ملخص
تضع الأنباء المتواترة عن حشود جديدة لقوات "الدعم السريع" تمهيداً لهجوم وشيك المدينة أمام الاختبار ذاته مجدداً، فهل تصمد الفاشر هذه المرة وتحطم طموحات "الدعم السريع" في حكم دارفور؟
على رغم فترات الهدوء المتقطع في مدينة الفاشر حاضرة إقليم دارفور وآخر معاقل الجيش في الإقليم الواقع غرب البلاد، ظلت المدينة دائماً على موعد مع معارك ضارية متجددة بين الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه من جهة وقوات "الدعم السريع" من جهة أخرى، في خضم صراع محموم للسيطرة عليها، إذ أصبحت نقطة رهان أساسية في مسار الحرب السودانية.
ظلت الفاشر صامدة على رغم الحصار الطويل المضروب عليها طوال الأشهر الماضية. وتضع الأنباء المتواترة عن حشود جديدة لقوات "الدعم السريع" تمهيداً لهجوم وشيك، المدينة أمام الاختبار ذاته مجدداً، فهل تصمد الفاشر هذه المرة وتحطم طموحات "الدعم السريع" في حكم دارفور؟
هجوم وشيك ومخابئ
كشفت قيادات أهلية محلية عن تجمعات وحشود كبيرة جديدة لقوات "الدعم السريع" جرى تجميعها من الولايات التي تسيطر عليها في غرب وجنوب وشرق ووسط وشمال دارفور، بمشاركة عدد من كبار قادتها الميدانيين لمعاودة الهجوم على الفاشر في غضون الأيام القليلة المقبلة.
وأوضحت القيادات أن المدينة ما زالت تعيش حصاراً خانقاً تسبب في إغلاق جميع الطرق منها وإليها بشكل كامل، مما فاقم أزماتها بشكل خطر وعزل السكان عن بقية الإقليم، لافتة إلى أن الوضع الإنساني يزداد خطورة كل يوم، بخاصة بعد توقف محطات مياه المدينة بسبب انعدام الوقود وفي ظل تزايد الخسائر في الأرواح وعدم حصول مئات الآلاف من المدنيين على أية مساعدات لأكثر من خمسة أشهر.
وأردفوا "أصبح الناس يتطلعون إلى مخرجات مفاوضات جنيف لإنهاء معانتهم الإنسانية في أقرب وقت ممكن، سواء بالتوصل إلى وقف ملزم ومراقب دولياً لإطلاق النار، أو بفتح الطرق أمام حركة السلع والمواطنين ودخول المعونات الإنسانية".
ودفع القصف المدفعي المتكرر من قوات "الدعم السريع" المواطنين إلى حفر ملاجئ تحت الأرض بوسائل تقليدية لحماية أنفسهم وأطفالهم من القصف المدفعي بعد سقوط عشرات القذائف على الأحياء السكنية خلال اليومين الماضيين.
وحصدت القذائف المدفعية أرواح أكثر من 300 من المدنيين وجرح نحو 2500 آخرين خلال الشهرين الماضيين، وفق وزارة الصحة بولاية شمال دارفور.
وعلى رغم النداءات الأممية والدولية وتصاعد الجهود الدبلوماسية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لتفادي الهجوم على المدينة، فإنها ما زالت تحت الحصار والجوع مع إصرار قوات "الدعم السريع" على بسط سيطرتها عليها وإخراجها عن سلطة الحكومة المركزية في العاصمة الموقتة بورتسودان.
تحركات عسكرية ووعيد
وكشف مصدر أمني عن تحركات كبيرة يقوم بها كل من الجيش والقوات المشتركة في ولاية شمال دارفور وعاصمتها، إذ أمّن إمدادات كبيرة لقواته في الفرقة السادسة مشاة بالمدينة عن طريق الإسقاط الجوي، كما تمكنت القوات في الوقت نفسه من قطع معظم طرق الإمداد التي تربط مطار "أم جرس" بالقاعدة الحربية لـ"الدعم السريع" في منطقة الزرق بشمال دارفور.
وأشار المصدر إلى أن هناك مؤشرات عدة على أن الميليشيات بدت يائسة في هجماتها الأخيرة على المدينة، فضلاً عن ظهور تصدعات قبلية داخلية في صفوفها. مؤكداً أن قوات الجيش ما زالت تتمتع بإرادة قوية للدفاع عن المدينة، لا سيما بعد نجاحها في إفشال نحو 37 هجوماً متعدد المحاور من جانب "الدعم السريع"، ومستبعداً سقوط الفاشر في يد الميليشيات بأية حال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، دعا الفريق عبود آدم خاطر، قائد عمليات القوات المشتركة بالفاشر، سكان المدينة إلى البقاء في منازلهم وعدم الالتفات لما تروجه الميليشيات بغرض تهجيرهم ودفعهم لمغادرة ديارهم. مؤكداً لدى مخاطبته مجموعات من سكان الفاشر، أن الميليشيات فشلت في كسر صمود المدينة وأهلها، مما دفعها إلى قصف المستشفيات والمرافق الخدمية، ومطالباً المجتمع الدولي بتجريم السلوك الإرهابي الذي تمارسه الميليشيات والجرائم الإنسانية التي ترتكبها ضد المدنيين.
في المنحى ذاته، توعد الجنرال محمد إسحق يونس، رئيس أركان حركة التحالف السوداني ضمن القوات المشتركة، قوات "الدعم السريع" بالسحق والثأر لاغتيال الجنرال خميس أبكر والي غرب دارفور السابق وكافة الضحايا المدنيين الذين اغتالتهم في ولايات سنار والجزيرة وغرب دارفور. مؤكداً جاهزية القوات في كل الجبهات لإلحاق الهزيمة بالميليشيات وطردها خارج حدود الإقليم.
قصف واتهامات متبادلة
ميدانياً واصل الطيران الحربي شن ضربات جوية مركزة لثلاثة أيام متتالية استهدفت أكبر مخازن للسلاح والذخيرة والطائرات المسيرة شرق مدينة الفاشر، ودوت انفجارات ضخمة أرعبت السكان، وشملت الغارات مناطق الكومة وجبل عامر بولاية شمال دارفور بجانب مخازن للسلاح تتبع "الدعم السريع" بمدينة الضعين شرق دارفور أدت إلى مقتل ثمانية مدنيين وجرح نحو 17 آخرين بالمدينة، بحسب مصادر محلية.
وفي الفاشر، اتهمت لجان مقاومة قوات "الدعم السريع" بمواصلة قصفها المستشفيات والأحياء السكنية ومقار المنظمات الدولية في المدنية، حيث قصفت خلال اليومين الماضيين مخازن أدوية تتبع منظمة الإغاثة الدولية.
من جانبها، اتهمت قوات "الدعم السريع" طيران الجيش بشن ما وصفته بـ"قصف جوي همجي بالبراميل المتفجرة أدى إلى مقتل وجرح عشرات المدنيين من بينهم نساء وأطفال، بجانب تدمير المنازل والمتاجر في مشاهد مروعة ومؤسفة".
وقال بيان للمتحدث باسم "الدعم السريع" على موقعها بمنصة "إكس"، إن الغارات الجوية المتكررة لطيران الجيش استهدفت المدنيين بمناطق عدة في ولاية شمال دارفور، وكذلك سوق "قندهار" الشعبية غرب مدينة أم درمان وسوق "كرور" بمحلية أم بدة في العاصمة السودانية.
بين الصمود والانهيار
يرى الباحث في الشؤون الأمنية عبدالرحيم تاج السر، أن البديل عن الصمود بالنسبة إلى الجيش والحركات المسلحة هو الانهيار وسقوط كل الإقليم في يد قوات "الدعم السريع" وما ينتظر أن يتبعه من فوضى وحملات انتقامية وتنكيل قد تستهدف القبائل ذات الأصول الأفريقية التي تنتمي إليها غالبية قوات الحركات المسلحة.
ويعزو تاج السر عدم سقوط مدينة الفاشر حتى الآن إلى ما وصفه بالأرض الصديقة بالنسبة إلى الحركات المسلحة، وكون الصراع على المدينة بات وجودياً بالنسبة إلى الطرفين.
ورهن أي تحولات ميدانية لمصلحة الجيش بتنشيط وتفعيل ترتيباته الهجومية لإنهاء هيمنة "الدعم السريع" على النقاط الحيوية في محيط الفاشر، مع المضي قدماً في قطع طرق الإمداد، معتبراً أن تلك الترتيبات هي السبيل لفك الحصار المضروب على المدينة، غير أن استمرار ذلك الحصار لفترة أطول قد يكسر صمودها.
بدوره، يرى المراقب والمحلل العسكري إسماعيل يوسف، أن الفاشر ما زالت تشكل أكبر نقاط الاستنزاف البشري والمادي بالنسبة لقوات "الدعم السريع"، مما أضعف قدراتها القتالية في تلك المحاور ودفعها أكثر من مرة إلى الاستغاثة طلباً للإمداد البشري واللوجيستي خصماً على قواتها بولايات دارفور الخاضعة لسيطرتها، وكذلك من ولايات الخرطوم وسنار والجزيرة.
ويشير يوسف إلى التأثير الكبير للضربات الجوية التي ظل يوجهها سلاح الطيران ضد تجمعات ومتحركات "الدعم السريع" في شمال دارفور ومعظم أنحاء الإقليم في تعزيز صمود المدينة، بجانب عمليات الإسقاط الجوي للإمداد والتموين المستمر لقوات الفرقة السادسة مشاة داخل الفاشر.
ويعتقد أنه في حال نجاح مفاوضات جنيف الجارية في إقرار وقف إطلاق النار فإن ذلك قد ينقذ مدينة الفاشر، لكن في المقابل فإن انهيار المفاوضات ينذر بتصعيد عسكري ومواجهات شرسة متوقعة بين الجانبين خلال الفترة المقبلة.
مبادرة نزع السلاح
سياسياً أطلقت قوى سياسية ومدنية بقيادة حركة جيش تحرير السودان، مبادرة "نداء الفاشر" بهدف حماية وإغاثة المدنيين واستعادة السلام والأمن بجعل المنطقة منزوعة السلاح وخالية من المسلحين لتصبح أحد المراكز الرئيسية لإدارة العمليات الإنسانية والإغاثة إلى بقية أنحاء السودان.
وتقترح المبادرة خروج جميع القوات المتقاتلة وحلفائها من المدينة والمناطق المحيطة بها وإنهاء كافة مظاهر الوجود المسلح والاتفاق على جدول زمني محدد لسحب القوات المتحاربة من المدينة، مع تحديد الأماكن الجغرافية التي سيتم فيها التجميع الموقت للقوات قبل سحبها النهائي، وضمان وجود مراقبين دوليين محايدين لمراقبة عمليات التجميع والانسحاب للقوات المتقاتلة.
وأوضحت لجنة التواصل بالمبادرة أن كل من قيادة الجيش وقوات "الدعم السريع" تسلمت نسخة من المبادرة، وأن استجابتهما ستكون فرصة لكل السودانيين للنظر في قضايا ومشكلات البلاد بإرادة حرة ومستقلة.
وأكد عالم عباس عضو لجنة التواصل بالمبادرة، أن هدفها الأساسي هو تخفيف المعاناة الإنسانية والتأكيد على أهمية التعاون والتنسيق بين جميع الأطراف العسكرية والمدنية المشاركة في النزاع، والدعوة إلى إجراءات فورية وحاسمة لتحسين الأوضاع الإنسانية للمدنيين في الفاشر والمناطق المحيطة بها.
في الاتجاه نفسه، دان اجتماع مشترك للكتل والتحالفات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ضم 12 كياناً بقيادة الكتلة الديمقراطية وقوى الحراك الوطني، استمرار حصار "الدعم السريع" لمدينة الفاشر ومنع دخول المساعدات الإنسانية والقوافل التجارية، فضلاً عن استهداف المستشفيات والكوادر الطبية وعمال الإغاثة، والقصف المتعمد للأحياء السكنية ومعسكرات النازحين ومصادر المياه.
من جهته، جدد المبعوث الأميركي إلى السودان توم بريلييو، القول إن بلاده ترفض أي نوع من التقسيم للسودان، وكان بريلييو حذر الشهر الماضي من أن مدينة الفاشر المحاصرة قد تسقط في أيدي قوات "الدعم السريع" في أي وقت، غير أن الولايات المتحدة لن تعترف بدارفور كدولة مستقلة تحت أي ظرف.
المعارك تتواصل
ومنذ أول هجوم لقوات "الدعم السريع" على المدينة آخر مايو (أيار) 2023 وصده بواسطة الجيش، لم تتوقف المعارك والاشتباكات والقصف المدفعي المتبادل بينها وبين الجيش الذي تحالفت معه لاحقاً القوات المشتركة للحركات المسلحة الموقعة على "اتفاق جوبا" لسلام السودان.
وكانت الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق أعلنت منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي التخلي عن الحياد والانحياز إلى الجيش بسبب ما سمته الانتهاكات والفظائع التي ارتكبتها ميليشيات "الدعم السريع".
ومنذ الأشهر الأولى لاندلاع الحرب في منتصف أبريل (نيسان) 2023، تمكنت قوات "الدعم" من إسقاط الحاميات العسكرية للجيش وإحكام قبضتها على أربع من ولايات إقليم دارفور الخمس، هي جنوب وغرب وشرق ووسط دارفور، وتسعى حثيثاً إلى السيطرة على الفاشر عاصمة شمال دارفور لإحكام سيطرتها على كامل الإقليم.