Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العالم ليس على استعداد للجائحة الآتية

على الحكومات ضخ استثمارات أكبر لتمويل لقاحات جديدة وأفضل من سابقاتها

تجميع مواد من خنازير ميتة خلال موجة وبائية لإنفلونزا الطيور في بلدة ساو جوزيه دو نورته البرازيلية في نوفمبر 2023 (رويترز)

ملخص

على رغم الأوضاع الكارثية التي مرت بها البشرية كلها أثناء جائحة كورونا، فإن الدرس الأساسي المتمثل في ضرورة الاستعداد لمواجهة جائحات مماثلة، لم يستوعب بشكل مناسب ولم يترجم إلى مبادرات استراتيجية توازيه في الأهمية والمدى. هل تكفي الإشارة إلى أن جائحة أقوى قليلاً من كورونا قد تضع البشرية أمام كوارث تفوق حروبها وصراعاتها منذ الحرب العالمية الثانية؟

بعد أقل من خمسة أعوام على موجة وباء "كوفيد-19"، يبقى العالم هشاً ومنكشفاً أمام أي جائحة أخرى. وخلال الأشهر الخمسة الماضية، رصدت سلالة متحورة من فيروس "أتش 5 أن 1" في مزرعة للمواشي التي تربى لحليبها، مما يحمل تهديداً كامناً بوجود فيروس قد يسبب جائحة. وحتى الآن، لم تبذل الحكومات والمنظمات الدولية سوى أدنى جهد للاستعداد لحدوث ذلك السيناريو، على رغم الدروس المستفادة من المعركة العالمية مع "كوفيد-19".

وبعد أن أظهرت جائحة "كوفيد-19" أوجه القصور في النظام العالمي للاستجابة الصحية، افترض كثر أن الحكومات والمنظمات الدولية ستكافح كي تحل المشكلات الأكثر وضوحاً. ومع الأخذ في الاعتبار الكلف الإنسانية والاقتصادية الكارثية، امتلكت البلدان حافزاً قوياً كي تشرع في الإنفاق بكثافة على تطوير أجيال من لقاحات إنفلونزا وكورونا، تكون قمينة بإعطاء مستويات أفضل في الوقاية، وكذلك الحال بالنسبة إلى التوسع في التصنيع العالمي للقاحات وشبكات توزيعها. لكن، لم يحدث ذلك على الإطلاق. وفي المستويات الحالية للتمويل، يرجح أن يمر عقد أو أكثر قبل تطوير لقاحات أشد فعالية وأكثر ديمومة. وعلى رغم انخراط مجموعات في العمل على علاجات جديدة ومبادرات أخرى لمكافحة الفيروسات، فإنه على المستوى العالمي لا يبدو المجتمع الدولي أكثر تأهباً لمواجهة جائحة أخرى من كورونا أو إنفلونزا، مما كانه قبل خمسة أعوام.

ومع موجة جديدة من "أتش 5 أن 1" أصابت البشر والحيوانات، ألقي الضوء على مواطن الفشل في التأهب للجائحات. وعلى رغم أن ذلك الفيروس معروف منذ تسعينيات القرن الـ20، فإن تركيبته واصلت مذاك التبدل والتحور، وقد أعاد الفيروس ابتكار نفسه تكراراً ومراراً. واليوم، يصيب الفيروس بعدواه ملايين الطيور، وكذلك بات قادراً على إصابة ما لا يقل عن 40 نوعاً من الحيوانات الثديية. في المقابل، لا يملك "أتش 5 أن 1" القدرة على الانتشار بسهولة بين البشر، فيما تلوح نذر تحوله جائحة عالمية، من وقائع انتشار إصاباته بين المواشي المدرة للحليب التي قد تلتقط ضروعها فيروسات إنفلونزا البشر والطيور.

من المستحيل معرفة توقيت اندلاع جائحة عالمية جديدة، أو العنصر الوبائي الذي سيحدثها بها. ليس "أتش 5 أن 1" سوى مثل عن فيروسات قد تتحور وتغدو قادرة على إطلاق جائحة. وفي خاتمة المطاف، من المحتم أن فيروساً ما سيفعل ذلك. إذاً، فقد أزف الوقت للنأي عن التوصيات الفضفاضة والحديث عن أفضل الممارسات والوسائل، والانخراط في برامج أوسع نطاقاً تهدف إلى إنتاج لقاحات أفضل وأدوية مضادة للفيروسات وغيرها من وسائل مواجهة الجوائح، إضافة إلى إرساء بنية تحتية على المستوى المطلوب لوقاية مجموعات سكانية ضخمة. وعلى رغم أن تلك الجهود مكلفة، فإن الإخفاق في تبنيها سيقود إلى كارثة.

أخطار من الطيور

لم يتسبب "أتش 5 أن 1" بأي جائحة في أوساط البشر، إلا أن طيفه استمر بالظهور كاحتمال في آفاق الصحة العامة طوال عقود. لقد عرف أولاً في أواخر عام 1996، حينما ظهر كفيروس إنفلونزا جديد وعرف باسم "أتش 5 أن 1" الطيور الممرض جداً، ثم شرع في التنقل والانتشار بين أنواع الطيور في آسيا. وتصنف سلالات الإنفلونزا بحسب خصائص نوعين من البروتينات هما "هيماغلوتنين" hemagglutinin و"نيورامينيديز" neuraminidase، يتركزان على السطح الخارجي للفيروس. وحاز الفيروس اهتماماً عالمياً في عام 1997 إثر تسببه بموجة وبائية في هونغ كونغ قتل فيها ستة من أصل 18 شخصاً أصيبوا بفيروس "أتش 5 أن 1". وسعياً إلى السيطرة على انتشاره، أجبرت هونغ كونغ على التخلص من ملايين الدواجن كانت في أسواقها ومزارع الدواجن فيها.

في ديسمبر (كانون الأول) 2003، تجدد ظهور "أتش 5 أن 1". وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، نشرت طيور برية الفيروس بين صفوف الطيور المائية والدجاج في آسيا وأفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. وأصابت عدواها أيضاً عدداً محدوداً من الحيوانات الثديية شملت نموراً في حدائق الحيوان في تايلاند، وانتهى الأمر بعدواه أخيراً إلى إصابة 148 شخصاً في خمسة بلدان آسيوية، ثم تبين أن 79 من الإصابات البشرية (53 في المئة منها) كانت قاتلة. ومع انتشار الفيروس، تنامى قلق المسؤولين الصحيين من دنو جائحة مهلكة للبشر. وفي عام 2005، حينما وصل الذعر إلى ذروته، كتب أحد مؤلفي هذا المقال (هو أوسترهولم) مقالاً في "فورين أفيرز"، يشرح فيه كيف يجب على الحكومات أن تتأهب لوقوع ذلك السيناريو [اندلاع جائحة بفيروس "أتش 5 أن 1"]. ولاحظ ذلك المقال أن خطط "منظمة الصحة العالمية" وبلدان كثيرة، في معالجة سيناريو الجائحة، كانت غامضة وفضفاضة ولا تقدم إجراءات حاسمة وواقعية عن كيفية تعامل السكان أثناء اندلاع جائحة قد تدوم من عام إلى ثلاثة أعوام. وكذلك أوصى المقال نفسه بمبادرة لتقديم لقاحات إلى العالم بأسره، مع جدول محدد بدقة لضمان حدوث ذلك بطريقة متناغمة زمنياً.

لحسن الحظ، لم يتسبب "أتش 5 أن 1" بجائحة في 2005. لكن، في أواخر عام 2019، استطاع فيروس آخر التسبب بذلك. آنذاك، شكل "كوفيد-19" نوعاً جديداً من عائلة فيروس كورونا التي أطلقت عليها تلك التسمية بسبب نواتئ بروتينية تشبه الأشواك تظهر على السطح الخارجي للفيروس مما يعطيها مظهراً يشبه الإكليل. حينئذ، شرع "كوفيد-19" في إصابة آلاف من الناس في ووهان بالصين. وبسرعة، انتشر عبر الصين كلها ثم القارة الآسيوية وبعدها العالم بأسره. وفي عامه الأول، أصاب "كوفيد-19" مئات ملايين البشر وقتل 3 ملايين شخص في الأقل.

الخلطة البشرية  

ليست جوائح الإنفلونزا بالظاهرة الجديدة. وبين 2009 و2010، انتشر فيروس "أتش 1 أن 1" الذي عرف شعبياً باسم فيروس الخنازير، بسرعة عبر الكوكب، وفتك بقرابة 575 ألف شخص. وفي الولايات المتحدة، قدرت "مراكز الوقاية من الأمراض والسيطرة عليها" (سي دي سي) CDC، أن 60.8 مليون شخص أصيبوا بـ"أتش 1 أن 1"، ودخل 273300 منهم إلى المستشفيات، وتوفي 12469 شخصاً. وحينها، بدا ذلك المستوى من الإصابات والوفيات تراجيدياً، لكنه خفيف نسبياً بالمقارنة مع ما تشتهر به جائحات الإنفلونزا. وفي النهاية، أدت جائحة الإنفلونزا لعام 1918 التي سببها فيروس من نوع "أتش 1 أن 1"، إلى مقتل نحو 150 مليون شخص في العالم، أو ما يساوي 2.7 في المئة من قاطني الكرة الأرضية.

وقد يغري الاستنتاج بأن فيروس جائحة 2009 كان أقل إمراضاً من ذلك الذي انتشر في عام 1918. ويضاف إلى ذلك أن المجموعة الأكثر عرضة للوفاة بذلك الفيروس، أي من تتجاوز أعمارهم الـ65، اكتسبت أجسامهم مناعة بالفعل، بفضل تعرضهم لتفشيات سابقة من العدوى المتعلقة بذلك الفيروس. ووفق ما بينته جائحة "كوفيد-19"، ليس العالم أفضل استعداداً اليوم مما كانه قبل قرن، بل إنه في وضعية أسوأ، بمعان عدة. اليوم، لدينا ثلاثة أضعاف عدد السكان بالمقارنة مع 1918. ويعيش مئات الملايين قرب الدواجن والخنازير. وتستطيع الرحلات الجوية نقل المصابين الحاملين للفيروس، وممن لا تظهر عليهم أعراضه، ونشرهم عبر العالم خلال بضع ساعات (في كل سنة، يعبر مليار بشري الحدود الفاصلة بين البلدان). وأدت سلاسل الإمدادات الدولية إلى إرساء اعتماد متبادل دولي متزايد. وبكلمات أخرى، أضحت الإنسانية وعاءً غير تقليدي لتمازج الأنواع البيولوجية، إضافة إلى كونها مصنعاً كثيف الإنتاج للتحورات الفيروسية. [إشارة إلى أن الفيروسات التي تنتقل من الحيوان إلى البشر، تدخل في حلقة سريعة من التحورات المستمرة، على غرار ما حدث (ويحدث) مع "كوفيد-19"].

ولا يعني ذلك أن فصلاً من جائحة فيروس "أتش 5 أن 1" يوشك على الانطلاق. وتقدر منظمة الصحة العالمية و"مراكز الوقاية من الأمراض والسيطرة عليها" أن الخطورة ضئيلة حاضراً لحدوث جائحة "أتش 5 أن 1" بين البشر. وحتى الآن، ليس من دليل قوي على أن الشكل الحالي من هذا الفيروس يملك قدرات أعلى في الدخول عبر المستقبلات المهيأة لتلقيه في الجهاز التنفسي، وأن هذا المانع الحاسم الذي يصد "أتش 5 أن 1" يجب أن يزال قبل أن يضحى الفيروس قادراً على إحداث جائحة. وحتى الآن، يمثل التهاب ملتحمة العين الشكل الرئيس للمرض الذي يحدثه "أتش 5 أن 1" حينما يصيب البشر في الولايات المتحدة. وتحدث الإصابة بالفيروس إما عبر التعامل المباشر مع أعداد كبيرة من الدواجن مصابة به أو العمل مع الأبقار المصابة. وليس ذلك بمدهش لأن عيون البشر فيها مستقبلات تتقبل فيروسات الطيور.

وفي المقابل، تتبدل الطبيعة بسرعة. وتستمر الفيروسات في التحور وإعادة التشكل. وقد تحدث إعادة التشكل في البشر أو الخنازير أو الأبقار حينما يصيبهم فيروسان مختلفان، مما يشكل فرصة لتبادل مكونات جينية بين العنصرين الممرضين، بالتالي، تكوين سلالات فيروسية جديدة. وفي معظم الحالات، تؤدي تلك الأمور إما إلى تغيرات قليلة الأهمية أو ظهور أشكال فيروسية أقل صلابة ومرونة. لكن، قد يحدث أحياناً أن يقود التحور أو إعادة التشكل إلى ظهر فيروس بقوة أشد أو بقدرة أكبر على الانتشار أو الاثنتين معاً. وربما يعايش "أتش 5 أن 1" ذلك النوع من التحول في أي لحظة، فيقلب الوضع المجمع عليه حاضراً رأساً على عقب. وكذلك فإن "أتش 5 أن 1" ليس إلا واحداً من سلالات عدة للإنفلونزا يضعها علماء الأوبئة تحت مجهر التفحص اللصيق.

  وثمة ما لا يجب أن يخطئ المسؤولون في شأنه، ويتمثل في أن المستقبل سيحمل المزيد من جائحات الإنفلونزا وكورونا، وقد تفوق أي منها جائحة "كوفيد-19". وحين حصولها، فمن شبه المحتم أن يتسبب بها فيروس لديه بشكل رئيس القدرة على الانتقال بين البشر عبر الهواء، أي إنه سيكون "فيروساً بأجنحة"، مما يعني أن جسيمات الفيروس تبقى معلقة في الهواء لفترات طويلة، وتنتقل لمسافات كبيرة. حينما تحدث موجة وباء كتلك، ستنتشر عالمياً قبل أن يدرك أي شخص أننا نعيش الأيام الأولى لجائحة ستستمر سنين. لا تملك الحكومات خيار تأجيل الاستعداد إلى لحظة الانتشار العالمي لفيروس تلك الجائحة. إذ أظهرت تجربة السنوات الخمس الماضية، في الأقل، أنه حتى المرض المتوسط القوة في الفتك يستطيع إحداث تداعيات هائلة على الصحة والاقتصاد والاجتماع والسياسة.

في البحث عن حل سحري

لقد أزف الوقت كي تستيقظ الأمم كلها وتتنبه لخطر حدوث جائحة جديدة، وأن تتأهب لذلك. ويجب أن يتصدر تلك القائمة إحداث تحسين نوعي في الإجراءات الطبية للوقاية التي يجب على الحكومات أن تفعلها لمكافحة فيروسات الإنفلونزا وكورونا. وبالتحديد، إن ذلك يعني اللقاحات والمعالجة الدوائية والاختبارات التشخيصية. ومن الأمور الأساسية، ضرورة العمل بسرعة على تحسين تصاميم معدات الوقاية الشخصية وأنظمة إنتاجها كي تتوفر بكميات كافية. ويجب على الحكومات أن تشرع في ضخ الاستثمارات بكثافة في بحوث اللقاحات وتطويرها، بما في ذلك الدراسات التي تسعى إلى صنع لقاحات شاملة لفيروسات إنفلونزا وكورونا، كي توفر الوقاية ضد سلالات متعددة من تلك الفيروسات، وتمنح حماية مستدامة تمتد فترات متطاولة، إضافة إلى إمكانية تصنيعها بسرعة وتوزيعها عالمياً.

 

لا يقل الأمن البيولوجي شأناً عن الأمن العسكري

 

واستطراداً، كي تصل تلك اللقاحات إلى فاعليتها الكاملة، يجب تطويرها لتكون آمنة وتوفر وقاية تدوم سنوات عدة، ضد معظم السلالات المحتملة للإنفلونزا. ويجب أن تخفض بشكل ملموس إمكانية اللجوء إلى العلاج في المستشفيات وحالات الوفاة، إضافة إلى الوقاية من العدوى والانتقال. وفي صورتها النموذجية، يجب إنتاج تلك اللقاحات وتطعيم السكان بها قبل ظهور فيروس الجائحة، ويجب أن تكون في متناول اليد بالنسبة إلى البلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل. وما زال الباحثون بعيدين من تكوين مثل تلك اللقاحات، فيما توحي التطورات الجارية في مختبرات البحوث بأن ذلك ليس مستحيلاً. في المقابل، وفي ظل المستوى الحالي من الدعم لعمليات البحث والتطوير، فإن التوصل إلى تلك اللقاحات النوعية قد يستغرق عقداً أو أكثر. ولكن، إذا زاد الدعم الحكومي بشكل وازن، فقد يتقلص ذلك المدى الزمني.

واستكمالاً، سيترتب على تلك الإجراءات الضرورية كلها، كلفة مرتفعة، ولن تؤتي الاستثمارات كلها أكلها مباشرة. في المقابل، قد يترتب على جائحة جديدة حدوث كلف ووفيات تفوق اندلاع حرب جديدة، مع ملاحظة أن الحكومات لا تتهرب من إنفاق كل ما تستطيعه على ما تراه ضرورياً للتوصل إلى أسلحة جديدة متطورة. لا يقل الأمن البيولوجي شأناً عن الأمن العسكري، وتحتاج الولايات المتحدة إلى تقبل فكرة أنها قد تذهب إلى حرب ضد عدو جرثومي قد يكون أخطر بكثير من أي خصم بشري متصور.

الأسلحة التي نملكها

إلى حين ابتكار تلك اللقاحات الشاملة أو شبه الشاملة، سيحتاج صناع السياسة إلى التعامل مع اللقاحات المتوافرة حاضراً ضد الإنفلونزا و"كوفيد-19". إنها خيارات جيدة، لكنها ليست عظيمة بالضرورة. ومثلاً، لقد أفلحت في الحد من الوفيات وحالات المرض التي سببتها جائحتا إنفلونزا "أتش 1 أن 1" في عام 2009، و"كوفيد-19"، لكن الحماية التي تقدمها ضد العدوى جاءت متفاوتة بشدة. وحتى الآن، فإن فاعلية لقاحات "كوفيد-19" حيال تحول الإصابة بالفيروس إلى مرض بأعراض ظاهرة، ودرجة المرض الناجمة عنه، ومدى الحاجة إلى العلاج الاستشفائي، إنما تتحدد بنوعية المتحور الذي ينتشر في كل مرة، ومدى هشاشة المناعة عند الشخص المصاب. وعلى نحو مماثل، فإن فاعلية لقاحات الإنفلونزا حيال تطور الإصابة إلى مرض يقتضي عناية طبية مباشرة، تتدنى إلى أقل من 20 في المئة وتعلو لتلامس 60 في المئة، في كل موجة من الإنفلونزا الموسمية.

وكذلك تفتقد لقاحات "كوفيد-19" والإنفلونزا إلى الديمومة. وقد أظهرت دراسة حديثة أن مراكز "سي دي سي" وجدت أن طعوم "كوفيد-19" أعطت وقاية بمقدار 54 في المئة ضد الحاجة إلى الرعاية الطبية المباشرة، طوال فترة معدلها المتوسط هو 52 يوماً بعد التطعيم. ووفق دراسة أخرى، يفقد اللقاح معظم قوته تقريباً بعد عام من تلقيه. وتدوم الحماية التي يوفرها لقاح الإنفلونزا مدة أقصر، إذ تبدأ بالتواهن بعد قرابة شهر أو اثنين.

وفي ظل تلك المعطيات، توصي السلطات الصحية بشكل عام، بأخذ لقاحات تعزيزية كل سنة في حال الإنفلونزا، وحتى تلقي عدد أكبر من ذلك في حال "كوفيد-19"، مع ملاحظة تغيير المكون الجيني المضاد [في تركيبة اللقاح] كي تتوافق مع طبيعة المتحور الأقرب إلى زمن صنعه. لكن، حينما يتحور الفيروس أو يعيد تشكيل تركيبته، مع ما يرافق ذلك من احتمال كامن لاندلاع جائحة، يغدو من المرجح أن يكون الفيروس المتحور بعيداً من التركيبة الجينية التي يستهدفها اللقاح، مما يجعل الأخير غير قادر على تحقيق الهدف منه. ولعل ذلك يفسر جزئياً، السبب في أن "أتش 1 أن 1" استطاع إطلاق جائحة في عام 2009. وقد حاولت الولايات المتحدة استباق ضربة من "أتش 5 أن 1" عبر تخزين 4.8 مليون جرعة لقاح جرى اختبارها على يد "مكتب الغذاء والدواء" الأميركي ووجد أن لديها إمكانية كي تكون فاعلة ضد "أتش 5 أن 1". وفي المقابل، إذا انطلقت جائحة للمتحور الجديد من فيروس "أتش 5 أن 1"، فإن التغيرات في تركيبة الفيروس قد تجعل اللقاحات المخزنة غير فاعلة كلياً أو إلى حد كبير.

لقاحات كوفيد-19 والإنفلونزا تفتقد الديمومة

 

وحتى لو ثبت أن اللقاحات المخزنة حاضراً تتمتع بفاعلية، فإن عدد جرعاتها غير كاف للسيطرة على جائحة يطلقها فيروس "أتش 5 أن 1". إن الولايات المتحدة وطنٌ لـ333 مليون شخص، يحتاج كل منهم إلى جرعتي لقاح كي يغدو منيعاً، مما يعني أن الـ4.8 مليون جرعة المتوافرة الآن، لا تغطي سوى 0.7 في المئة من السكان. وبالطبع، قد تحاول الحكومة تسريع الإنتاج، لكن اللجوء إلى ذلك لا يخلو من المنزلقات.

وخلال جائحة "أتش 5 أن 1" لعام 2009، أطلقت الدفعة الأولى من اللقاحات في أول أكتوبر، بعد نحو ستة أشهر من الإعلان عن الجائحة. وحينها، لم يتوافر تأمين غير 11.2 مليون جرعة قبل أن يصل عدد الإصابات الجديدة إلى ذروته.

وليست البلدان الأخرى بأحسن تجهيزاً من أميركا. وفي تقرير صدر في 2019، قدرت "منظمة الصحة العالمية"، مع ثلاثة مراكز أكاديمية، أن القدرة الإنتاجية العالمية للقاح الإنفلونزا الموسمية تصل إلى 4.15 مليار جرعة. ويعني ذلك أنه في أفضل الأحوال، سيغدو من المستطاع تقديم اللقاح الكامل إلى ملياري شخص خلال العام الأول من الجائحة، أي ما يساوي ربع سكان العالم.

وقد استندت منظمة الصحة العالمية، "م ص ع"، إلى افتراضات متفائلة إلى حد ما. ومثلاً، في حال حصول جائحة، افترض بحثها وجود أعداد مناسبة من الدجاج المنتج للبيض، لأن معظم لقاحات الإنفلونزا تجري تنميتها بعد حقنها في البيوض المخصبة للدجاج. وفي المقابل، تشكل الطيور المخزن الاحتياطي الطبيعي لكل أنواع سلالات الإنفلونزا، مما يعني أن الفيروس قد يقتل أو يهلك بطرق أخرى، أعداداً كبيرة من الدجاج. وحتى لو لم يحدث ذلك، قد تندلع جائحة "أتش 5 أن 1" حينما يكون منتجو اللقاحات قد دخلوا إلى قلب دورة إنتاج اللقاح الموسمي، فيغدو من الصعب عليهم تغيير ذلك والانتقال بسرعة إلى إنتاج لقاح جديد [يتناسب مع المتحور الذي قد يشعل فتيل تلك الجائحة]. وكذلك قد لا ينمو المتحور المسبب للجائحة في البيوض والأنسجة بالطريقة التي تحصل مع الإنفلونزا الموسمية.

وفي عام 2019، تعرفت دراسة أجرتها "م ص ع" إلى معوقات أخرى محتملة في عملية إنتاج اللقاحات أثناء جائحة. وقد لا يمتلك المصنعون عدداً كافياً من المنشآت التي تنهض بمهمة وضع اللقاح في عبوات أو حقن مجهزة. وكذلك قد لا يتوفر إمداد كاف وملائم من تلك العبوات والحقن، أو من المواد الكيماوية المساعدة من الأنواع المستخدمة في صنع اللقاحات. وقد تشكل عمليات الشحن وإعطاء جرعات اللقاح للناس، تحديات وازنة في عدد من البلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل. وكذلك قد لا يتوفر للمنتجين ما يكفي من القوة العاملة البشرية المتمتعة بالحماية، وهي ضرورة لضمان استمرارية الإنتاج. وكذلك قد يفتقر المنتجون إلى ما يكفي من الأدوية المعززة للاستجابة المناعية [لدى الملقحين]. ومن دونها، سيتضاعف عدد الجينات المطلوبة لصناعة كل جرعة من اللقاح.

النموذج العسكري

يدرك خبراء الصحة العامة والمسؤولون الحكوميون عن الصحة، الخطر الذي يمثله حدوث جائحة أخرى، وقد أطلقوا مجموعة من المبادرات لتخفيف وطأتها. ووضع "التحالف من أجل ابتكارات الجاهزية للأوبئة" الذي يركز على تطوير لقاحات وعلاجات للأمراض المعدية، خطة مفصلة للتوصل إلى "لقاحات تهزم الجائحات" تظهر خلال 100 يوم من إعلان "م ص ع" عنها. ووصف ذلك التحالف خمسة مجالات [مرافق استعداد] من الابتكارات المطلوبة من أجل تحقيق ذلك الهدف، تشمل إرساء مكتبة عن نماذج أساسية للقاحات تعمل ضد عوامل ممرضة تنتمي إلى مروحة من عائلات فيروسية، وتجهيز شبكة للاختبارات السريرية البشرية [على لقاحات تبتكر ضمن تلك المدة]، وتسريع عمليات التعرف إلى مؤشرات عن الاستجابة المناعية [ضد العنصر الممرض الذي قد يحدث جائحة]، وإرساء قدرة عالمية لتصنيع اللقاحات، وتعزيز أنظمة مراقبة الأمراض وإصدار تحذيرات عالمية عنها. وإذا تحققت تلك الابتكارات، فسيكون من شأنها تحسين جاهزية العالم لمواجهة الجائحة بشكل كبير. في المقابل، إذا استمر المستوى الحاضر من التمويل، فستكون أهداف مشروع الـ100 يوم فائقة الطموح ويرجح عدم تحقيقها خلال العقد المقبل، سواء بالنسبة إلى الإنفلونزا أو كورونا. وبشكل فعلي، ركز خبراء الصحة العامة والحكومات على تقصير الوقت بين بداية الجائحة وتوفير الجرعات الأولى من اللقاح، باعتبار أن ذلك مساو في الأهمية للوقت اللازم لتلقيح الجميع.

على رغم ذلك، اتخذت بعض الخطوات المهمة منذ ظهور تقرير عام 2019. إذ إن التحسينات التي أدخلت على تقنية "أم آر أن أي" [الحمض النووي الوراثي الريبوزي المرسال mRNA، الذي يؤدي الدور المحوري في تنظيم مناعة موجهة ضد تركيبة معينة في جرثوم يغزو الجسم] التي استعملت في معظم اللقاحات الناجعة ضد "كوفيد-19"، من شأنها تسريع إنتاج لقاح    ضد الإنفلونزا. وقد وصلت إلى المرحلة الثالثة من الاختبارات [= التجارب الإكلينيكية المباشرة على البشر]، ثلاثة مشاريع لتحديد مدى فاعلية لقاحات ضد الإنفلونزا. لكن، لم يصل أي لقاح إلى مرحلة الجاهزية للعمل، وليس من الواضح متى قد يحصل ذلك.

وبالاستجابة لكل أوجه القصور هذه، وبداية من عام 2019، يتولى "مركز سياسة وبحوث وسياسة الأمراض الوبائية" التابع لـ"جامعة مينوسوتا"، الذي يديره أحد كتاب هذا المقال (أوسترهولم)، قيادة جهد يرمي إلى تنسيق عمليات البحوث والتطوير عن لقاحات موسمية وفصلية للإنفلونزا. وبالاستناد إلى عمل 147 متخصصاً من حقول علمية متعددة، أطلق ذلك المركز "خريطة طريق للبحوث والتطوير عن لقاحات الإنفلونزا" هدفها تطوير المعرفة المتعلقة بالعلوم والسياسات اللازمة لإنتاج لقاحات أفضل، وتعزيز مسار التقدم فيها. حتى الآن، تعرفت تلك المبادرة إلى أكثر من 420 مشروعاً تتعامل على أحد تلك الأهداف في الأقل، ويفوق مجموع قيمتها الـ1.4 مليار دولار، مع تولي الوكالات الحكومية الأميركية تمويل نحو 85 في المئة من الدراسات البحثية. وإنها بداية نحو تطوير لقاحات أشد فاعلية، لكنها مجرد بداية.

وفي الآونة الأخيرة، قدمت "هيئة البحوث والتطوير المتقدمين للبيولوجيا الطبية"، وهي هيئة تابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية، 176 مليون دولار إلى شركة "موديرنا" Moderna كي تطور لقاحاً ضد جائحة إنفلونزا يستند إلى تقنية "الحمض النووي المرسال"، ويستهدف سلالات متنوعة من فيروس الإنفلونزا. ويجب أن يفضي هذا الجهد إلى تحسين سرعة توفير لقاح في حال انطلاق جائحة إنفلونزا، لكن من غير المتوقع أن يحسن فاعلية الجيل الحالي من لقاحات "الحمض النووي المرسال".

الأمل ليس استراتيجية

وأخيراً، أطلقت تلك الهيئة نفسها مبادرة لتطوير لقاحات وأدوية محسنة ضد فيروس كورونا، حملت اسم "بروجكت نكستجن" Project NextGen. وفيما يسود أمل بأن يفضي ذلك الجهد إلى نتائج أحسن وأفضل، إلا أن الاستثمار الحكومي بـ5 مليارات دولار، وهو جزء ضئيل مما تخصصه الولايات المتحدة لمشترياتها في أنظمة التسلح، لا يشكل سوى الحد الأدنى من المال المطلوب لتمويل البحوث والتطوير بغية تحقيق ذلك الهدف المهم. وفي الآفاق التشريعية، لا شيء في هذه الآونة يوحي بأن "بروجكت نكستجن" سيستمر في تلقي الدعم الحكومي الحيوي.

ومع أخذ أوجه التقصير كلها، من المرجح أن ينقضي وقت طويل قبل أن يتوصل العلماء إلى صنع لقاحات تستطيع تغيير قواعد اللعبة. وخلال ذلك الوقت، يجب على الحكومات أن تدخل زيادة دراماتيكية على قدراتها في إنتاج لقاحات على المستوى الذي تتطلبه مواجهة جائحة، على غرار الأنواع الموجودة بالفعل في العالم. ويعني ذلك أنه يجب على البلدان ذات المداخيل المرتفعة أن تدعم قدراتها الخاصة في التصنيع الصيدلاني، وأن تساعد البلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل على إنشاء منشآت مماثلة، مع تدريب ملائم للعمال اللازمين لها.

وللوهلة الأولى، تبدو الكلف مرتفعة إلى حد يمنع الإقدام على بذلها وصرفها. لكن، يجب التفكير في ما هو موضوع على المحك. وإذا تمكن "أتش 5 أن 1"، أو أي فيروس ينتقل عبر الهواء، من البدء في الانتشار بين البشر مع إطلاق جائحة بمعدل وفيات تزيد بمقدار ثلاثة إلى خمسة في المئة عما سجله "كوفيد"، فسيذهب العالم إلى حرب ضد عدو جرثومي مرعب. وستفوق الخسائر في الأرواح كل ما في ذاكرة الإنسانية عن الجائحات والصراعات الحربية منذ الحرب العالمية الثانية. وحينما تؤخذ الأمور من هذا المنظار، يغدو من المنطقي، بل الأساسي، تبني النموذج العسكري في التخطيط والمشتريات والتطوير. نعم، قد يحيق الإخفاق ببعض من مشاريع الجاهزية للجائحة الممولة من الحكومات. وقد لا يوضع بعضها الآخر قيد الاستعمال أبداً. في المقابل، إن الحكومات وجمهور المصوتين لوصولها إلى السلطة، قد تقبلوا منذ وقت طويل واقع أن حاملات الطائرات والطائرات المقاتلة وأنظمة التسليح المختلفة الأخرى، تأتي مع كلف هائلة وتستغرق سنوات من التمويل والتصميم والبناء والاختبار ووضعها قيد الخدمة. وكذلك يقبلون أن بعض تلك الأسلحة تقبع في المخازن إلى أن تغدو عتيقة ومتقادمة. وعلى رغم ذلك، تنفق الأمم على تلك الأسلحة لأنه في الحرب، تصبح تلك الأسلحة لازمة بشكل لا يمكن التملص منه. بالتالي، بات من الملح على الحكومات أن تشرع في التفكير بطريقة مماثلة، في شأن الجاهزية للجائحات.

بالطبع، ما زال محتملاً ألا تقع أي جائحة على الإطلاق، أو ألا تحدث على مدى سنوات طويلة. لكن، لا يصلح الأمل لأن يكون استراتيجية. وثمة حاجة إلى أن تبدأ الولايات المتحدة وبقية الدول الغنية والمتوسطة الدخل، في تخصيص الموارد الضرورية للشروع فوراً في تطوير لقاحات وعلاجات وغيرها من متطلبات الإجراءات اللازمة في مواجهة الجائحات. ولن تتفوق الإنسانية على فيروس يسبب جائحة، من دون أن تتبنى هذه الالتزامات.

* مايكل أوسترهولم، أستاذ كرسي زائر، ومدير "مركز السياسة والبحوث عن الأمراض الوبائية" في جامعة مينيسوتا

** مارك أولشاكر، كاتب وصانع أفلام وثائقية.

وضع المؤلفان معاً كتاباً يظهر قريباً "الشيء الكبير، كيف نعد العدة لمواجهة جائحات تغير العالم"

مترجم من فورين أفيرز، أغسطس (آب) 2024

المزيد من آراء