ملخص
"رابسودية إسبانيا" للموسيقي الفرنسي إيمانويل شابرييه هي في إيجاز ذلك العمل الموسيقي الذي نتج من رحلة شهيرة إلى إسبانيا كانت الغاية الأساسية للموسيقي منها أن يجمع مقاطع متنوعة من الفولكلور الموسيقي الإسباني وبالتحديد تلك القطع التي تتميز بكونها الأكثر شعبية والأكثر تلقائية التي يمكن العثور عليها خصوصاً في المناطق الريفية
كان الموسيقي الفرنسي إيمانويل شابرييه في الـ41 من عمره، حين تمكن أخيراً من تحقيق واحد من أحلام شبابه. وكان حلماً مثلثاً، فمن ناحية كان شابرييه منذ مراهقته يحلم بأن يتمكن أخيراً من أن يخطو على خطى الفنان الفرنسي إدوار مانيه الذي كان أبناء الجيل الذي نضج عند بدايات النصف الثاني من القرن الـ19 يعتبرونه المؤسس، الفكري الحقيقي في الأقل، لتيار الانطباعية في الرسم. ولكن يعتبرونه كذلك أول الفنانين الكبار الذين تمردوا على ذلك التيار، وانطلاقاً تحديداً من تأثره بالفنون الإسبانية التي كان من أهم ما يميزها كون مواضيعها تنضح بالموت "على الطريقة الإسبانية"، وتتسم باستخدام مفرط للون الأسود، فيما الانطباعية تنضح بالألوان الطبيعية الزاهية وتضج بالحياة، ليخلق انطباعية خاصة به من دون أن يعلن مع ذلك أية قطيعة مع رفاقه في التيار نفسه. والحقيقة أن تطلعات شابرييه المبكرة كانت تقوده إلى حلم ثان، هو القيام بالرحلة الإسبانية توصلاً إلى محاكاة مثله الأعلى الكبير، ولكن ليس في الرسم طبعاً، ولكن في الموسيقى. كان واحداً من أحلام شابرييه - الحلم الثالث إذاً -، يقوم على إبداع موسيقى "انطباعية"، ولكن على طريقة مانيه من دون أن يعرف كيف يمكنه ذلك متكلاً على رحلة يقوم بها إلى البلد المجاور تكون رحلة مهنية.
في رحاب الأرض الإسبانية
وهو كما أشرنا قام بتلك الرحلة المنشودة - من دون أن يعني ذلك بالطبع أنه لم يزر إسبانيا مرات عديدة قبل ذلك، بيد أن تلك الزيارات كانت بالأحرى سياحية أو حتى رحلات حج غير ذات علاقة حقيقية بالموسيقى - في عام 1882. وهي الرحلة التي عاد منها واكتمل لديه تحقيق حلمه المثلث: تشبع بالموسيقى الإسبانية، وربما إلى حد التخمة. وتحديداً تلك التخمة التي جعلته بشكل أو بآخر ضحية لحلمه. فهو لئن كان أنتج بعد عودته من هناك وبفضل ذلك التشبع تحديداً واحداً من الأعمال الموسيقية التي حققت أكبر قدر من النجاح الجماهيري في ذلك الحين، وتحديداً منذ قدمت في باريس للمرة الأولى في عام 1883، كان نجاحها من ذلك النوع الذي ينسي الجمهور العريض هوية المؤلف وجهوده التي أوصلته إلى إبداعها. بل إنها طغت على مجمل أعماله السابقة واللاحقة إلى حد أنه هو نفسه لم يستفد من ذلك النجاح. ولنقل أكثر من ذلك أن كثراً ينظرون حتى الآن إلى رابسودية "إسبانيا" لشابرييه التي نتحدث عنها هنا، وكأنها قطعة رائعة من الفولكلور الإسباني لا أكثر، ولكن كذلك لا أقل، فهذه الرابسودية تتطابق تماماً - بل تتفوق غالباً - على معظم تلك الأعمال الكبيرة التي نشرت الفولكلور الموسيقي الإسباني في أوروبا وربما العالم كله! ومن هنا يمكن القول إن إيمانويل شابرييه (1841 – 1894) كان ضحية نجاحه وإبداعه، وربما كذلك ضحية ولعه الاستثنائي بالفنان مانيه.
الجار قبل الدار!
وبالنسبة إلى مانيه، وإذ أشرنا إلى أن شابرييه تبع خطى مانيه إلى إسبانيا وتأثر مثله بالمناخات والفنون الإسبانية، فإنه كان من المولعين باكراً بلوحات ذلك الأستاذ الكبير إلى درجة أنه على رغم شظف عيشه حرص مرة على جمع الفرنكات القليلية التي جمعها قطعة بعد قطعة كي يتمكن من شراء تلك اللوحة التي كانت تعتبر من أجمل لوحات مانيه وأكثرها غموضاً "في بار الفولي بيرجير" فبقيت ملكه لزمن قبل أن يتخلى عنها ورثته لاحقاً. وهيام شابرييه بتلك اللوحة تحديداً لم يكن صدفة، بل إنه كان يقول خلال السنوات الأخيرة من حياته أنه كثيراً ما استلهمها في كتابة موسيقاه خلال تلك الفترة الأخيرة من حياته.
وفي السياق نفسه يمكننا أن نشير هنا كذلك أنه لن يكون من قبيل الصدفة أن يكون الموسيقيان الفرنسيان المعاصران لشابرييه هكتور برليوز وكلود ديبوسي من أكثر الفنانين الفرنسيين احتفالاً به والدفاع عن موسيقاه وهما المعروفان بكونهما انطباعيين في معظم إنتاجهما الموسيقي. ومع ذلك لربما يكون من حقنا هنا أن نقول إن "رابسودية إسبانيا" لشابرييه كانت من أبعد إنتاجاته عن النفس الانطباعي وكأنه هنا اتبع، حتى، تمردية معلمه الكبير في الخروج عن القواعد الراسخة للدروب الممهدة مما يعتبر مسؤولاً إلى حد ما عن الفصل التعسفي الذي أقامه الجمهور العريض بين شابرييه وعمله الشهير.
غرق في الفولكلور
فماذا عن تلك الرابسودية بعد كل شيء؟ هي في إيجاز ذلك العمل الموسيقي الذي نتج، كما أشرنا، من تلك الرحلة الشهيرة التي كانت الغاية الأساسية للموسيقي منها أن يجمع مقاطع متنوعة من الفولكلور الموسيقي الإسباني وبالتحديد تلك القطع التي تتميز بكونها الأكثر شعبية والأكثر تلقائية التي يمكن العثور عليها خصوصاً في المناطق الريفية حيث تطارد في الحانات وفي حلقات الرقص خلال الأعراس والأعياد الشعبية. وإذا كان شابرييه اشتغل على ذلك التجميع بصبر ودأب متنقلاً بين المناطق الإسبانية راصداً درجات التنوع والتلاوين بين ما تختزنه ذاكرة كل منطقة من المناطق، فإنه في نهاية المطاف حرص على ألا يستبقي في مخزونه سوى المقطوعات الأكثر تجاوباً مع إيقاعات معروفة بالانتماء إلى المناطق المتنوعة والأكثر تباعداً. ولقد كان من نتيجة ذلك أن المقطوعات التي احتفظ بها ليولف بينها في نهاية الأمر ستتبدى المقطوعات التي يعرفها الفرنسيون عادة أكثر من غيرها ويستسيغونها، بل يدمجونها أحياناً في ضروب الفولكلور الخاصة بهم. ومن هنا حين تلقاها الفرنسيون للمرة الأولى ضمن إطار برامج تقدم بشكل منتظم تحت مسمى "أمسيات لاموري" على اسم الموسيقي الشهير الذي كان يتولى تقديم تلك الأمسيات، شارل لاموري، لم يولد ذلك أي تأثير مفاجئ فيهم، بل على العكس من ذلك بدت لهم الموسيقى مألوفة، ولكن منظمة منمقة هذه المرة، ومن هنا كان تجاوبهم الرائع معها وعشقهم لها نابعاً من ذلك الحس الفرنسي الذي يحب التنظيم والمنهجة بشكل عام، إذ اعتبر العمل نوعاً من الانتظام لما يعهدونه من قبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعيداً من العشوائية
لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك إلا بصورة جزئية، وبخاصة أن شابرييه بذل جهوداً كبيرة للتخلص مما علق في ذهنه من عشوائية إسبانية ليقدم توزيعاً جديداً لا عهد للموسيقى الإسبانية بما يماثله من قبل. ولكن في مقدورنا أن نتصور هنا كم أن الجمهور الفرنسي المتحمس والمتجاوب وجد نفسه أمام ما كان يتوق إليه دائماً: شيء من الانتظام الأوركسترالي في خضم إبداع يعشقه ودائماً ما يتمنى أن يصل إليه منتظماً. ومن ناحية مبدئية، في ظروف أخرى كان يمكن لمثل تلك النتيجة أن تبدو بالغة الجرأة بل مقحمة على عادات موسيقية، ولا سيما إيقاعية راسخة، لكنها هنا اتسمت بقدر من نزعة إصلاحية تسووية راقت للجمهور جاعلة إياه ينظر بعين الإكبار حتى لاحقاً إلى ما أقدم عليه موسيقي آخر هم والدتوفيل، من اقتباس للبيانو وحده للعمل كما جاء في صياغة شابرييه النهائية. أما في تجربة شابرييه فإن الاهتمام تركز على التيمات الشعبية الست التي استعارها الموسيقي من الفولكلور الإسباني واستعرضت مولفة في المقدمة ليلحق بها ما يمكننا اعتباره تيمة أصيلة جديدة تقدمها آلات الترومبون والتوبا متآلفة، قبل العودة من جديد لتنويعة تطاول التيمات الست المعروفة تختمها عودة من جديد للتيمة الأصيلة. ولعل شابرييه كان على أية حال يعتمد في تجديديته على ذلك التلوين الأوركسترالي الذي سيسم لاحقاً تعامل بارتوك ودي فالا مع الفولكلور، مما حبب الجمهور العريض بعمله غير باحث عن تجديد أصيل!
بقي أن نشير إلى أن "الرابسودية الإسبانية" تبقى حتى اليوم الأشهر بين إنتاج شابرييه الموسيقي الذي من الظلم ألا نتذكره بقوته التعبيرية وجرأته الأسلوبية التي تظهر خاصة في ما لا يقل عن أربع أوبريتات أتت في زمنها مميزة: ومن أبرزها "الملك رغماً عنه" (1887) و"النجم" (1877) و"تربية ناقصة" (1882) وقطعته الرائعة "هابانيرا" (1885) التي قد يمكن اعتبارها توأماً حقيقياً للرابسودية التي تناولناها هنا.