ملخص
احتاج الكاتب الألماني برتولد بريخت إلى المنفى، هارباً من هتلر وحكمه النازي، منذ ما قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسنوات، حتى يتمكن من أن يقول بوضوح وعلانية ما كان يضمره ولا يجرؤ على الإفصاح عنه
لعل من السمات الأساسية في المنظومة الفكرية والسياسية بل حتى الإبداعية التي ترافق حياة المبدعين الكبار هي انقسام الجرأة الفكرية التي تقسم أعمالهم إلى قسمين رئيسين، أكثرهما خطورة وأهمية وربما صدقاً بالتالي هو ذاك الذي غالباً ما ينتجه المبدع وهو في منفاه أو في مخبأ من سلطات بلاده أو حتى بتوقيع مستعار، في أزمنة يشتد فيها قمع تلك السلطات للمبدعين. بالتالي إذا كان الكاتب الألماني برتولد بريخت قد احتاج إلى المنفى، هارباً من هتلر وحكمه النازي، منذ ما قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بأعوام، حتى يتمكن من أن يقول بوضوح وعلانية ما كان يضمره ولا يجرؤ على الإفصاح عنه، في الأعمال المسرحية الكثيرة التي كان كتبها في أزمان ما قبل المنفى، فليس لأن رؤيته لم تكن واضحة أول الأمر، ثم اتضحت في الخارج طبعاً، بل لأنه كان من المستحيل على المبدع، ناهيك بأي شخص آخر، أن يقول مفصحاً عن رأيه في ما يحصل، في ظل نظام يترأس هرمه ديكتاتور دموي، ويحكم من خلال حزب واحد وأجهزة استخبارات منتشرة في كل مكان، ووسط شعب موزع بين الخضوع للديماغوجية والإيمان بالزعيم القائد الملهم، وبين خوف من أن أي كلمة أو نظرة ستحسب عليه على الفور وتورده موارد الهلاك.
عنوان طويل لقول شيء واحد
وهذا الوضع، الذي لن يفوتنا ملاحظة انتشاره منذ زمن في كثير من البلدان المتخلفة، وأحياناً غير المتخلفة في أيامنا هذه، كان هو الوضع الذي رصده برتولد بريخت في ألمانيا، لكنه اضطر إلى مبارحتها قبل أن يتمكن من أن يصفه لنا بكل وضوح في عدد من الأعمال، أقلها شهرة ومتانة من الناحية المسرحية وأكثرها وضوحاً وتعبيراً، تحمل في حقيقتها عنواناً طويلاً يكاد في حد ذاته أن يقول كل شيء، هو "الخوف الكبير والبؤس في عصر الرايخ الثالث". هذه المسرحية التي تكاد تكون منسية بعض الشيء اليوم، أنجزها بريخت في عام 1938. وهو بحسب تعبيره كان يريد منها لا أن تكون عملاً فنياً مميزاً، فالوقت لم يكن وقت التميز الفني، بل عملاً يشرح لمواطنيه المنفيين، وربما لأهل الداخل أيضاً، إن كان ذلك ممكناً، طبيعة النازية في صورة أفضل. وهو من أجل ذلك، ضحى بمبادئه المسرحية المعتادة، اللاأرسطية بخاصة، وجعل همه الأساس الحصول على ردود فعل فورية، مما جعل المسرحية أشبه ببيان سياسي مباشر. ولكن هل كان بريخت ليأبه بهذا في ذلك الحين؟ يومها كانت هناك معركة سياسية -فكرية يجب خوضها. وأساسها فضح النازية وزعيمها اللذين كان كثر ينخدعون بهما، في أوساط الألمان المنفيين حتى، وفي أوساط شعوب مجاورة كان كل ما تراه في "الزعيم الملهم" عداءه المزعوم للإمبريالية وللشيوعية في آن معاً!
شيء من كل شيء
إذاً، هذا العمل لم يكن مسرحية عادية، بل كان أشبه بمشاهد قصيرة متلاحقة، آثر بريخت فيها أن يلجأ إلى فن الكولاج، أي إلى كتابة مقطوعات تشتغل على المشاهد التمثيلية وقصاصات الصحف والرسوم الكاريكاتيرية والبرامج الإذاعية، لتحولها بسرعة إلى "أحداث درامية مأخوذة من الواقع نفسه" وتكون قادرة، بحسب بريخت، على إظهار الخوف والبؤس اللذين طاولا شرائح المجتمع الألماني كافة: الطبقة المثقفة والبورجوازية الصغيرة، وحتى الطبقة العاملة. والحال أن بريخت عبر كتابته هذه كان يرمي أيضاً إلى مقارعة أولئك الألمان المفكرين الآخرين، من الذين كانوا يرون في ديكتاتورية هتلر وحزبه وأجهزة استخباراته "ظواهر عابرة يمكن أن تختفي من تلقائها مع الوقت"، قائلاً لهم: أبداً... إن نظاماً كهذا يتجذر مع الوقت ويحول كل فرد فيه –لخوفه- إلى نازي صغير، إذ حتى الحرية حين تأتيه لا يعرف كيف يتعامل معها، فتصبح العبودية للسلطة القمعية جزءاً من شخصيته. وهذه الموضوعة تهيمن في الحقيقة على المشاهد الأنجح والأكثر رعباً في المسرحية حيث نشاهد المتهمين وحتى الناس غير المتهمين، يسيرون أمامنا في صورة ينقل إلينا الرعب والإحساس بالتدهور، سواء كانوا قساوسة أو قضاة أو أطباء أو علماء فيزياء أو أناساً عاديين. فمثلاً في مقطوعة عنوانها "بحثاً عن الحق"، نرى قاضياً يعيش ارتباكه وهو يستعد لدخول قصر العدل لمحاكمة مجموعة اتهم أفرادها بمهاجمة ثري يهودي ونهبه. فما هو الحكم الذي سيتعين عليه أن يصدر في هذه القضية؟ إنه –لرعبه- يوجه السؤال أولاً إلى مفتش الشرطة ساعياً وراء جواب، ثم إلى النائب العام، وأخيراً إلى المستشار الأول في المحكمة. غير أن الجواب الذي يأتي به كل واحد من هؤلاء وغيرهم إنما يأتي ليزيد من ارتباكه وقلقه. خادمته وحدها تقول له إنها "واثقة من أنه سيحكم على أولئك الأوغاد لأن الكل يعرف أنهم مذنبون". أما هو، فإنه ليأسه يصرخ في وجه المستشار الأول، "أنت تعلم أنني مستعد لأي شيء يطلب مني. ولكن في الأقل يجب أن أعرف ما هو هذا الشيء المطلوب مني. إذا لم أعرف، لن تكون هناك عدالة".
الابن مخبر نازي
وفي مشهد ثان يقرر أستاذ مدرسة وزوجته الهرب خوفاً من أن يكون ابنهما مخبراً نازياً، ويتذاكران خلال ذلك، هل اقترفا أي إساءة تجاهه، هل تلفظا بأي كلمة أمامه؟ وفي مشهد ثالث يدور داخل مختبر للفيزياء يفقد العلماء حتى شجاعة أن يتلفظوا في ما بينهم بأي اسم أجنبي. وفي المستشفى لدينا جراح يعرض أمام معاونيه، أخلاقيات المهنة التي تحتم العناية بكل محتاج من دون تمحيص في أصله وفصله. وفيما هو يتكلم وهم يحيطون به في جولته، يمر أمام مريض مشوه آت من معسكر للاعتقال، فيتجاوزه متحولاً بفظاظة إلى السرير التالي. وفي مشهد تال لدينا قسيس يؤتى به للصلاة على خاطئ تائب يموت، فيجد القسيس نفسه مجبراً على ابتلاع لفظة "مسالمين"... إن أمثال هذه الشخصيات تتابع عبور المسرحية، من جزار كان صوتاً لهتلر ولكن إذ يشهر به، لأنه باع لحماً في السوق السوداء يشنق نفسه خوفاً. والعامل الذي ينبهر بشخصية القائد الملهم، نراه إذ ينخرط في فرق الموت الهجومية، يشي برفاقه بعد أن يستفزهم راسماً بالطبشور إشارة إلى ستراتهم لكي يصار إلى تصفيتهم... والحال إن هذا كله يدفع بريخت إلى التساؤل في هذه المسرحية، "ترى هل يمكن أن ينتصر البؤس على الخوف؟"، وهذا السؤال كان فاعلاً. فالحقيقة أن المسرحية التي كان واحد من عروضها الأولى في نيويورك انتقلت بعد ذلك إلى لندن لتتنقل بعدها بين عدد من البلدان لا سيما في باريس وستوكهولم حيث كان يوجد أعداد كبيرة من المنفيين واللاجئين الألمان وكانت العروض تشي بالنسبة إلى كثر من هؤلاء بأن الوقت قد حان أخيراً لحراك سياسي يشي بإمكانية قيام جبهة حقيقية موحدة ضد الفاشية بحسب ما جاء يومها في تعليق لواحدة من صحف المنفى الصادرة بالألمانية في ذلك الحين.
المبدع ونظرته الناقصة
وطبعاً لن تكون هذه المسرحية العمل الوحيد الذي سيتناول فيه برتولد بريخت، أحد كبار المسرح السياسي في القرن الـ20، الديكتاتورية، والحكم الحزبي المتفرد من طريق أجهزة الاستخبارات، وفي هذا المجال سيكون واحد من أهم المآخذ التي جوبه بها بريخت بعد عودته إلى برلين، وربما قبل ذلك بالنظر إلى أنه إذ رأى الكوارث التي تنتج من تلك الديكتاتورية وحكمها، عجز عن رؤيتهما في العالم "الاشتراكي الذي انتمى إليه عقائدياً"، لكن هذا موضوع آخر بالتأكيد! وهو كتب على أية حال، معظم أعماله تحت وقع مثل هذه الهموم السياسية والإنسانية. وبرتولد بريخت الذي يعد من كبار كتاب المسرح والمجددين فيه في القرن الـ20، لم يمارس في حياته سوى الكتابة والإبداع وهو ولد عام 1898 في أوغسبورغ، ليرحل عن عالمنا في برلين حيث أنفق حياته كلها في الكتابة، وعاش بين ألمانيا ومنافيه الكثيرة التي قادته عام 1956 بعد أعوام منفى طويلة إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يعود إلى أوروبا ثم خصوصاً إلى ألمانيا... الشرقية. ومن أشهر مسرحيات بريخت "دائرة الطباشير القوقازية" و"الاستثناء والقاعدة" و"بعل" و"أوبرا القروش الثلاثة" و"في أدغال المدن" وغيرها.