Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما أثار كتاب "لماذا أنا ملحد؟" سجالا راقيا في قاهرة الثلاثينيات

فيلم "الملحد" ما زال معلقاً بين الرقابة المجتمعية واللعبة السياسية واحتمال تدخل الأزهر

رسمة بريشة الفنان علاء رستم (اندبندنت عربية)

ملخص

أعاد منع فيلم "الملحد" من العرض في الصالات المصرية، بحجة تعرضه لقضية دينية شائكة، إلى الذاكرة القضية التي أثارها العام 1937 الناقد إسماعيل أدهم عندما أصدر كتابه "لماذا أنا ملحد؟"، وكيف خلق سجالاً ثقافياً وفكرياً راقياً، ورد عليه أحمد زكي أبو شادي بكتاب "لماذا أنا مؤمن؟".

تضيف الأزمة التي يشهدها الفيلم السينمائي "الملحد" صفحة جديدة إلى ملف أزمات حرية التعبير في مصر، وتهدر إرثاً تاريخياً تم تدوينه على امتداد تاريخ الليبرالية المصرية، يشير إلى رحابة المناخ العام واستعداده لإدارة نقاش موسع حول قضايا مجتمعية بالغة الحساسية، تتعلق بالدين والتدين. وهذا بعيداً من المخاوف التي تثيرها الرقابة المجتمعية التي أصبحت تمثل اليوم شبحاً رقابياً جديداً، صار أقوى تأثيراً من أجهزة الرقابة الرسمية. وساعدت مواقع التواصل الاجتماعي من ناحية أخرى، على بث دعاوى تحريضية تقوم على استعمال فعالية الحشد التي تتيحها الوسائط، أمام اللجان الإلكترونية لإثارة الخوف في نفوس المتابعين.

يحفظ تاريخ الفكر المصري تفاصيل معركة دارت في العام 1937 حول الإلحاد وهي القضية المحورية لفيلم "الملحد" الذي تم تأجيل عرضه في ذلك العام كتب الناقد إسماعيل أدهم رسالة بعنوان "لماذا أنا ملحد؟" جاءت رداً فلسفياً على رسالة للشاعر أحمد زكي أبو شادي عنوانها "عقيدة الألوهية"، بغرض إحياء تقاليد المناظرات والمساجلات العلمية.

وفي رسالته التي تطورت لاحقاً إلى كتاب أعلن أدهم أنه سعيد مطمئن لهذا الإلحاد، تماماً كما يشعر المؤمن بالله بالسعادة والسكينة. ثم قام أحمد زكي أبو شادي بالرد عليه في رسالة أسماها "لماذا أنا مؤمن؟"، ورد عليه أيضاً الكاتب محمد فريد وجدي الذي كان رئيساً لتحرير مجلة "الأزهر" في مقالة بعنوان "لماذا هو ملحد؟"، حاول أن يفند فيها الأفكار المطروحة في رسالة أدهم، مؤكداً أن النزعة الإلحادية التي تبناها الدكتور إسماعيل أدهم ليست بالأمر الجديد على الفكر الإسلامي، ولا ينبغي على المسلمين أن يضيقوا بها، فقد واجه الإسلام منذ ظهوره، الزنادقة والملاحدة وانتصر عليهم بالحجة والبرهان".

ويفسر تجاهل هذا الإرث النهضوي المعركة الدائرة حول فيلم "الملحد"، إذ لا يعرف أحد الجهة التي تقف وراء قرار تأجيل عرض الفيلم الذي كتبه الصحافي والروائي المصري إبراهيم عيسى، وأثار موجة من الاعتراض صاحبت الإعلان عنه، عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وكان من المقرر عرضه يوم 11 أغسطس (آب) الماضي، ولكن قبل 72 ساعة فقط، من العرض أعلن أحمد السبكى، منتج الفيلم تأجيل توزيعه في دور العرض الفيلم الذي أخرجه محمد جمال العدل يتناول قضية التطرف الديني والإلحاد، التي تصيب الشباب وتنتشر بينهم، فضلاً عن تأثير انتشار مثل هذه الظواهر على الأفراد والمجتمع.

الرقابة المجتمعية

وعلى رغم إجازة الفيلم رقابياً وحصوله على الموافقة والتصريح بالعرض من جهة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، فإن قرار تأجيل عرضه يكشف عن أخطار "الرقابة المجتمعية"، ويكشف ضيق الأفق ولعبة المزايدة التي تتنافس فيها بعض أجهزة الدولة مع قوى اجتماعية محافظة، غير قادرة على تحمل فيلم يستعرض قضية الإلحاد، وهي قضية تناولت السينما المصرية من قبل عشرات المرات.

يؤكد رئيس جهاز الرقابة في مصر خالد عبدالجليل في تصريحات صحافية أنّ "لا توجد مشكلة رقابية تخص الفيلم على الإطلاق بدليل حصوله على تصريح العرض بتصنيف عمري ما فوق 16، وأن تأجيل عرضه لا يمت بصلة للرقابة، من قريب أو بعيد". وقد جاء نص تقرير الرقابة وفق الآتي: "الفيلم لا يشوه الدين الإسلامي قط، بل يكشف الحجاب عن بعض الذين يفسرون الإسلام على أهوائهم، كما أن المؤلف شخص ملحد قام بالانتحار بسبب الإلحاد، وهو شيء يثبت أنه لا يدعو إلى الإلحاد".

 إلا أن الناقد  السينمائي طارق الشناوي علق على تقرير الرقابة عبر صفحته الخاصة على موقع "فيسبوك"، قائلا: "الرقابة في تقرير رسمي عن فيلم "الملحد"، تشيد بسيناريو إبراهيم عيسى، وتؤكد أنه يكشف المتاجرين بالدين، ويحض على الإيمان بالله". وأكد  الشناوي لـ"اندبندنت عربية" أن ما يشهده فيلم "الملحد" حدث متكرر، فقد عانت بعض الأفلام المصرية من مصير مماثل، بل تم إيقاف عرض بعض الأفلام بعد أيام من بدء عرضها بالفعل. وضرب مثالاً بفيلم "خمسة باب"، بطولة نادية الجندي وعادل إمام، وفيلم "درب الهوى" للممثلة الراحلة مديحة كامل في عام 1983، وتم إيقاف ترخيص عرض الفيلم السينمائي "حلاوة روح" للنجمة اللبنانية هيفاء وهبي منتصف عام 2014. ويوضح الناقد المعروف أن السلطة القانونية التي تمتلكها الرقابة تمتد لما بعد التصريح بالعرض، وبالتالي يجوز لها وقف عرض أي مصنف فني على رغم إجازته مسبقاً.

يرى الشناوي أن أزمة فيلم "الملحد" تتداخل فيها أطراف متعددة، لكنها تكشف المأزق الذي تعانيه أجهزة الدولة. فقد أجازت الفيلم في كافة مراحله وهذا يعني موافقتها على محتواه، لكنها تراجعت تحت ضغط بعض الأصوات على مواقع التواصل الاجتماعي أعلنت رفضها للفيلم، الأمر الذي جعل أجهزة الدولة تراجع موقفها من الفيلم تحاشياً لأية أزمات متوقعة. ويلمح الشناوي إلى أن منتج الفيلم أحمد السبكي تلقى توجيهات شفهية بتأجيل عرض الفيلم، وطلبت منه بعض الجهات إضافة مشاهد إلى الفيلم لتضمن تمريره.

وعلى رغم أن السبكي يجوز له عرض الفيلم استناداً إلى تصريح الرقابة بالعرض، إلا أنه يتجنب الإطاحة بالفيلم والإضرار به إنتاجياً، لذلك تجنب الدخول في صدام معلن، وكشف في تصريحات عن تأجيل عرضه في دور السينما، لمدة أسبوعين؛ بسبب مشكلات في عملية المونتاج.

المؤلف المشبوه

 يعتقد البعض أن اعتراضات جمهور التواصل الاجتماعي التي أدت إلى دخول الفيلم في هذه الدوامة، كانت تستهدف بالأساس، مؤلف الفيلم أكثر من موضوعه. فمؤلفه الصحافي إبراهيم عيسى صاحب سجل حافل بالمعارك مع القوى التقليدية المحافظة منذ بدايات عمله الصحافي مروراً ببرامجه التلفزيونية وأعماله الروائية، التي عالجت قضايا تمس الشأن الديني من الناحية التاريخية ومنها "رحلة الدم" ورواية "مولانا" التي دارت حول كواليس برامج الدعاة على شاشة الفضائيات. وكانت مشاركته في تأسيس منظمة "تكوين" قبل ثلاثة أشهر، هي معركته الأحدث في هذا السياق، بالتالي صنفته تلك القوى التقليدية في زاوية "العداء للدين"، بحسب مزاعم بعض المعلقين على مواقع التواصل الاجتماعي التي ظهرت فيها دعوات لمقاطعة "الملحد" بزعم أنه يهدم الثوابت الدينية والأخلاقية. واكتفى مؤلف الفيلم إبراهيم عيسى بأن كتب عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "إكس" (تويتر سابقاً): "من خاف على الله هلك، ومن خاف من الله نجا"، وهي مقولة منسوبة لعلي بن أبي طالب وقال "كنت أتمنى أن أضعها في مقدمة فيلم الملحد".

الناقد السينمائي محمود عبد الشكور يقول: "من المؤسف حقاً أن نجد أنفسنا مطالبين بالدفاع عن فيلم سينمائي يدور حول قضية التطرف الديني، وأن السينما المصرية تمتلك مئات الأعمال التي تطرقت لهذه المسألة من دون مشكلات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف: "من غير المتصور إجازة فيلم ينطوي على إساءة للدين أو تحريض على الإلحاد". ويعلن عبد الشكور رفضه قرار تأجيل عرض الفيلم استجابة لأصوات المعارضين على مواقع التواصل الاجتماعي.ويخشى أن تؤدي أزمة الفيلم إلى استطلاع رأي الأزهر في محتوى الفيلم ومادته الدرامية، التزاماً بفتوى قانونية صدرت عن الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع في مجلس الدولة عام 1993، انتهت إلى أن الأزهر وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص، في المصنفات الفنية. وقد واجهت تلك الفتوى رفضاً لدى المؤسسات الحقوقية آنذاك ولم يتم الالتزام بتطبيقها في الحقب السابقة.

رقابة الأشباح

"الرقابة المجتمعية دائماً أقوى من الرقابة السياسية" هذا ما يؤكده أستاذ علم الاجتماع في جامعة القاهرة والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة سعيد المصري، موضحاً أن الدولة تدرك أن جانباً من شرعيتها يرتبط بمدى قدرتها على الظهور كجهة حامية للأعراف والتقاليد وحماية الدين، فضلاً عن قدرتها في إدارة مختلف الصراعات بين القوى والتيارات الأيديولوجية.

ويكشف الحائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب أن الدولة ليست على الحياد في أي صراع، وهي أيضاً ليست على مسافة واحدة من مختلف القوى كما يفترض في الدول المدنية. لكنها تنتظر دائماً لتلعب مع الطرف الأقوى بدلاً من تنظيم المجال العام. ويضيف: "عندما بدأت المعركة حول فيلم "الملحد" اختارت الدولة تجنب الجدل لأنها لا ترغب في التضحية بجزء من شرعيتها كمحتكرة للمجال الديني. فأي "ترند" يمثل خطراً لدى الحكومة، ومن ثم تجنبت بقرار تأجيل العرض، تحويل قضية فيلم "الملحد" إلى قضية رأي عام.

يؤكد المصري أن الخبرة التاريخية لقضايا حرية التعبير في مصر تكشف أن القانون أكثر رحابة من قوى الرقابة المجتمعية لأنه يتيح لك التظلم والمراجعة في حين لا تمنح الرقابة المجتمعية هذا الحق لأن المجتمع بطبيعته محافظ للغاية وفي أحيان كثيرة منغلق وضد حرية الرأي واحترام صور الاختلاف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة