ملخص
صدرت مختارات جديدة بالترجمة العربية للشاعر الإنجليزي المعروف فيليب لاركن (1922-1985)، وتضم قصائد عدة تترواح بين موضوعات الحياة والحب والفصول الاربعة والموسيقى.
يقول جورج مونين، في ختام كتابه "المسائل النظرية في الترجمة" ما مفاده إنه على رغم وجود حقول دلالية ورؤى للعالم مختلفة بين اللغات والحضارات المتعددة، والتي تشكل خير مثال على استحالة التوازن بين اللغات، فإن الترجمة تسعى إلى تجسيد الاختراق المتاح في ما بينها. ومن هذا المنطلق يمكن فهم مكانة الترجمة، المرجعية منها والأدبية. فكيف إذا كان الكتاب المترجم شعراً بالإنجليزية، للشاعر والكاتب فيليب لاركين يراد نقله إلى العربية، مع المحافظة على قدر معين من خصائص النص الشعري الأصلي. وكانت صدرت مختارات للشاعر لاركن بالعربية أنجزها الكاتب المصري محمد مصطفى بدوي والشاعر العراقي فاضل سلطاني الذي وضع عنه كتاباً بالإنجليزية بعنوان "فيليب لاركن: شاعرأ لا منتميا" صدر في بريطانيا.
لقد اختار الشاعر اللبناني علي شمس الدين (1978) أن يواجه هذا التحدي، وفي مطلع تجربته الشعرية العميقة، جرياً على تراث ونهج سابقين، اعتمدهما شعراء قصيدة النثر اللبنانيون، أمثال أنسي الحاج، وأدونيس، ويوسف الخال، وفؤاد رفقة، الذين ترجموا، كل على حدة، شعراً أجنبياً، من الفرنسية والإنجليزية والألمانية إلى العربية، موافقاً لتوجه كل منهم، وسعيه إلى الاندماج في الاتجاهات الشعرية الحديثة، ودالاً على رؤيته ونظرته إلى العالم.
من هو فيليب لاركين؟
هو الشاعر والروائي والناقد البريطاني الذي يعد أعظم شاعر إنجليزي في أواسط القرن الـ20، ولد في مدينة كوفنتري من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وعاش سنوات عديدة بمسقط رأسه، وتابع دراسته الجامعية في جامعة أوكسفورد عام 1940، في مطلع الحرب العالمية الثانية. وقد أعفي من الخدمة العسكرية لضعف بالغ في بصره. تنقل لاركين في أعماله، من أمين مكتبة في بلدية ويلينغتون، إلى أمين في المكتبات الجامعية بجامعة ليسستر، وانتهاء بأمين المكتبة التي أسسها بنفسه في جامعة بلفاست، إلى حيث انتمى، بدءاً من عام 1955 حتى وفاته عام 1985، عن عمر ناهز الـ61 سنة.
لم يكن نتاج الشاعر فيليب لاركين غزيراً، إذ أصدر في حياته ما مجموعه أربع مجموعات شعرية فحسب، غير أنها كانت كافية لكي تحدث الأثر المرغوب في جمهور القراء الإنجليز. حتى إن ناقدة شهيرة تدعى إيريكا واغنر، وهي مديرة لصحيفة التايمز، تقول عن أعمال لاركين الشعري: "إنها تكاد تكون خير ممثل للجنس البشري في سعيه إلى الموازنة بين الحياة التي تدفع بنا إلى العمق وإلى الحب، وأياً يكن المحبوب شخصاً أو مكاناً أو حقبة. وهذا مدعاة سرورنا".
ثم إن شعره هذا، لما كان بمعظمه ذا إيقاع، وتقليدي التشكيل، أي قائماً على أوزان وبنية إيقاعية مختلفة عن نظيرتها الفرنسية، إذ يعتد بالتوازي والنبر، بمقدار العناية بالقوافي، وبالتساهل في ما خص القوالب النظمية المعتمدة. ولعل هذه السمات الإيقاعية، التقليدية شكلياً نوعاً ما، إلى المضامين الغنائية التي انطوت عليها أشعار لاركين، هي ما قربته كثيراً من الملحنين والمغنين الإنجليز الذين راحوا يتداولون أشعاره. ومن هؤلاء المؤلفين الموسيقيين ما بعد الحداثيين، ألكسندر غويهر، وروبين هولواي، وبيتر ديكنسون، وتوماس آدس، وغيرهم. ولعل طبيعة شعره الموقع والمغنى هي ما جعلته على كل شفة ولسان، وموقع إلكتروني، إلى يومنا هذا، وفقاً لأدبيات الفن الإنجليزي المعاصرة.
"الأقل انخداعاً"
وبالعودة إلى المجموعة الشعرية المترجمة إلى العربية "الأقل انخداعاً"، والصادرة حديثاً (2024) عن دار مرفأ، وهي العمل الشعري الثاني على التوالي للشاعر، والذي رسخ شهرته وفرادة أسلوبه، يتبين للقارئ أنها تتألف من 29 قصيدة تامة، يقوم تركيبها على مقاطع شعرية، ويراوح عددها ما بين المقطعين والتسعة كحد أقصى، بحالة نادرة هي القصيدة الافتتاحية "خطوط على ألبوم سيدة يافعة". على أن عنوان المجموعة الشعرية، بنسخته الإنجليزية، مقتبس، في ما يمكن اعتباره جناساً ناقصاً وطباق تضاد لعنوان أصلي لدى شكسبير، في مسرحية هاملت، إذ ترد أوفيليا على تصريح هاملت لها بأنه لا يحبها، إذ قالت إنها كانت "الأكثر انخداعاً" باليأس الخلاب (ص 7).
أما الموضوعات التي عالجها الشاعر لاركين في قصائده، فتراوحت بدورها بين التقاط لحظات الحب المنقضي مع الزمن، وتبصر الموت من زاوية الفرح، وبين الاحتفاء بالفن عنواناً للفردية، والانتفاخ النرجسي العبثي، ورغبة النسيان، والبحث عن الفرادة، وسرعة الزوال، والنظر البارد إلى المقدس، والتفاوت بين فئات البشر تبعاً لنظرتهم إلى الوجود، وغيرها من المواضيع التي لا يمكن حصرها بمفردة، أو بثيمة وحيدة، ما دام الشاعر يسبغ على كل مشهد مفرد، أو فكرة أو خاطرة جماع رؤيته الوجودية المشبعة بالكثير من الرومانسية، والموشحة ببعض العدمية، على انتقائية فريدة في تركيب مشاهده الشعرية وصوره، وإيقاعات جمله، وقوافيه القليلة نسبياً. أما الغنائية فحاصلة من هذا التواشج بين البوح الوجداني والتأسي على انقضاء الزمن الخاص، وبين النظرة المتأملة والناقلة بصرها من الخاص الفريد إلى العام الكوني، والمحمولة على محفة الإيقاع، بالإنجليزية، وغير الظاهر في الترجمة العربية، ولا في سائر الترجمات، الفرنسية منها، على سبيل المثال لا الحصر، ما دام الإيقاع في اللغة الأصل (أي الإنجليزية) من الأمور العصية على النقل إلى اللغات الأخرى، لانعدام معادل لها فيها، على ما يقول منظرو الترجمة، ومنهم جورج مونين.
شعر لاركين بالعربية
وأياً يكن من شأن الإيقاع، فإن ما تعهد به المترجم علي شمس الدين، هو أن يبقى "أميناً على النص قدر المستطاع" (ص 9)، على رغم خيانة نسبية – ومتلازمة مع عملية النقل إلى لغة أخرى ذات ثقافة مختلفة - ومحافظاً على بنية الستانزا، وهي وحدة شعرية في الشعر الإنجليزي، مؤلفة من أبيات ذات قواف قليلة وتناقش مسائل روحية وتأملية. وبناءً عليه، فإن ما يعول عليه في هذا الجهد الترجمي الشجاع، هو نقل المعاني، والتجربة الشعرية الغنية لأهم شاعر إنجليزي في منتصف القرن الـ20، على ما قال النقاد. ومن هذا القبيل يسعنا، نحن القراء، أن نستدل على بعض ملامح رؤية الشاعر، وعالمه الشعري، من خلال مقتطفات مستلة من قصائد مجموعته "الأقل انخداعاً"، على سبيل المثال:
قصيدته الأولى، بعنوان "خطوط على ألبوم سيدة يافعة" يرثي فيها انقضاء فتوة بقي منها لقطات سيدة تنظر في ألبومها، يقول: "تلك هي لحظة الحقيقة، في النهاية سندمع/ ليس لأن الماضي لم يتسع للمشاركة، بل لأنه/ ترك لنا حرية البكاء/ نعرف جيداً أن (ما كان) لن يرغمنا مجدداً/ لتسويغ حزننا مهما كان رثاؤنا حاداً/ في تلك المساحة الفاصلة بين العين والصورة..." (ص 13).
وفي قصيدة له، أي ستانزا، يرسم الشاعر منظراً أو إطاراً طبيعياً، من دون أن يتعمد خلق مناخ رومنطيقي، باعتبار ذلك الأخير من لزوميات مناخ شعره الواقعي، بل التأملي، حيث للمشاعر المكانة الأولى، لأنها ولادة الأفكار المشبعة التي تتجاوز الآني والراهن. يقول: "في الأمسيات الطويلة/ ضوء، استرخاء وصفرة/ يغسل جبهات المنازل الهادئة/ طائر السمن يغرد/ محوطاً بشجر الغار في/ الحديقة العارية/ صوته مقشر بطزاجة/ يبعث الدهشة في المنازل الحجرية/ الربيع قادم قريباً/ الربيع قادم قريباً/ وأنا من كانت طفولته/ مللاً منسياً/ أشعر كأنني ولد/ في مشهد..." (ص 18).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن تعمد الشاعر لاركين مضاهاة الشعراء الرومنطيقيين في نزعتهم الأورفية الغنائية، فإنه يعمد إلى استجلاء مكامن العبث في الوجود، والخواء في الانتفاخ النرجسي الذي يتملك المرء، ويقول: "تنتفخ بصمت، إلى أن ننطوي على بعض/ ثم نرغم لنبدأ مخاض الانفكاك/ بهيمي، عازم، حقيقي/ تأتي الومضة الرطبة، الجدران البهية المنتفخة تنهار، "يا لحزن هذه الحال المزرية التي لا يمكن تلافيها/ يا لهذه التلال المرمدة، وتلك البحيرات المالحة المنحسرة/ كم شاحب يبدو المحبس/ مخز سحر بيرمنغهام كله" (ص 21).
وفي مواضع عديدة من المجموعة الشعرية عينها، لا ينسى الشاعر التذكير بحصة الفرد، المبدع، والفنان، وصاحب الحساسية الخاصة، من الوجود، ويقول في هذا الشأن، بقصيدته "مسوغات للحضور": "صوت الترامبيت عالٍ ومتسلط/ يجذبني برهة إلى النافذة المضاءة/ لأشاهد، بمهابة، من يرقص - جلهم تح الخامسة/ والعشرين... هو محض انعدام للدقة بالنسبة لي/ ما يستدعيني حقاً هو هذا الجرس المرفوع/ بلسانه الهائج (الفن، إذا ما أحببت)، حيث صوته الفرداني/ يصر أنني فرد أيضاً. يتكلم/ أسمع، الآخرون قد يسمعون هذا أيضاً..." (ص 19).
ومن هذا القبيل أيضاً إصراره على فكرة الفرادة في السعادة التي تصنع الافتراق عن المألوف، في قصيدته التي يخاطب بها سالي آيمس يقول: "لقد تمنيت لك شيئاً/ لم يرغب فيه الآخرون/ ليس الأشياء الاعتيادية... في الحقيقة، فلتكوني مملة/ إذا ما كانت المهارة/ اليقظة، المرونة، الإبهام، الافتتان/ هي ما يعرف التقاط السعادة" (ص 29).
قصائد ورؤى
في واقع الامر لا يسع القارئ، وهو يطالع القصائد الـ19 في الكتاب، سوى الإشارة إلى القصائد على أن كلاً منها نابعة من رؤية فريدة، أو وجهة نظر تدل على اتساع مرامي الشاعر وأبعاده الدلالية الكثيرة. حتى ليمكن إجمال القول فيها إنها ضمة للرؤى، يتكامل فيها النظر إلى الغد بوجوم (التالي، رجاء)، مع رغبة النسيان (رغبات)، وسرعة زوال الأشياء (مهما حدث)، وتشييء المقدس (زيارة إلى الكنيسة)، والعيش في تفاوت (ضفادع)، وغيرها كثير مما يتاح اكتشافه والتأمل فيه، بفضل ترجمة موافقة ومتأنية على يد شاعر مستزيد من معين شعر أجنبي بهذا الثراء.
وللشاعر فيليب لاركين أعمال شعرية وروائية أخرى، أهمها: فتاة في الشتاء، والحياة مع ثقب في الداخل، وتقاليد غريبة للفتيات في مدرسة داخلية، وغيرها.