ملخص
منذ بدء المعارك بين "حزب الله" وإسرائيل على خلفية اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، تحول طريق دمشق - بيروت - منطقة المصنع، وهي الطريق الدولية التي تربط بين الأراضي السورية واللبنانية، إلى هدف للقصف والغارات الإسرائيلية.
ارتفعت حدة الغارات الإسرائيلية التي استهدفت منطقة البقاع شرقي لبنان، في الفترة الماضية، وذلك بعد معادلات كان قد أرساها الجيش الإسرائيلي منذ مارس (آذار) الماضي، حين أعلن على لسان المتحدث باسمه دانيال هاغاري، أن "عمق لبنان يتحول إلى منطقة حرب، و’حزب الله‘ بدأ يخاطر". وغالباً ما تعلن إسرائيل عن استهدافها مستودعات ذخائر وأسلحة تابعة للحزب في منطقة البقاع في العمق اللبناني، أو مجمعات يستخدمها نظام الدفاع الجوي التابع لـ"حزب الله"، ووفقاً لبياناتها "أنها تشكل تهديداً لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي"، وأن "حزب الله يعمل من داخل البنية التحتية المدنية ويستغل السكان المدنيين اللبنانيين، وسيواصل جيش الدفاع الإسرائيلي العمل ضد المنظمات الإرهابية دفاعاً عن دولة إسرائيل وقواتها".
كانت مصادر "الحزب" قد أكدت في الـ19 من أغسطس (آب) الجاري استهداف مخازن أسلحة تابعة له، وذلك بعد غارة استهدفت مخازن للأسلحة في قلب البقاع، ووفقاً للإعلام المقرب منه أن "هناك عديداً من المخازن في منطقة البقاع التي يتم تمويهها على صورة منشآت اقتصادية، وما استهدف هو مخزن صواريخ غير دقيقة ولا يمكن اعتباره من الأصول الاستراتيجية للحزب. وأنه مع بداية الحرب طبق الحزب خطة لحماية ترسانته الصاروخية الدقيقة. ذلك أن فترة الهدوء التي أعقبت حرب يوليو (تموز) 2006 جعلت الحزب لا يرى داعياً إلى تحصين مخازنه، إلا أنه استدرك الأمر مع انطلاقة جبهة المساندة فسارع إلى حماية صواريخه الدقيقة، لذا بقيت المخازن للصواريخ الأخرى على حالها".
منذ بدء المعارك بين "حزب الله" وإسرائيل على خلفية اندلاع حرب غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تحول طريق دمشق - بيروت - منطقة المصنع، وهي الطريق الدولية التي تربط بين الأراضي السورية واللبنانية، إلى هدف للقصف والغارات الإسرائيلية، وسجلت عمليات اغتيال عديدة طاولت إلى جانب قادة من "الحزب"، قياديين يتبعون لـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجماعة الإسلامية".
ووفقاً لمراقبين يقول عسكريون إن إسرائيل مستمرة بملاحقة أبرز القيادات الفلسطينية في لبنان، وهي ستقوم باغتيالها كلما سنحت الفرصة لها بذلك، وخصوصاً تلك التي خططت لهجوم "طوفان الأقصى"، وإن تل أبيب باقية على استراتيجية استهدافاتها لكل من يشكل خطراً عليها، أكان من "حزب الله" أو من "حماس"، أو من غيرها من التنظيمات التي تشارك في القتال ضدها.
فما هي أهمية البقاع الاستراتيجية؟
تشكل طريق بيروت - دمشق معبراً أساساً لقياديي "حزب الله" وخط إمداد ينقل عبره شاحنات الأسلحة والذخائر، وكانت نقطة المصنع الحدودية قد تحولت، من بعد خروج القوات السورية، وبعد اندلاع الحرب السورية، مركزاً لعمليات تهريب البضائع والمحروقات، كما الدولارات والبشر. وتأتي الغارات الإسرائيلية على منطقة البقاع ضمن إطار استراتيجيات إسرائيل العسكرية والأمنية، إذ تسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف رئيسة عدة، وذلك نظراً إلى الأهمية الاستراتيجية لسهل البقاع، منها إضعاف القدرة العسكرية لـ"حزب الله" من خلال تدمير هذه المراكز ومنع نقل أو تخزين الأسلحة. ويعد السهل منطقة حيوية لوجود قواعد ومراكز لوجيستية تابعة للحزب الذي يعد هذه المنطقة مركزاً للتدريب والتخزين، سواء للأسلحة التقليدية أو الصواريخ، ذلك أن سهل البقاع يعد ممراً برياً حيوياً لنقل الأسلحة والمعدات من سوريا إلى لبنان، من هنا تستهدف الغارات الطرق والمركبات لمنع وصول الإمدادات إلى هذه الجماعة من إيران عبر سوريا.
ووفقاً للحزب نفسه فإنه يستخدم سهل البقاع كموقع لإطلاق الصواريخ ضد أهداف إسرائيلية، من هنا تستهدف إسرائيل المواقع التي يشتبه في أنها تستخدم لإطلاق الصواريخ أو لتخزينها، وبحسب قولها فإن هناك وجوداً إيرانياً في منطقة البقاع سواء من خلال مستشارين أو من خلال شحنات أسلحة ترسل عبر سوريا.
الأهمية العسكرية لسهل البقاع
عبر التاريخ، شهد سهل البقاع عديداً من الحضارات التي تعاقبت على السيطرة عليه مثل الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والعرب والعثمانيين، وتركت كل حضارة بصمتها على السهل من خلال البنى التحتية والزراعة والثقافة. ويعد السهل من الناحية العسكرية منطقة استراتيجية نظراً إلى موقعه بين الجبال، مما يجعله موقعاً ممتازاً لإقامة القواعد العسكرية والمراكز اللوجيستية. وتاريخياً، كانت هذه المنطقة ساحة معارك مهمة، بخاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989) حين استخدمه عديد من الجماعات المسلحة كمراكز انطلاق وقواعد لعملياتها. كذلك يعد السهل منطقة حشد مهمة للقوى العسكرية اللبنانية وحلفائها، نظراً إلى قربه من الحدود السورية وسهولة الوصول إلى مختلف المناطق اللبنانية. ونظراً إلى موقعه وأهميته الاقتصادية والعسكرية، لعب ويلعب سهل البقاع دوراً سياسياً كبيراً في لبنان. وكانت هذه المنطقة مراراً وتكراراً محور صراع بين مختلف القوى السياسية والعسكرية، سواء داخل لبنان أو مع الجيران، بخاصة مع إسرائيل وسوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دور السهل عبر التاريخ
يعد سهل البقاع إحدى أهم المناطق الاستراتيجية في لبنان، ولعب دوراً بارزاً عبر التاريخ نتيجة لموقعه الجغرافي المميز وخصوبة أراضيه وتنوع موارده. ويقع السهل بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، ويمتد على طول نحو 145 كيلومتراً من الشمال إلى الجنوب، بعرض يراوح ما بين ثمانية و12 كيلومتراً. ويعد ممراً حيوياً يربط بين شمال لبنان وجنوبه، وكذلك بين الساحل اللبناني والداخل السوري، يبدأ في الشمال الشرقي عريضاً عند سهل حمص وينتهي في الجنوب الغربي ضيقاً عند عتبة مرجعيون. وجذبت بيئته الخصبة الإنسان القديم منذ العصور الحجرية، وشكلت الطرقات البرية عبره محوراً للتجارة ونقل البضائع، وخلال العصور القديمة، كان السهل جزءاً من الطرق التجارية التي تربط بين الشرق الأوسط وأوروبا، كطريق الحرير. ويشتهر بزراعة مجموعة متنوعة من المحاصيل مثل القمح والشعير والخضراوات والفاكهة، إضافة إلى زراعة التبغ والعنب لإنتاج النبيذ. وهذا التنوع في الإنتاج الزراعي جعل من السهل مصدراً مهماً لغذاء للبنان والمنطقة المجاورة، وأيضاً قاعدة اقتصادية رئيسة للسكان المحليين. وأطلق على السهل في زمن الإمبراطورية الرومانية وصف "إهراءات روما" بسبب وفرة غلاله وجودتها، وكان ينتج كميات كبيرة من الحبوب والمحاصيل التي كانت تستخدم لإطعام سكان الإمبراطورية الرومانية، وكان ينظر إليه على أنه جزء حيوي من شبكة الإمداد الغذائي للإمبراطورية.
وإضافة إلى الزراعة، يعد سهل البقاع مركزاً صناعياً مهماً، إذ يضم عدداً من المصانع والمعامل التي تستفيد من سهولة النقل ووفرة المياه والطاقة. كذلك، يعد منطقة سياحية جاذبة بسبب المواقع الأثرية، ووجدت فيه آثار تعود إلى الحضارات الفينيقية والرومانية، مثل بعلبك، التي تحوي معابد رومانية كبيرة تعود لأكثر من 2000 عام، مثل معبد "جوبيتير" ومعبد "باخوس"، وهي من أكبر وأهم المدن الأثرية في العالم. وقلعة عنجر التاريخية التي شيدت في العهد الأموي، وتعد الموقع اللبناني الوحيد من العصر الأموي، ومن أكبر الأماكن الأموية كاملة التصميم المتبقية في الشرق، وقد أدرجت من ضمن مواقع التراث العالمي عام 1984 من قبل منظمة "اليونيسكو".
"الدولة" لا تعلم بوجود إهراءات في رياق البقاعية
وعلى رغم ذلك تغيب الاستراتيجيات الزراعية والاقتصادية اللازمة من قبل الدولة اللبنانية في منطقة البقاع، حتى إن بعض المسؤولين كانوا لا يعلمون بوجود الإهراءات في البقاع حتى تاريخ أبريل (نيسان) 2022، عندما كلفت الحكومة اللبنانية مجلس الإنماء والإعمار، الإشراف على عملية هدم إهراءات القمح التي تضررت جراء انفجار مرفأ بيروت، الرابع من أغسطس 2020. وتضم مدينة رياق منشأة تتسع لكمية توازي 400 ألف طن من القمح، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الكمية التي يمكن تخزينها في مبنى الإهراءات في المرفأ المقدرة بـ120 ألف طن. وبدلاً من أن تعمل الدولة اللبنانية على إعادة تأهيل منشأة البقاع، عملت على تأمين مخازن بديلة بكلفة أكبر. وكان رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لـ"مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية" في تل عمارة رياق، ميشال إفرام، أكد في ذلك الوقت أن "الإهراءات موجودة منذ عام 2012، يوم كان الوزير حسين الحاج حسن وزيراً للزراعة، وليست وليدة اليوم"، مشيراً إلى أنه "تم بناء مشروع لإنتاج بذار القمح وتوسيع الإنتاج والشعير وتخزينه، وتوصلنا إلى إنتاج 8 آلاف طن من بذار القمح الطري للخبز، والقاسي للمعكرونة والبرغل، وتقريباً 2000 طن من الشعير. وفي العام نفسه، شيدنا الإهراءات"، وتابع إفرام "ذكرنا مرات عديدة على وسائل الإعلام كلها ووسائل التواصل الاجتماعي أن لدينا مستودعات لتخزين القمح أو أي مواد غذائية نضعها بتصرف الدولة اللبنانية مجاناً، بخاصة بعد انفجار مرفأ بيروت ومع وصول المساعدات التي لم تتوفر لها الأمكنة، وضعت في المدينة الرياضية (بيروت) وأتلفت، حينها أصدرنا بياناً جرى توزيعه على كل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أن هذه المستودعات موجودة".
وأنشئت إهراءات رياق عام 2012 بإشراف ميشال إفرام وبالتعاون مع "إيكاردا" (المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة)، وعددها ثمانية مستودعات نفذت وفق مواصفات عالمية صالحة للتخزين وافتتحت عام 2016 برعاية وزير الزراعة في تلك الفترة حسين الحاج حسن. وسبق لإفرام أن ناشد مراراً وتكراراً بدعم سياسة زراعة القمح التي كانت تنتهجها المصلحة والقادرة على إنتاج 200 ألف طن من القمح وشرائه من المزارعين ودعمهم بدلاً من شراء القمح من الخارج واستنزاف مزيد من العملة الصعبة، لكن نداءاته لم تلق آذاناً صاغية. علماً أن مصلحة الأبحاث العلمية تنتج بذار قمح مؤصل طري صالح لصناعة الخبز ولديها إمكانية لتوفير ما يصلح لإنتاج 200 ألف طن من القمح في حال دعمت رسمياً هذه الزراعة. ولا بد من التذكير أنه يوجد في رياق مطار يمكن أن يشكل بوابة رئيسة للتصدير في حال تشغيله.
النشاط الاقتصادي الرئيس
وتبلغ مساحة سهل البقاع 4280 كيلومتراً مربعاً، ووفقاً لمؤسسة "إيدال" (المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان)، يعتمد اقتصاد المنطقة إلى حد كبير على الإنتاج الزراعي، وهي مخصصة بنسبة 31 في المئة لزراعة العنب، تليها الفاكهة ذات النواة والزيتون، وتوجد في البقاع 323 شركة صناعية وهي تمثل ثمانية في المئة من مجموع الشركات الصناعية في لبنان، وتعمل هذه الشركات بنسبة 43.02 في المئة في قطاع الصناعات الغذائية، ويتركز النشاط الصناعي في زحلة التي تضم 278 شركة صناعية، ووفرت المساحات الزراعية الكبيرة العدد الإجمالي لشركات الصناعات الغذائية، إذ يضم البقاع 30 في المئة من العدد في لبنان، وهي ثاني أعلى نسبة بعد محافظة جبل لبنان. وتشمل منتجات الألبان أكثر من 75 في المئة من الأبقار في لبنان و45 في المئة من الماعز و35 في المئة من الخراف، ليصل إنتاج الحليب إلى 188 طناً يومياً، وثمة نحو 150 مصنعاً للألبان في هذه المحافظة، وهي بمعظمها صغيرة الحجم وتعتمد على الطريقة التقليدية في الإنتاج.
كما يؤدي البقاع دوراً رئيساً في تطوير إنتاج النبيذ بفضل الخصائص الجغرافية والمناخية والديموغرافية والاقتصادية التي يتميز بها. ويشمل سهل البقاع 50 في المئة من مصانع النبيذ اللبنانية، ويشكل إنتاج زجاجات النبيذ بسعة 75 سنتيليتراً نسبة 74 في المئة من إجمال إنتاج النبيذ اللبناني، أي ما يساوي 10 ملايين و500 ألف زجاجة في العام، وقد نجحت مصانع نبيذ عدة في إنشاء تكامل عمودي مع الكروم وأقبية النبيذ وشركات التوزيع سواء محلياً أو مع الخارج.