليسار المتطرف" كانوا مسؤولين. ومع ذلك، تساءل خبراء الاستخبارات أيضاً عما إذا كانت روسيا قد تكون متورطة. قال جافيد علي، خبير مكافحة الإرهاب وهو عضو سابق في مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي، لبرنامج "بي بي أس نيوز أور" PBS NewsHour بعد الهجوم إن "احتمال التورط الروسي قوي جداً".
وعلى رغم عدم وجود أدلة واضحة توكد تورط روسيا، فإن هناك أسباباً قوية لهذه الشكوك. فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، اتخذت الحكومة الفرنسية موقفاً أكثر عدوانية في دعمها لأوكرانيا، كما أن لدى الحكومة الروسية مظالم خاصة ضد اللجنة الأولمبية الدولية، التي حظرت على الرياضيين الروس التنافس في الألعاب هذا العام. وعلاوة على ذلك، ربط مسؤولون استخباراتيون أوروبيون وأميركيون سلسلة من عمليات التخريب في كل أنحاء أوروبا بجهاز الاستخبارات العسكرية الروسي (المعروف اختصاراً بـ"جي أر يو" GRU)، منذ الأشهر الأولى من العام الحالي. وقد شملت هذه الهجمات إضرام الحرائق بصورة متعمدة وتكتيكات أخرى. واستهدفت في بعض الأحيان شبكات النقل، كما أنها حدثت في أكثر من ست دول أوروبية، بما في ذلك جمهورية التشيك وإستونيا ولاتفيا وألمانيا وبولندا والسويد والمملكة المتحدة.
في مارس (آذار) الماضي، أضرمت النيران في مستودع له علاقة بأوكرانيا في ليتون، شرق لندن. وألقت الشرطة البريطانية القبض على أربعة أشخاص بتهم شملت التخطيط لاعتداء بإشعال النيران بشكل متعمد ومساعدة الاستخبارات الروسية. وفي الشهر التالي، تعرضت منشأة في جنوب ويلز تابعة لشركة الدفاع والأمن والفضاء البريطانية "بي أي إي" BAE لحادث انفجار واشتعلت فيها النيران، في هجومٍ لم يُنسب إلى أي جهة حتى الآن، ولكنه يتوافق في نمطه مع الهجمات الأخرى. وفي أبريل (نيسان) أيضاً، اعتقلت السلطات الألمانية رجلين يحملان الجنسيتين الألمانية والروسية للاشتباه في أنهما كانا يخططان لشن هجمات تخريبية على قاعدة عسكرية في بافاريا، ووجهت اتهامات إلى أحد المشتبه فيهم بالاتصال بالاستخبارات الروسية. وفي مايو الماضي، ألقت بولندا القبض على ثلاثة رجال، اثنان منهم بيلاروسيان وواحد بولندي، وذلك بتهمة تنفيذ أعمال تخريب اشتملت على إشعال حرائق متعمدة وذلك بتكليف من روسيا.
والأمر الأكثر إثارة للدهشة، هو ما ذكرته شبكة "سي أن أن" عن نجاح الاستخبارات الأميركية والألمانية في منتصف يوليو الماضي، في إحباط مؤامرة تم تدبيرها من قِبل عملاء روس من أجل اغتيال أرمين بابرغر، وهو رئيس شركة "راينميتال" Rheinmetall الألمانية البارزة في صناعة الأسلحة، والتي كانت الجهة الرئيسة التي زودت أوكرانيا قذائف المدفعية. ومن المؤكد أن اغتيال مواطن غربي على أرض غربية كان من شأنه أن يشكل تحولاً كبيراً عن التكتيكات الروسية السابقة في الخارج، وحتى عن تلك التي تبناها الاتحاد السوفياتي.
إن الاستعانة بقوة تجسس روسية صاعدة وجيش جديد من المجندين المحليين في البلدان المستهدفة، فتح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فصلاً جديداً في عمليات المنطقة الرمادية الروسية في الغرب. فعلى مدى الأشهر الستة الماضية، أشارت القوات المدعومة من قبل روسيا إلى استعدادها لمهاجمة بنية تحتية غربية خاصة بالصناعة والنقل، واستهداف مواطنين غربيين أيضاً في بعض الحالات. وفضلاً عن ذلك، يبدو أن الكرملين يسعى من خلال استعمال مثل هذه التكتيكات إلى التصعيد بقدر ما يستطيع من دون إثارة رد عسكري من الجانب الآخر.
وقد وجد الغرب نفسه غير مستعد تماماً لهذا التحدي الجديد. وفي الوقت الحالي، تتعامل الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون مع كل هجوم على حدة بدلاً من التعامل معه كجزء من حملة أوسع نطاقاً. وعلى رغم تعطيل بعض العمليات، فقد فشلت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) حتى الآن في تطوير نهج جماعي للتعامل مع التهديد. ونظراً إلى إمكانية تسبب هذه الهجمات في نشر فوضى واسعة النطاق، أو ما هو أسوأ، فإن بمقدورها أن تصبح مصدر تهديد مزعزع للاستقرار في وقت يسوده عدم اليقين السياسي في أوروبا وانتخابات رئاسية شديدة التنافسية في الولايات المتحدة.
النشاطات السرية البلشفية
على رغم أن حملة التخريب التي شنتها روسيا قد فاجأت الغرب، بيد أنها ليست جديدة تماماً. ففي شهر يونيو (حزيران) الماضي، كتب فيليب أتش جيه ديفيز، وهو أحد كبار الباحثين في موضوع الاستخبارات البريطانيين، يقول إنه "كان لدى الغرب ثلاثة عقود من الزمن لكي ينسى بشكل جماعي ومؤسسي التهديد الناتج من التخريب الذي تنفذه الدول". والواقع أن وكالات الاستخبارات السوفياتية لم تستخدمها قط ضد الغرب حتى أثناء الحرب الباردة، مع أنها كانت قد خططت للقيام بمثل هذه الأعمال. بل إن السوفيات أتقنوا هذه الاستراتيجية قبل الحرب العالمية الثانية.
وبعد الثورة الروسية عام 1917، نظر البلاشفة إلى عمليات التخريب كوسيلة فعالة من أجل استهداف الغرب. وعند تأسيس الأممية الشيوعية (الكومنترن)، وهي المنظمة العالمية للأحزاب الشيوعية، فقد أصدرت أوامر إلى أحزابها الأعضاء بالتسلل إلى منشآت الأسلحة والذخيرة في بلدان وجودها، كما أجبر لينين هذه الأحزاب على دعم خلايا مسلحة سرية أيضاً. وسرعان ما شكلت هذه الخلايا السرية مشكلة كبيرة إلى درجة أن الحكومة البريطانية جعلت الاعتراف الرسمي بالاتحاد السوفياتي مشروطاً بوضع السوفيات حداً للأنشطة الشيوعية في الجيش البريطاني وفي مصانع الذخيرة. ولكن خلال الحرب العالمية الثانية، حلّ ستالين منظمة الكومنترن في محاولة يائسة لإرضاء الأميركيين، وانتهت عمليات التخريب بشكل مفاجئ.
ومع بداية الحرب الباردة، وضعت وكالتا التجسس السوفياتية، وهما جهاز الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) وجهاز الاستخبارات العسكرية (جي آر يو)، خططاً جديدة لعمليات التخريب في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. في الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ السوفيات بإيداع كميات من المتفجرات شديدة الانفجار والأسلحة في مخازن سرية في أنحاء أوروبا الغربية كافة، وفي الولايات المتحدة كما يقال، لهذا الغرض. ولكن كان من المقرر استخدام [محتويات هذه المخابئ] فقط في مرحلة أطلق عليها السوفيات اسم "فترة خاصة"، وهو تعبير ملطف للحرب الشاملة مع الغرب.
ونظراً إلى أن هذه الخطط لم يتم تنفيذها على الإطلاق، فقد خلصت وكالات التجسس الغربية إلى أن استراتيجيات الردع المتصاعدة أجبرت جهازي "كي جي بي" و"جي آر يو" على وضع جانباً عمليات التخريب الهجومية في الغرب. ولكن لم يتم التخلص من هذه التكتيكات تماماً، كما أوضحت الآن أجهزة استخبارات بوتين.
ديناميت الدكتاتور
ولفهم الدوافع الكامنة وراء عودة روسيا إلى التخريب، من المهم أن ندرك أن الأسباب التي دعت السوفيات إلى عدم استخدامها لم تكن لها علاقة بجهود الردع الغربية. عند اندلاع الحرب الباردة، كان لدى وكالات الاستخبارات السوفياتية الكثير من الموارد لاتباع هذا النهج على وجه التحديد. وقد جندت الاستخبارات العسكرية السوفياتية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، العديد من العملاء من أصحاب الخبرة الطويلة في التخريب.
دعنا نأخذ على سبيل المثال إيفان شيلوكوف، وهو على رغم سنه الفتي كان طياراً مقاتلاً صقلت خبرته المعارك وله سجل يستحق الإعجاب في تفجير الجسور في إسبانيا أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. وتم إرسال شيلوكوف وزوجته نادية إلى أوروبا الغربية من قبل "جي آر يو" كقاتلين، كانت مهمتهما الرئيسة هي "القضاء على الخونة"، بمن في ذلك أسرى الحرب الذين قاتلوا في صفوف الألمان. وكان شيلوكوف مدركاً للأخطار [التي تتصل بهذه المهمة] وذلك لأنه كان من قدامى المحاربين ممن شاركوا في الحرب الضروس التي خاضها السوفيات ضد النازيين. وكتب في وقت لاحق قائلاً "بعد عام [من بدء العمل]، بقيت نادية وأنا فقط على قيد الحياة من بين جميع الأزواج الخمسة الذين كانوا ينفذون هذه المهام". ومع ذلك، لم يكن ليتردد في تفجير مصانع الذخيرة أو المنشآت العسكرية، أو قتل مديري تلك المصانع، إذا تلقى أوامر بالقيام بذلك.
وفي موسكو، كان هناك أيضاً مشغلون من ذوي الخبرة على أهبة الاستعداد لإدارة عملاء مثل شيلوكوف. وفي أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، كلّف لافرينتي بيريا، وهو رئيس الشرطة السرية في عهد ستالين، ناحوم إيتينغون، الذي يعتبر كبير مهندسي اغتيال ليون تروتسكي في المكسيك عام 1940، بتشكيل لواء عمليات خاصة لوضع خطط من أجل تفجير القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا. غير أن الأمر بتطبيق تلك الخطط لم يصدر إطلاقاً. وكانت السياسة الداخلية للاتحاد السوفياتي هي السبب الرئيس في ذلك.
في خمسينيات القرن الماضي، بدأ السوفيات بإيداع متفجرات شديدة الانفجار والأسلحة في مخازن سرية في أنحاء أوروبا الغربية كافة
في فترة الانفراج التي أعقبت وفاة ستالين وتصفية بيريا، كان هناك رد فعل عنيف ضد أجهزة الأمن والاستخبارات النافذة، في أوساط النخبة السوفياتية التي بالكاد نجا العديد من أفرادها من عمليات التطهير التي قام بها ستالين. وفي عهد خليفته نيكيتا خروتشوف، سعت القيادة السوفياتية إلى وضع أجهزة الأمن تحت سيطرة الحزب الشيوعي. ونتيجة لذلك، تخلصت وكالات الاستخبارات من أكثر عناصرها مغامرة، بمن في ذلك إيتينغون، الذي أُرسل إلى معسكرات العمل القسري لمدة 11 عاماً، كما تمت إعادة شيلوكوف إلى الوطن وتعيينه في إحدى وحدات القوات الخاصة في منطقة لينينغراد العسكرية. في السنوات التالية، تبنى جهازا "جي آر يو" و"كي جي بي" نهجاً أكثر حذراً من ذي قبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك، راقبت الاستخبارات السوفياتية بعناية تأثير عمليات التخريب التي قامت بها مجموعات أخرى في أوروبا الغربية في أيام الحرب الباردة. على سبيل المثال، في خمسينيات القرن العشرين، كافحت ألمانيا الغربية لاكتشاف كيفية الرد على سلسلة من الهجمات والاغتيالات التي استهدفت تجار الأسلحة الألمان الذين زودوا جبهة التحرير الوطني الجزائرية الأسلحة. وقد نُسبت هذه الهجمات إلى "اليد الحمراء"، وهي جماعة متطرفة من المستوطنين الفرنسيين في شمال أفريقيا، ولكنها كانت في الواقع من تدبير جهاز الاستخبارات الفرنسية (أس دي إي سي إي) SDECE. وبدا أن ألمانيا الغربية كانت غير قادرة على وقف هذه الهجمات، الأمر الذي شكل ضغوطاً على السلطات الألمانية بهدف تشديد قواعد تجارة السلاح، وهو ما أراده الفرنسيون بالضبط.
وفي العقود التالية من الحرب الباردة، وعلى رغم تجنب السوفيات القيام بأعمال تخريبية، فهم قد أدركوا مدى فعالية الهجمات، واحتفظوا بهذا الخيار على سبيل الاحتياط. وقد أثبتت هذه التجربة أهميتها الحاسمة بالنسبة إلى بوتين عندما بدأ حربه الأوسع ضد الغرب عام 2014، وخصوصاً بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في عام 2022.
هوس بوتين بإشعال الحرائق
عندما تولى بوتين السلطة في نهاية تسعينيات القرن العشرين، ورث قدرات التخريب السوفياتية، إلى جانب جزء كبير من البنية التحتية للاستخبارات السوفياتية في هيئة سليمة في الغالب، فيما كان جهاز الاستخبارات الخارجية "أس في آر" SVR يستوعب فرع الاستخبارات الأجنبية التابع لجهاز "كي جي بي". في أكتوبر (تشرين الأول) 1999، أي بعد شهرين فقط من تولي بوتين منصب رئيس الوزراء وتسميته رسمياً خليفة للرئيس بوريس يلتسين، عقدت لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي جلسة استماع حول تصور التهديد الروسي والخطط المحتملة للقيام بأعمال تخريبية ضد الولايات المتحدة.
وخلال الجلسة، أشار كيرت ويلدون، وهو رئيس اللجنة الفرعية للبحث والتطوير العسكري، إلى أن روسيا لم تكشف قط عن وجود أسلحة ومتفجرات كان السوفيات يخبئونها في الدول الغربية أثناء الحرب الباردة. ومع ذلك، فإن هذه المخازن السرية كانت لا تزال موجودة. هكذا تم في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، اكتشاف أسلحة ومتفجرات سوفياتية في سويسرا وبلجيكا. كما كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يحقق في ما إذا كانت هناك مخابئ أسلحة مماثلة لجهاز "كي جي بي" في الولايات المتحدة. إلا أنه سرعان ما طغت على التحقيق هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وبدأت روسيا منذ ذلك الوقت تُعامل [من جانب الغرب] كدولة حليفة في الحرب العالمية ضد الإرهاب.
وعلى امتداد العقدين الماضيين، ومع توسيعه نطاق سلطته، أعاد بوتين تدريجاً إحياء التكتيكات الخارجية الأكثر طموحاً التي استخدمها ستالين حتى الحرب العالمية الثانية. وفي عام 2004، اغتال عملاء الاستخبارات الروسية نائب الرئيس الشيشاني السابق سليم خان يندربايف في قطر. ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف عمليات الاغتيال التي ترعاها الدولة الروسية في الحقيقة. وسرعان ما شملت سلسلة من عمليات دسّ السم لروس وشخصيات معارضة ممن كانوا يعيشون في منافيهم في الغرب.
ثم في عام 2014، عندما غزت روسيا شرق أوكرانيا، أضاف بوتين [عنصر] التخريب إلى المزيج أيضاً. في أكتوبر وديسمبر من ذلك العام، جرى قصف سلسلة من مستودعات الذخيرة في جمهورية التشيك وتدميرها في نهاية المطاف، علماً أن هذه دولة عضو في حلف شمال الأطلسي. وكانت التشيك تزود أوكرانيا بالأسلحة. وعلى ما يبدو لم تعرف الحكومة التشيكية كيف تستجيب [لهذا الاعتداء] إلا في عام 2021، أي بعد سبع سنوات من وقوعه، حين استطاعت أخيراً أن تشير بأصابع الاتهام إلى روسيا.
في أعقاب تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، بدأ الغرب يتبنى نهج التشهير، ففضح العمليات السرية الروسية في محاولة لإجبار موسكو على التراجع عن هذا الأسلوب. لكن لم يبدر عن الاستخبارات العسكرية الروسية أي علامات على التباطؤ. وبحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت وكالات بوتين التجسسية تجنّد جيلاً جديداً من العملاء الذين يجمعون بين الصلابة والولاء الذي لا يرقى إليه الشك والمغامرة وذلك من "سبيتسناز" Spetsnaz، وهي القوات الخاصة الروسية، التي تم استقطاب بعضها من بين قدامى المحاربين ممن خاضوا المعارك في سوريا وشرق أوكرانيا.
في عام 2022، أدى غزو موسكو الفاشل لأوكرانيا، وفشل الاستخبارات الروسية في توقع الرد الأوكراني والغربي، إلى شيوع الفوضى في هذه الأنشطة الاستخباراتية الهجينة موقتاً. وكافحت الاستخبارات العسكرية الروسية لفترة من الوقت من أجل استعادة موطئ قدمها. ولكن كما كتبنا في مجلة "فورين أفيرز" في الشتاء الماضي، مع تبدل الحرب في أوكرانيا بسرعة إلى حرب تجسس أوسع نطاقاً ضد الغرب، أعادت أجهزة الاستخبارات والأمن الروسية تنظيم صفوفها بسرعة ووجدت هدفاً جديداً لعملها.
وبفضل القتال في أوكرانيا، ظهرت موجة جديدة من المحاربين القدامى المخضرمين المستعدين للقيام بكل ما يلزم لتعطيل المساعدات الغربية لأوكرانيا. ولم يكن الأمر سوى مسألة وقت قبل أن تلجأ الوكالات الروسية إلى التخريب. كما بدأت في تجنيد الشركات التابعة المحلية في الدول الأوروبية، في الغالب من خلال شبكات إجرامية وأحياناً [كان ذلك يتم عبر] مواطني بيلاروسيا وأوكرانيا. وبحلول بداية عام 2024، كانت روسيا مستعدة لشن الهجمات التي تتكشف في جميع أنحاء أوروبا هذا الربيع والصيف.
ومن بين أكثر هذه الخطط جرأة محاولة اغتيال بابرغر، وهو المدير التنفيذي لشركة أسلحة ألمانية. وقد يكون هذا الهجوم بمثابة اختبار: فربما كانت موسكو تحاول تقييم رد الفعل الألماني وإمكانية مثل هذه العملية لتغيير الرأي العام الألماني بما يخص دعم ألمانيا لأوكرانيا. في أبريل، تم إضرام النيران في منزل بابرغر الصيفي في ولاية سكسونيا السفلى. وحتى مع إعلان النشطاء اليساريين مسؤوليتهم عن الهجوم، كان العملاء الروس يلاحقون بابرغر ويخططون لاغتياله.
سياسة الأرض المحروقة في أوروبا
في هذه المرحلة، لم تعد وكالات التجسس الغربية تستطيع الادعاء بعدم معرفتها بحملة التخريب والحرق الروسية، وبدأ المسؤولون في الولايات المتحدة وحلف الناتو بدق ناقوس الخطر. ويبدو أن الكرملين يسعى إلى جعل الأوروبيين يلمسون بشكل أكثر مباشرة أثمان الحرب على أمل أن يؤدي هذا إلى تآكل الدعم الشعبي للمجهود الحربي الأوكراني. وعلاوة على ذلك، فإن الهجوم الأكبر على البنية التحتية الغربية قد يخلّف آثاراً بعيدة المدى تزعزع الاستقرار.
ومع ذلك، وضعت استراتيجية التخريب التي ينتهجها بوتين الغرب في موقف صعب. ونظراً للجهود الغربية الرامية إلى تجنب الصراع المباشر مع روسيا، فإن القادة الغربيين مترددون في الدعوة إلى استجابة عسكرية أكبر لهذه الهجمات، وهو ما قد يُفضي إلى تصعيد خارج عن السيطرة. وحتى الآن، بعد أشهر من مثل هذه العمليات، يبدو القادة الغربيون مستعدين لتجاهل الأمر عندما يرون ذلك ضرورياً.
في أوائل أغسطس، وفي إطار صفقة تبادل الأسرى-الرهائن التاريخية مع روسيا، وافقت الولايات المتحدة وألمانيا ودول غربية أخرى على إعادة عدد من عملاء الاستخبارات الروس ذوي القيمة العالية مقابل إطلاق سراح رموز معارضة روس وصحافيين وناشطي حقوق الإنسان، بمن في ذلك مراسل صحيفة "وول ستريت جورنال" إيفان غيرشكوفيتش، الذي كان محتجزاً في السجون الروسية. ومن بين أولئك الذين سلمهم الغرب القاتل المدان فاديم كراسيكوف، وهو من المقربين من بوتين كما أنه متورط بشكل مباشر في عمليات في الغرب. ومن المؤكد أن ذهاب بوتين إلى المطار لاستقبال القتلة والجواسيس شخصياً من شأنه أن يعزز من معنويات أجهزة الاستخبارات وعدوانيتها.
وبغض النظر عن المصلحة السياسية، فقد تكون أنواع العمليات المضادة التي يمكن للغرب إطلاقها في مواجهة أعمال التخريب الروسية المستمرة، محدودة. من ناحية، لا تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها الردّ بالمثل بسهولة، لأنهم ليسوا في حالة حرب رسمية مع روسيا. كما أن هناك مشكلة أخرى أيضاً: فوكالات مكافحة التجسس الأميركية والأوروبية تفتقر إلى القدرة على تنفيذ تدابير كاملة النطاق لوقف عمليات التخريب الروسية، لأن هذه التدابير لكي تكون فعالة بشكل حقيقي يجب أن تتضمن خطوات عنيفة لا يمكن أن تطبقها عملياً إلا تحت قيادة أنظمة شمولية.
بعد كل شيء، حاول السوفيات السيطرة على كل تحركات الأجانب داخل الاتحاد السوفياتي ومراقبتها، ولكن نهجاً من هذا النوع من شأنه أن يكون لعنة في أي ديمقراطية غربية. إن ما يحتاج إليه الغرب هو استراتيجية استخباراتية جماعية، ولا بد أن يبدأ العمل بها الآن، وذلك قبل أن يؤدي هجوم واسع النطاق إلى جعل الردود، التي تم قياس أبعادها سلفاً، أكثر صعوبة.
أندريه سولداتوف باحث بارز غير مقيم في "مركز تحليل السياسات الأوروبية" وهو مؤسس مشارك ورئيس تحرير موقع "أغينتورا دوت رو" Agentura.ru الذي يراقب أنشطة أجهزة الاستخبارات الروسية.
إيرينا بوروغان باحثة أولى غير مقيمة في "مركز تحليل السياسات الأوروبية" وهي مؤسسة مشاركة لموقع "أغينتورا دوت رو" ونائبة رئيس تحريره.
للمؤلفين كتاب بعنوان "المواطنون: المنفيون الروس الذين حاربوا الكرملين" The Compatriots: The Russian Exiles Who Fought Against the Kremlin
مترجم عن "فورين أفيرز"، 9 أغسطس (آب) 2024