ملخص
صدر حديثاً كتاب "أنا غزة ابنة فلسطين... أنطولوجيا شعرية من أجل غزة" من إعداد الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة، متضمناً عشرات النصوص العربية والغربية المناصرة للفلسطينيين. وتعيد هذه الأنطولوجيا الجديدة، التي سبقها صدور منتخبات شعرية أخرى تناصر غزة، طرح أسئلة نقدية مهمة، حول العلاقة بين الإبداع كقيمة جمالية مجردة، والقضية المحورية التي يتبناها هذا الإبداع، وقد يضعها في مقدمة أولوياته.
عندما سئل الروائي النيجيري العالمي تشينوا أتشيبي (1930-2013) عن الارتباط الصارم في أعماله بين الإبداع والقضايا الوطنية الملحة، استنكر السؤال، واعتبر أن الأديب الأفريقي غير الملتفت إلى قارته المنغمسة في المآسي والأزمات والمناداة بالتحرر، هو كالشخص الفارغ، الذي يترك بيتاً اشتعلت فيه النيران، ليلاحق فأراً فر من ألسنة اللهب.
هناك دائماً، في كل عصر، حالات استثنائية من الفوران تخص مناطق ومجتمعات بعينها، إذ يفرض الواقع ظروفاً قاسية وأهوالاً عصيبة، وتتحول الحياة الواسعة إلى احتمال وحيد ضيق، مرهون بالكفاح، من أجل رفع الظلم واسترداد الحقوق والسعي إلى التغيير. وفي مثل هذه الأوضاع والملابسات، التي لا صوت فيها يعلو على صوت الفعل الشعبي والضمير الجمعي، يصير انفصام الإبداع عن قضية الأمة المركزية رفاهية غير مقبولة، ولكن ذلك لا يعني بطبيعة الحال ذوبان الإبداع في هدفه الوظيفي وخطابه المنبري.
الشعر في الميدان
ومنذ اندلعت الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، حتى اللحظة الراهنة، والحالة الفلسطينية هي بؤرة اهتمام المنطقة ككل، في ظل الاستبسال الفلسطيني الفريد، على رغم تصاعد المجازر البشرية على نحو غير مسبوق، وبلوغ الاعتداءات والتجاوزات حدوداً لم تصل إليها من قبل.
ولم تغب هذه الأجواء عن المشهد الشعري الحالي، إذ تعاقب خلال هذه الفترة الوجيزة التي لم تبلغ عاماً، صدور مجموعة من الأنطولوجيات والملفات الشعرية المتخصصة، التي تتخذ غزة وحربها وبطولتها موضوعاً لها. ومنها على سبيل المثال أنطولوجيا "ما قالته غزة"، التي صدرت في القاهرة عن دار "ميريت" للنشر في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بمشاركة 26 مبدعاً عربياً، والإصدار الخاص من مجلة "إبداع" المصرية بعنوان "اسمها فلسطين" في الشهر ذاته، بمشاركة عشرات الشعراء العرب، وأعمال أخرى متنوعة.
وتبلغ الظاهرة أخصب تجلياتها في هذا الكتاب الجديد، الصادر منذ أيام قليلة في 272 صفحة عن دار "جبرا" للنشر والتوزيع في عمان، بعنوان "أنا غزة ابنة فلسطين... أنطولوجيا شعرية من أجل غزة". وهو يتضمن نصوصاً لـ57 شاعراً وشاعرة ينتمون إلى العالم العربي، وإلى دول أخرى متعددة. وقد تولى الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة مسؤولية تجميع قصائد الأنطولوجيا وانتقاءها بعدما دعا إليها كفكرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما تولى أيضاً ترجمة نصوصها المكتوبة باللغة الإنجليزية إلى العربية.
ينتمي الشعراء المشاركون في أنطولوجيا غزة إلى أجيال وتيارات مختلفة، وهم يمثلون فلسطين والأردن وسوريا والعراق ومصر والمغرب وتونس والجزائر والبحرين واليمن. ومن الأسماء العربية الحاضرة بالترتيب الأبجدي: إبراهيم نصرالله وأحمد العجمي وإدريس علوش والعربي بنجلون وبراء جبر وعاطف عبدالمجيد وعذاب الركابي وغازي الذيبة وفتحي عبدالسميع ومحمد بشكار وناصر فرغلي ونضال برقان وهادي دانيال، وغيرهم، فيما يأتي الشعراء من خارج العالم العربي، من الولايات المتحدة (ريكي لورينتيس وكيسي جارمز)، وبريطانيا (ستيوارت ماكفارلين)، والهند (نايب ميدا)، وبنغلاديش (نفيسة أفرين ميغا)، وسريلانكا (رو فريمان)، وماليزيا (ماثيو جيروم).
الموضوع في الصدارة
ويأتي مانفستو دار النشر مشحوناً بحمولة الموضوع أو ثيمة الأنطولوجيا في المقام الأول "غزة الصابرة، التي تتعرض لحرب إبادة بشعة تحت نظر العالم الظالم العاجز". ولأن غزة تحتاج إلى ما هو أكثر من القصائد، فإن دار النشر تبلور رؤيتها للأدب المؤثر، على اعتبار أنه ذلك الذي "كان وسيبقى صورة من صور الدفاع عن الحياة والحق والعدالة والإنسانية". أما الكلمة، فإنها "كانت وستبقى إحدى وسائل الإنسان في التغيير، وإحدى وسائل القيام بدوره الوطني والقومي والإنساني ثقافياً".
هكذا، يلتقي شعراء أنطولوجيا غزة في الحديث بصوت غزة نفسها، ابنة فلسطين. وهذا الصوت الشعري، على هذا النحو، لا يمكن فصله عن صوت الأحداث الدائرة على الأرض، بكل براكينها وزلازلها ودمائها وآلامها وآمالها، وبكل مراحل تاريخها، في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل المرجو أن يكون أفضل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كانت أجنحة التحليق الأساس لأية قصيدة هي الأجنحة الفنية الجمالية وحدها، من رؤية وفكرة وصورة وخيال ولغة ومعالجة وغير ذلك من لوازم الإدهاش والإمتاع وكسر أفق التوقع، فإن الأجنحة الأخرى الوظيفية والتحريضية والتثويرية وغيرها هي أجنحة إضافية، بشرط الوعي بهذا الأمر. بمعنى أن هذه الأجنحة الإضافية قد تثري القصيدة ضمناً إذا لم تتصدر القيام بأفعال الحركة والطيران، وظلت مولدة خفية للطاقة، في خلفية المشهد. أما إذا كانت هذه الأجنحة الإضافية هي الطاغية، فإن المشهد كله قد ينزلق من الإبداعي إلى الاعتيادي المجاني، أو ينجرف إلى الدعائي الفج.
الرهان الصعب
وتقف قصائد أنطولوجيا غزة وفق تلك المحددات على حافة الخطر، إذ ينعقد الرهان الصعب لكل نص على حدة، على الشعري، فقط الشعري، بمعزل عن العوامل الأخرى، وذلك لضمان نجاة النص من فخاخ التعويل على الظرفي والنسبي والانفعالي والمثير، ونجاته من أوهام امتطاء الحدث الجلل والقضية المركزية الكبرى، كبدائل يمكنها تعويض تجريف التربة الشعرية الأصيلة.
ويشير ميكانيزم إعداد أنطولوجيا غزة، في ظل الوقت الضيق الذي أنجزت فيه، إلى أنها أنطولوجيا تجميعية في الأساس، وليست انتقائية، أي إنها قصدت إلى توثيق كل النصوص، أو معظمها، التي التزمت بالثيمة المعلنة، وبقدر من الجودة بالتأكيد. وفي هذا العمل جهد كبير مبذول، في سياق الرغبة في حشد جموع من الشعراء من سائر الأرجاء، يوحدون جميعاً كلمتهم من أجل مناصرة غزة والقضية الفلسطينية، في هذا التوقيت. ويبقى التمايز الشعري بين المشاركين دليلاً على أن القيمة الجمالية التعبيرية، المتفاوتة من شاعر لآخر، هي التي لها الكلمة العليا في صناعة الفن، وليست القضية المحورية أو الثيمة الموحدة التي يلتقي عندها، وينهل منها، جميع الشعراء.
وتكفي إشارتان صغيرتان فقط لتلمس هذا التباين، أولاهما تحيل إلى الشعري الشفيف المنطوي على قضية إنسانية ونبض بشري مشترك في نص الفلسطيني إبراهيم نصرالله "على شاطئ البحر كل مساء، وقبل الغروب قليلاً، نرى فتيات بعمر ابتساماتهن الجميلة، قرب المياه/ يتهجين في الموت اسم الحياة". أما ثانيتهما، فتحيل إلى أصداء دوي المعركة حينما تسعى إلى الانتظام في سياق موسيقى شعرية، في نص الأردني براء جبر "يصيبنا اليأس حتى يظهر الأمل، حيوا الملثم فيه العين تكتحل/ سبابة الرعب للأعداء قاطبة، هي الحياة لمن ضاقت به الحيل/ هي الشهادة توحيداً لخالقه، هي الوعيد لأنذال أن اشتعلوا".