Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة الخلاص الموهوم في رواية "سفينة الجزيري"

محمد جبريل يعتمد اللعبة الواقعية الصوفية  في مواجهة واقع مأزوم

سفينة في البحر بريشة رويال شارل (صفحة فيسبوك)

ملخص

رواية "سفينة الجزيري" للكاتب المصري محمد جبريل تضع القارئ أمام ر حلة البحث عن الخلاص الذي طالما تاق الإنسان إليه، ووسط هذا الزخم من الصراع والتحولات، يمنح الكاتب عبر النهاية المفتوحة، للقارئ حق تقرير مصير الرحلة والسفينة والشخوص.

التوق إلى الخلاص، رغبة إنسانية لازمت البشرية ورافقتها منذ الأزل. تزيد وطأتها، كلما تزايدت حدة الأزمات التي يعيشها الإنسان، وكلما اشتدت ظلمة واقعه. وفي مجتمعات قوامها الدين إلى حد كونه جزءاً لا يتجزأ من فطرتها، يجد كثير من الناس خلاصهم بالهرب من حدود المادة إلى لا نهائية الروح، ومن الواقع الملموس إلى الغيبية المبهمة. وقد تقترن هذه الرغبة في الانعتاق والخلاص بمحاولة الرحيل من مكان إلى آخر، بحثاً عن السلام المفقود، وأملاً في العثور على الطمأنينة والنجاة. هذه الغايات كانت دوافع شخوص الكاتب المصري محمد جبريل، في روايته "سفينة الجزيري"، الصادرة أخيراًعن دار بيت الحكمة - القاهرة، التي قادتهم لصناعة سفينة وركوب البحر، هرباً من واقع مأزوم.

منذ بداية السرد الذي قاد دفته راو عليم، بدا ما عمد إليه الكاتب من تناص قرآني، أسهم في تشكيل البناء الفني للرواية، إذ استدعى قصة النبي نوح عليه السلام، فكان بطله "محيي عامر"، الذي يعمل موظفاً إدارياً بالمستشفى الأميري، ويمتلك ورشة لصناعة الكراسي والشماسي من خشب السفن القديمة، يحلم بتغيير العالم، ويدرك أن تحقيق حلمه، لن يكون إلا في بقعة جديدة، لم تمرضها الشرور والآثام ينشر دعوته، ويقوم وأتباعه من الذين شاركوه الرغبة في الخلاص، ببناء سفينة من أجل الإبحار بها نحو جزيرة بعيدة، وأرض بكر لم تدنسها خطايا البشر، ولم ترهقها قسوتهم وصراعاتهم. وكما كان أتباع النبي نوح من الصالحين والأخيار، كان كذلك أتباع البطل، إذ شاركوه الزهد بالدنيا وحب الخير والنأي عن المعاصي والشهوات، كذلك بدا التماثل بين ابن النبي نوح في الموروث الديني، وابن البطل في النص، فكلاهما اقترفا الخطيئة وإن تباينت خطيئتاهما، وكلاهما صد عن دعوة الأب، ورفضا الصعود إلى السفينة. وعلى رغم هذه المحاكاة، فإن سفينة البطل الذي لقب بالجزيري نسبة للجزيرة التي يحلم ببلوغها، لم تحمل - كسفينة النبي - من كل زوجين اثنين، وإنما كان ركابها من الرجال وحدهم، الذين اختاروا الإبحار نحو المجهول.

واقع مأزوم

مثل غالب أعماله الروائية والقصصية، اتخذ الكاتب من منطقة بحري "أحد أحياء مدينة الأسكندرية" فضاء مكانياً للسرد، وربما يدلل ذلك على الخصوصية الثقافية لمدينة الأسكندرية، التي نشأ بها "جبريل"، وتفتح وعيه عليها، وكذا أثرها الطاغي الذي بدا في سرده، كحال غالب الكتاب الذين انحدروا منها. وتجلى هذا الأثر في التقاط الكاتب لكثير من مفردات المكان، بداية من البحر والسفن، ومروراً بأهم معالم المدينة، مثل جامع أبو العباس والأنفوشي وقصر رأس التين وكرموز وعمود السواري ومعبد سرابيوم ومقابر كوم الشقافة وسوق الترك وسوق الساعة وزنقة الستات وغيرها، إذ رسم عبر هذه المفردات صورة حية ونابضة للأسكندرية، تجاوز فيها السطح إلى العمق، فبلغ الهامش، ورصد ملامحه وأزماته، التي كانت محركاً رئيساً للأحداث، حين خلقت لدى قاطنيه شعوراً بالاغتراب، وحفزت توقاً إلى التحرر، ورغبة في الخلاص، فتشارك غالب الشخوص المعاناة ذاتها من رقة الحال وبؤس العيش، إضافة إلى مناخ من المحسوبية والفساد والعداء والعنف. وكانت تلك المعاناة دافعهم للبحث عن معنى جديد وأرض بكر، عسى أن تثمر ما يغرسونه فيها من أحلام. وعلى رغم بروز مفردات البيئة السكندرية، فإن تعاطي الكاتب مع المكان، جاوز في مواضع كثيرة من السرد حدود الحي الضيقة، فبدا حي "بحري" رمزاً يحيل إلى الوطن بأكمله، وربما إلى كل بقعة من هذا العالم "أخذ على جند المحافظ ضرب الناس في الطرقات والأسواق، وأخذ الإتاوات والهدايا من التجار وأهل الحرف ونهب الدكاكين واستلاب ما فيها، لماذا لا يساق المخطئ إلى المحكمة، فتقضي بالتبرئة أو الإدانة؟" ص 50.

وعزز الكاتب ما رصده من مفردات البيئة السكندرية، باستخدام تقنيات الوصف. كما عمد إلى استنفار الحواس، فانبعثت من زوايا السرد روائح البخور والبن والعطارة والأعشاب والأسماك. وتعالت عبر الأسطر أصوات الطيور، والأشرعة عند ارتطامها بالصواري، واحتكاك السفينة بالخشب الواصل بين الرمل والبحر.

 وعلى رغم ما أتاحته مساحات الحوار المسرحي، التي استدعاها في مواضع كثيرة ومتفرقة من السرد، من استراحات سردية، وكذا قدرتها على تعزيز الإيهام بآنية الحدوث، فإن امتداد هذه المساحات، مع كثرة الشخوص والأسماء، أسفر عن ارتباك، ربما لا يتمكن القارئ معه، من تبين أطراف الحوار، ولا تذكر أسماء الشخوص.

نزوع صوفي

هيمن على السرد نزوع صوفي، بدا في سمات بعض الشخوص، الذين تشاركوا الزهد في الدنيا، والبحث عن سلامة الروح والتوق للخلاص، وأحياناً الكشف عن الحجب، والتعاطي مع الموت ليس كنهاية، وإنما كصعود وارتقاء لما يتمناه المرء. وعمد الكاتب إلى تقنية التكرار في مواضع متفرقة من السرد، ليحيل إلى تشارك الشخوص النزوع الصوفي ذاته، الذي بدا كذلك على مستوى اللفظ والمعنى، وأيضاً عبر التطرق للمديح، والذكر والإنشاد والتواشيح، وجميعها بعض تراث المتصوفة "لا يكلم أحداً ولا يصغي إلى أحد، ولا يتلفت، يسمو عن الدنيا، يرنو إلى السماء، يحرص على صفاء العلاقة بينه وبين الذات الإلهية، يحلق في ملكوت السموات، يتلقى فيوض النفحات الربانية" ص 156.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإلى جانب بروز النزوع الصوفي، وكثافته في النسيج الروائي، وما اقترن به من حكمية صريحة وضمنية، استدعى تعاطي النص مع طبقات الهامش، حضوراً ممائلاً للموروث الشعبي، سواء على مستوى المعتقد، كالاعتقاد بأثر الحديد في صرف الجان، وفي وجود الأرواح الشريرة، أم على مستوى الطقوس والممارسات، كإحياء موالد الأولياء والتبرك بهم، والاستشفاء بالوصفات الشعبية، كما استدعى الكاتب بعض أنواع الفنون الشعبية كالتحطيب والرقص بالعصا. واستدعى كذلك بعض الأمثال الشعبية "قالوا يا جحا عد موج البحر، قال الجايات أكتر من الرايحات" ص15.  كذلك دفع جبريل بحمولات معرفية كثيفة، اتسق حضورها مع سعي الشخصية المحورية إلى اكتشاف أرض عذراء، والحصول على ميلاد جديد. وتنوعت هذه المعارف بين كشوف جغرافية ورحالة وكائنات بحرية وجزر ممتدة في أنحاء مختلفة من العالم مثل جزر الكاريبي وجزيرة سيشل، وجزيرة سرنديب التي أمضى فيها زعيم الثورة العرابية "أحمد عرابي" 20 عاماً من حياته.

التقابل والصراع

 اعتمد الكاتب - على امتداد رحلة السرد - تقنية التقابل بكثافة، وأبرز عبرها المسافات الشاسعة بين السماوي والأرضي، والثبات والتغير، والفعل والكلام، بين الواقع الذي يعيشه البطل، والحياة التي يربو إليها. وكانت هذه المسافات سبباً في احتدام أزمته الداخلية، ورغبته الملحة في الانعتاق والخلاص، عبر الرحيل وهجرة مدينته وحيه "بحري"، وركوب البحر والأمواج. كذلك برز التقابل في أيدولوجيات الشخوص ورؤاها، فبينما كان رفض بعض الشخوص لواقعها محفزاً لرغبتها في الرحيل، كان رضا شخوص أخرى بالواقع ذاته سبباً لرفضها الرحيل، وإصرارها على البقاء. وبينما كان التسامح والترغيب، نهجاً اتبعه الشيخ حافظ أبو السعود في خطابه وعظاته الدينية، كان الترهيب والوعيد بالعقاب والعذاب نهج الشيخ الليثي عبدربه، في وعظ طلابه ومريديه. كذلك برز التقابل بين رحلة روبنسون، الذي لجأ إلى جزيرته مضطراً إثر تحطم سفينته، ليواجه فوقها معارك وصراعات، ورحلة الجزيري الذي بحث عن جزيرته طوعاً، ساعياً إلى الطمأنينة والسلام. كذلك أحاط الكاتب مشاعر كل الشخوص في رحلة "الجزيري"، وفوق سفينته بالقدر ذاته من التقابل، فبينما سيطر على بعض الراحلين القلق والاضطراب، والرغبة في العودة، والخوف من المجهول، امتلأ آخرون بالأمل والسكينة، والرغبة في مواصلة الرحلة، والابتهاج بما ستؤول إليه الأمور.

وكان تباين الرؤى، وتقابل المشاعر، سبباً لاندلاع الصراع في العوالم الداخلية للبطل، الذي انقسم بين رغبة في الخلاص، ومخاوف من المجهول، سعي إلى إيجاد السلام المفقود، وتشكك في بلوغ واقع لا يختلف عن ذاك الذي فر منه. كذلك برز الصراع على المستوى الخارجي، إذ اشتعل بين رفاق الجزيري، على السفينة بعد إبحارها، فاندلع حول الأحق بالقيادة، والأحق بالقرب من القائد، وعلى تأدية المهمات فوق السفينة، واندلع نتيجة التشكك في النوايا، وبسبب قسوة الكلمات، واندلع حتى بين الأصدقاء. ومهد هذا الصراع لجملة من التحولات بالنص، فتحول الأصدقاء إلى أعداء، وتحول الوفاق إلى شقاق، واليقين إلى شك، وتحولت الرغبة في الرحيل لدى بعض أتباع الجزيري، إلى محاولات صارمة لكي يعودوا أدراجهم، وإعلاناً بالعدول عن الرحلة. وباتت الأجواء فوق السفينة، هي ذاتها أجواء "بحري"، الحي السكندري الذي فروا منه!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة