يعتبر بعض الأميركيين ترشح كامالا هاريس للرئاسة تتويجاً لرحلة المرأة الأميركية في السياسة، وبالتأكيد تحتل هويتها كأنثى أهمية في حسابات حملتها، ومع ذلك، فإن هاريس تبدو أقل المتحمسين لتكريس هذه الصورة، ولديها مبرراتها، ففي انتخابات 2016، أُخذ على حملة هيلاري كلينتون أنها ركّزت على هويتها كأول امرأة يرشحها حزب كبير للرئاسة أكثر من رؤيتها لخدمة الشعب الأميركي، واستغل ترمب ذلك لمصلحته من خلال وصمها بأنها "تلعب بورقة المرأة" وتسعى للحصول على معاملة خاصة لأنها امرأة.
وعلى رغم تجنب هاريس لهويتها الأنثوية، فإن تأثير الجنس يتمدد في الانتخابات، فبينما يعزز الحزب الديمقراطي قاعدته النسوية المتخوفة على حقوق الإجهاض عبر هاريس، يرمي الحزب الجمهوري بكل ثقله وراء دونالد ترمب، باعتباره رجل الحلم الأميركي الصلب الذي لم توقفه رصاصات الاغتيال. وتبدو الرؤيتان تمثيلاً لسرديتين متنافستين في معركة السرديات، إلا أن هناك تحت السطح مراعاة وتفاعلاً أعمق من حملتي المرشحين مع الفوارق الجندرية.
هاريس ليست هيلاري
تعتز هاريس بدعم كلينتون لها، لكنها اتخذت منذ أول يوم على ترشحها خطوات غير "كلينتونية" على أمل ألا تكون هيلاري ثانية، ومنها تجنب تصوير الانتخابات المقبلة بأنها "تاريخية" فقط لأنها مرشحة، والترويج لأجندة تركز على مصالح الأميركيين، وكيف أنها الوحيدة القادرة على تنفيذها، وهو ما سيصعب المهمة على ترمب.
وفي حين ارتبطت حملة كلينتون بشعار "أنا معها"، على رغم أنها لم تختره رسمياً لعدم شموليته، أطلقت هاريس أولى إعلاناتها الانتخابية بعبارة "نختار الحرية"، في محاولة لجذب الناخبين من جميع الفئات، خصوصاً أنها ليست بحاجة ماسة لجذب الناخبات بقدر الذكور الذين يميلون إلى الجمهوريين تاريخياً.
وعلى رغم أن هاريس تحاول التعلم من خطأ كلينتون عبر تجنب إقحام هويتها في رسائلها الانتخابية بكثافة إلا أن نوع الجنس أثر في الانتخابات بطرق مختلفة تجلت في اختيار المرشحة الديمقراطية لنائبها ورسائل الحملتين، فمنذ ترشحها في يوليو (تموز) الماضي، ركزت هاريس على تجربتها كمدعية عامة طاردت المجرمين وأودعتهم السجون، ووصفها أنصارها ومنهم جو بايدن بالقوة والصلابة وهي صفات توصف بأنها "ذكورية".
في المقابل، حاولت حملة ترمب بث مقاطع للسخرية من قهقهات هاريس العالية أو حتى طريقة رقصها. كما استهدف ترمب هوية هاريس واتهمها بأنها أميركية أفريقية مزيفة وأنها تستغل العرق لجذب السود الذين يمثلون 14 في المئة من سكان الولايات المتحدة، مما يجعلهم ثاني أكبر أقلية في البلاد.
وتقول جيل فيليبوفيتش وهي مؤلفة وكاتبة سياسية في مجلة "نيو ستيتسمان" إن هاريس تجنبت إبراز هويتها كأنثى وسوداء وأميركية من السكان الأصليين، واختارت تيم وولز نائباً لها لجذب الرجال البيض من الطبقة العاملة، في جهد واضح للتأكيد بأن حملتهما لا تهدف إلى تهميش أي فئة.
ولم يكن مفاجئاً اختيار هاريس رجلاً أبيض لحمل بطاقة نائب الرئيس، فبترشيح وولز، حاكم مينيسوتا الذي عمل في الجيش والتدريس وتدريب فرق الطلاب لكرة القدم الأميركية، حافظ الديمقراطيون على التوازن العرقي والجندري في الحملة وأدخلوا طاقة ذكورية هم بأمس الحاجة إليها في ضوء الاستطلاعات التي تظهر ميل الناخبين الذكور تحت 30 عاماً إلى اليمين.
وانتشرت صور "الميم" التي تظهر وولز بأنه "الرجل اللطيف الذي يغير زيت سيارتك، ويوصلك للمطار، ويتأكد من وصولك إلى المطار بأمان".
نموذجان أميركيان للرجولة
هذه الحسابات دفعت ريتشارد ريفز رئيس "المعهد الأميركي للبنين والرجال" إلى القول إن حاجات ورغبات الرجال أصبحت محور الانتخابات المقبلة، بخلاف ما كان متوقعاً بأن تكون الانتخابات استفتاءً عاماً على حقوق المرأة ومنها حق الإجهاض الذي يتعهد الديمقراطيون بحمايته.
ويرى ريفز أن هناك تنافساً بين نموذجين للرجولة، نموذج "المقاتل الرجولي" في بطاقة ترمب-فانس مقابل نموذج "الأب الحنون" في بطاقة هاريس-وولز، مستشهداً بالاستعراض الرجولي الذي شهده المؤتمر الجمهوري الوطني في يوليو (تموز) الماضي واللقطة التي خطفت الأنظار عندما اعتلى المصارع المتقاعد هولك هوغان المنصة ومزق قميصه بينما يردد معه الجمهور هتافات التأييد لترمب.
لكن كلا الحزبين يواجهان تحديات في هذا الصدد، فبينما يحشد الجمهوريون قاعدتهم الذكورية التي تفضلهم، فإن الترويج لسلوكيات مفرطة الذكورة قد تنفر الناخبات النساء اللواتي يملن أصلاً للحزب الديمقراطي. ولم يساعد تصريح جي دي فانس عن "نساء القطط" اللواتي لا يملكن أطفالاً في تحسين موقف الحملة مع الناخبات، بل إن ترمب نفسه واجه صعوبة في المناورة للدفاع عن نائبه بهذا الخصوص.
أما بالنسبة للحملة الديمقراطية فهي في وضع مثالي مع المرأة، ليس فقط لترشح هاريس، بل لأن انتخابات نوفمبر ستكون حاسمة لمستقبل حقهن في الإجهاض الذي يتهدده الجمهوريون. لكن الديمقراطيين وفقاً لريفز يتجاهلون التحديات التي تواجه الرجال، مدللاً بمنصة الحزب الديمقراطي التي تعدد الفئات الديمغرافية التي تخدمها ومنها النساء، ومجتمع الميم، والأميركيين الأفارقة، من دون أي ذكر للرجال.
توجهات الناخبين بالأرقام
هناك فجوة متزايدة بين الناخبين والناخبات، فترمب يتقدم لدى الذكور بـ17 نقطة، وبين الإناث تتقدم هاريس بـ14 نقطة وفق أحدث استطلاع أجرته "نيويورك تايمز" بالتعاون مع كلية سيينا. والفجوة أعمق بين الناخبين الأصغر سناً إذ تميل النساء دون سن الثلاثين إلى اليسار وأقرانهن الذكور إلى اليمين. وهذا من شأنه بحسب الباحث الأميركي تحويل الانتخابات المقبلة إلى اختيار بين حزب النساء وحزب الرجال، بخاصة في حال ضاعف كل من الحزبين جهوده لتعزيز موقفه عند القاعدة الانتخابية التي تفضلهم، فقد يسعى الديمقراطيون إلى جذب المزيد من النساء لتعويض خسارة أصوات الرجال، والعكس صحيح بالنسبة للجمهوريين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحذر ريفز من هذا السيناريو داعياً في مقالة بصحيفة "وول ستريت جورنال" إلى صياغة رسالة سياسية تعترف بأن الرجال والنساء يواجهون تحديات حقيقية ومتباينة، وأن الخطأ ليس حاجات ورغبات أحد الجنسين. وتشمل الرسائل التي يحتاجها الجمهوريون دعم وصول أسهل لوسائل منع الحمل، وعدم معارضة التلقيح الاصطناعي، ودعم الإصلاحات الممكّنة للنساء العاملات. أما الديمقراطيون فيحتاجون أولاً إلى الاعتراف بالمشكلات التي تواجه الرجال، ومنها التخلف في مراحل التعليم، وركود أجور الرجال من الطبقة العاملة وتدني آفاق الزواج.
ويشير بحث أجراه الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد راج شيتي إلى أن وضع الرجال البيض الفقراء المولودين في عام 1992 أسوأ مقارنة بنظرائهم المولودين في 1978. ويعتبر معدل الانتحار بين الذكور أعلى بأربع مرات من معدل الانتحار بين النساء، إذ ينتحر 40 ألف رجل سنوياً. كما ارتفع معدل الانتحار بين الرجال تحت سن الثلاثين بنسبة 40 في المئة منذ عام 2010.
ولذلك يقترح ريفز على الديمقراطيين ليس فقط الاستثمار في التدريب المهني وإجازة الأبوة، بل وإنشاء فريق عمل فيدرالي للتعامل مع حالات الانتحار بين الذكور، وتدشين حملة وطنية لمساعدة الذكور على الحصول على الوظائف التعليمية مما قد يجذب الطلاب الذكور خصوصاً بعد تراجع عدد المعلمين الذكور إلى أقل من الربع بعدما كان في الثمانينات نحو ثلث جميع المعلمين من رياض الأطفال حتى الصف الثاني عشر من الذكور.
واعتبر الباحث أن التغييرات التي طرأت على البطاقة الانتخابية الديمقراطية من شأنها أن تجعل من الأسهل على الديمقراطيين استيعاب ومعالجة حاجات الرجال ومخاوفهم، بخاصة أن هاريس لكونها امرأة تملك مساحة وقدرة أكبر على التعاطف مع الرجال من دون أن يتم وصمها بأنها معادية للنساء.