اتسعت شقة الخلافات الكامنة بين أطراف الوساطة الدولية التي تقود مفاوضات جنيف لإنهاء الصراع السوداني المتفجر منذ 16 شهراً وبين الحكومة السودانية بقيادة عبدالفتاح البرهان، في ضوء الاتهامات المتبادلة بين الجانبين حول أسباب تأجيل لقائهما التشاوري الذي كان مقرراً في القاهرة أول من أمس الثلاثاء لمناقشة آليات تنفيذ "إعلان جدة" الموقع بين الجيش وقوات "الدعم السريع" خلال مايو (أيار) 2023، مما يؤشر إلى تعثر الحل بالنظر إلى تباعد الرؤى، فضلاً عن فقدان الثقة.
وصاحب هذه التطورات تصاعد الاشتباكات بين الجيش السوداني و"الدعم السريع" من خلال تبادل القصف العنيف كل في مناطق سيطرة الآخر، مما أدى إلى مقتل وجرح عدد من المدنيين، فضلاً عن تدمير بنى تحتية ومساكن مواطنين في مدينتي أم درمان والفاشر.
وكان المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان توم بيرييلو غادر أمس الأربعاء القاهرة متوجهاً إلى سويسرا لاستكمال المحادثات مع الوفود الموجودة هناك حول إيصال المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين في مناطق السودان المختلفة الذين قدّرتهم الأمم المتحدة بنحو 25 مليون شخص يعيشون ظروفاً إنسانية بالغة التعقيد.
وقال بيرييلو في منشور له على منصة "إكس"، "كجزء من شراكتنا الوثيقة المستمرة مع مصر في محاولة إنقاذ الأرواح في السودان، أقدر الفرصة التي أتيحت لي للقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ووزير الخارجية بدر عبدالعاطي وقادة حكوميين آخرين"، منوهاً بأن "الحكومة المصرية حددت موعداً لعقد اجتماع مع وفد يمثل حكومة بورتسودان، لكن الاجتماع أُلغي بعدما خرق الوفد البروتوكولات".
وأضاف، "نحن متحمسون لمواصلة رؤية نتائج جهودنا مع مصر والشركاء الدوليين في جنيف لتوسيع نطاق الوصول الإنساني والبرامج الأخرى لتخفيف معاناة الشعب السوداني".
سلام حقيقي
وأكد مجلس السيادة السوداني في بيان حرص حكومة بلاده على التشاور والتجاوب مع الدعوات المقدمة من الولايات المتحدة ومصر، لكنه أرجع عدم انعقاد اجتماع القاهرة إلى ظرف متعلق بوفد الولايات المتحدة.
وأشار البيان إلى أن حكومة السودان تلقت دعوة من الجانبين الأميركي والمصري إلى حضور مشاورات مع الولايات المتحدة حول تنفيذ "إعلان جدة" وتجاوبت معها بإرسال وفدها إلى القاهرة تلبية لهذه الدعوة. وبالفعل وصل اثنان من أعضاء الوفد إلى القاهرة الإثنين الماضي وما زالا هناك فى انتظار التحاق الوفد بهما، "مما يعكس جديتنا ورغبتنا الحقيقية في مواصلة المحادثات التي بدأناها مع واشنطن في مدينة جدة خلال الفترة من التاسع إلى الـ10 من أغسطس (آب) الجاري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت البيان إلى عدم صلة هذه المفاوضات بما يجري في اجتماعات جنيف، بل تهدف إلى توضيح رؤية الحكومة السودانية حول تنفيذ مقررات جدة، مردفاً أن "حكومة السودان ستظل حريصة على الاستجابة لما يحقق رغبات الشعب السوداني، ومستعدة لأية جولات تشاورية يتم تحديدها في هذا الإطار مع ضرورة التنسيق المسبق معنا وليس بفرض الأمر الواقع من طرف واحد".
وزاد أن "الموقف الأساسي لحكومة السودان هو دعم السلام الحقيقي المبني على نوايا صادقة، وعلى تنفيذ ’إعلان جدة‘، ليكون ذلك بداية لتحقيق تطلعات شعبنا، وفتح الطريق لمواطنينا للعودة إلى منازلهم واستئناف العمل ضمن المرافق العامة وفتح الطرق العامة والمساعدة في تطبيع الحياة، تمهيداً للتفاوض حول مصير الميليشيات المتمردة وغيرها من الترتيبات المتعلقة بالسلام".
وأوضح البيان أن "رد حكومة السودان على هذه الدعوة يأتي ضمن جهودها لتبني المبادرات التي تعزز السلام وتحافظ على سلامة البلاد ومؤسساتها الوطنية وتخفف المعاناة عن شعبنا".
وبحسب وسائل إعلام محلية، فإن تأجيل اجتماع القاهرة بين الجانبين الأميركي والسوداني لأجل غير مسمى سببه اعتراض الجانبين المصري والأميركي على تشكيل الوفد السوداني الذي ضم مسؤولاً في جهاز الاستخبارات العسكرية وشخصين من الحركات المسلحة، مما اعتبرته الوساطة خرقاً للبروتوكول المتفق عليه.
جرعات أمل
وحول مصير مفاوضات جنيف في ظل هذه التطورات والخلافات الشائكة، قال المستشار الإعلامي في حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك فائز السليك، "من المؤسف أن هذه المفاوضات ماتت قبل أن تبدأ بسبب رفض الجيش السوداني المشاركة فيها، وهو أمر كان متوقعاً لسيطرة جماعة الإسلام السياسي على قراراته".
وتابع أنه "أمر مؤسف بلا شك ضياع فرصة كان يمكن أن تضخ جرعات أمل في نفوس ملايين السودانيين التواقين إلى السلام والحالمين بعودتهم لبيوتهم في القرى والمدن التي نزحوا منها بسبب هذه الحرب اللعينة. وفي تقديري أن فشل هذه المفاوضات يتحمله الجيش من دون شك لأنه فضل استمرار معاناة المواطن السوداني ودعم انتصار أجندة دعاة الحرب طمعاً في ترسيم المشهد السياسي بالدماء".
ولفت إلى أن "ما يردده قادة الجيش من شروط مجرد ذرائع لاستمرار الحرب وتحقيق أجندة الجماعات الشريرة، وكان يمكن معالجة موضوع خروج قوات ’الدعم السريع‘ من منازل المواطنين بالاتفاق حول آليات تتصل بالرقابة والاتفاق حول مصفوفة تحدد جدول إعادة انتشار القوات والفصل بينهما ونشر قوات محايدة داخل مناطق عازلة".
وقال السليك "في ما يتعلق بقضية احتلال ’الدعم السريع‘ لمنازل المواطنين فهي حق يراد به باطل، ويقيني أن قادة الجيش وأعوانه من الفصائل الإسلامية يتمنون استمرار انتهاكات ’الدعم‘ ليجعلوا منها مبرراً لتغذية الصراع والتعبئة".
ورأى أن "الدبلوماسية الأميركية تتحمل في الوقت ذاته جزءاً من مسؤولية فشل إنهاء الصراع السوداني لأنها تساهلت مع مفوضي السلام، ولا تزال تتفادى الإشارة إلى الدور التخريبي للحركة الإسلامية منذ سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير وتنفيذ انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021 من دون تفعيل الضغوط واعتبار الحركة الإسلامية حركة فاشية لا تستجيب إلا للقوة".
وختم السليك "في نظري أن السيناريوهات المتوقعة بخصوص المشهد السوداني مفتوحة الآن، وأولها التصعيد العسكري خلال الفترة المقبلة، لذلك يجب على المجتمع الدولي اتخاذ تدابير لحماية المدنيين من هجمات ’الدعم السريع‘ واستهداف الطيران الحربي التابع للجيش، كما يجب فصل المسار الإنساني عن مسار وقف إطلاق النار لإنقاذ الملايين من الجوع وتحريرهم من جحيم المحاربين الذين يستخدمون الطعام كسلاح ويرهنون حياة السودانيين بغرض تحقيق أهداف سياسية".
عدم ثقة
في سياق متصل، أوضح الكاتب السوداني خالد التجاني أن هناك عدم ثقة بين الجانبين الأميركي والسوداني، مما أدى إلى هذه الخلافات التي صاحبت تأجيل لقاء القاهرة الذي كان مقرراً أول من أمس، مبيناً أن "منبر جنيف" لم يعُد وارداً أن يمضي خطوات إلى الأمام.
وأردف أن واشنطن تعاملت بقدر كبير من المرونة وكذلك من البرغماتية مع تحفظات الجانب السوداني في ما يتعلق ابتداء بنقل المفاوضات التي تقودها الوساطة الأميركية - السعودية من جدة إلى جنيف، فضلاً عن تغيير طبيعة الرعاة والوسطاء مما أدى إلى مقاطعة الحكومة السودانية لهذه المفاوضات.
وأشار إلى أن قضية حكومة السودان تتمثل في ضرورة تنفيذ مقررات "إعلان جدة" الموقع بين الجيش و"الدعم السريع" في مايو 2023 قبل الانتقال إلى أية محطة أخرى، وكان الجانبان الأميركي والسوداني عقدا اجتماعاً في جدة سبق لقاء القاهرة الذي تم تأجيله من دون أن يحدث توافق بينهما.
ونوه التجاني إلى أن واشنطن لم تكُن حازمة ولا حريصة على تنفيذ "إعلان جدة"، فلماذا غابت طوال هذه الفترة وجاءت لتقود وساطة لحل الأزمة السودانية مع تغيير المكان من جدة إلى جنيف وكذلك الأجندة؟. فالولايات المتحدة تعتقد بأن لديها مشاغل تجبرها على فرض نفسها كوسيط. ورأى أن الكرة الآن في الملعب الأميركي، وعلى واشنطن أن تكون جادة وتتعامل بمنطق وحيادية مع الملف السوداني.