ملخص
يخسر كل عام أكثر من 300 ألف شخص مصاب بسرطان الرئة حياتهم بسبب هذه الجسيمات الدقيقة، وتشير البحوث الطبية إلى أن جزيئات التلوث هذه لا تؤدي إلى ظهور عيوب وراثية مسببة للسرطان فحسب، ولكنها تدفع أيضاً إلى تكوين الأورام.
يعد سرطان الرئة مصدر قلق كبيراً للصحة العامة، ويبدأ عندما تنمو الخلايا غير الطبيعية بطريقة غير منضبطة في الرئتين، وتشير التقديرات التي أعدتها "الوكالة الدولية لبحوث السرطان" إلى أن هذا النوع من السرطان لا يزال السبب الرئيس للوفاة بين أنواع السرطان المتعددة، مع ما يقدر بنحو 1.8 مليون حالة وفاة عام 2020.
وبينما كان التدخين يرتبط بصورة أساسية بازدياد معدلات الإصابة بهذا المرض، يلعب تلوث الهواء دوراً كبيراً اليوم في زيادة انتشار سرطان الرئة حول العالم، إذ وجدت دراسات أميركية أجريت على 12 ألف مريض ارتفاع نسبة المصابين الذين لم يدخنوا من 8 إلى 15 في المئة على مدى 20 سنة. وتوصلت دراسات بريطانية إلى نتائج مماثلة، إذ قفزت نسبة غير المدخنين من 13 في المئة عام 2008 إلى 28 في المئة خلال 2014.
ومع انخفاض معدلات التدخين في بعض الدول المتقدمة وارتفاع نسب تلوث الهواء، تقدم تايوان نموذجاً لبناء برنامج قوي للكشف المبكر عن سرطان الرئة ومعالجته في مهده. فكيف يتسبب تلوث الهواء في الإصابة بسرطان الرئة؟
التبغ الجديد
يقول المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، إن تلوث الهواء هو "التبغ الجديد" المسبب للسرطان، وتشكل الجسيمات الدقيقة المعروفة باسم PM2.5 التي يبلغ حجمها 2.5 ميكرون، أي أصغر بنحو 30 مرة من شعرة الإنسان، أكبر تهديد للصحة العامة، إذ تُمتص جزيئات التلوث الصغيرة هذه عميقاً داخل الرئتين، مما يؤدي إلى إتلاف الحمض النووي داخل الخلايا، وزيادة خطر الإصابة بالسرطان.
يخسر كل عام أكثر من 300 ألف شخص مصاب بسرطان الرئة حياتهم بسبب هذه الجسيمات الدقيقة، وتشير البحوث الطبية إلى أن جزيئات التلوث هذه لا تؤدي إلى ظهور عيوب وراثية مسببة للسرطان فحسب، ولكنها تدفع أيضاً إلى تكوين الأورام.
ووفقاً لدراسة نشرتها مجلة "نايتشر" العلمية العام الماضي، تحفز هذه الجسيمات الدقيقة تدفق الخلايا المناعية إلى الرئتين، والالتهاب الناتج من ذلك يوقظ طفرة EGFR، ويؤدي بذلك إلى نمو الخلايا بصورة لا يمكن السيطرة عليها.
تجربة تايوان
مع الاعتقاد الشائع بأن سرطان الرئة لا يسببه سوى تدخين السجائر، فإن غير المدخنين غالباً ما يجهلون مرضهم حتى المراحل الأخيرة، ويحدث ذلك لأن الرئتين لا تحتويان على أية نهايات عصبية تقريباً، وهكذا فإن الأعراض الأكثر شيوعاً لسرطان الرئة قد لا تظهر إلا في مرحلة متأخرة.
ونظراً لأن الهواء في تايوان يحوي معدلات تتجاوز بأربعة أضعاف عدد جسيمات PM2.5 المصرح بها من منظمة الصحة العالمية، وتأتي مصادر تلوث الهواء هذه من انبعاثات المركبات إلى محطات الطاقة التي تعمل بالفحم وصولاً إلى مصانع البتروكيماويات، أطلق متخصص أمراض الرئة تشاير يانغ عام 2015 تجربة "فحص سرطان الرئة الوطني" في تايوان للكشف المبكر عن سرطان الرئة في مراحله المبكرة، خصوصاً لدى الأشخاص الذين لديهم عوامل خطر مثل التاريخ الوراثي العائلي أو التعرض للهواء الملوث بصورة دائمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد مشاركة أكثر من 12 ألف شخص في التجربة المسماة "تالنت"، قدم يانغ نتائجها في المؤتمر العالمي لسرطان الرئة عام 2021، موضحاً كيف كشف وفريقه من العلماء عن سرطان الرئة عند غير المدخنين بمعدل 2.1 لكل 100 مريض فُحص.
وأظهر يانغ أدلة واقعية على أن "فحص سرطان الرئة الوطني" ساعد في اكتشاف الأورام في وقت مبكر بتايوان، وهذا ما تثبته البيانات في مستشفى جامعة "نوتنغهام ترنت" بانخفاض عدد تشخيصات سرطان الرئة في المرحلتين الثالثة والرابعة من 71 في المئة بين عامي 2006 و2011 إلى 34 في المئة بين عامي 2015 و2020، وتالياً زيادة معدل البقاء على قيد الحياة لمدة تتجاوز الضعف، من 22 إلى 55 في المئة.
أولوية وطنية
بهذه النتائج أطلقت تايوان برنامج "الفحص الوطني" في يوليو (تموز) 2022، إذ أنشأت مساراً لأولئك الذين لديهم تاريخ طويل من التدخين وآخر لغير المدخنين الذين لديهم تاريخ عائلي من الإصابة بسرطان الرئة، وأولت الحكومة التايوانية هذا البرنامج اهتماماً استثنائياً، مدركة أنه ليس فرصة لإنقاذ الحياة فحسب بل وأيضاً لتوفير المال العام.
على هذا النحو غمرت إعلانات فحص سرطان الرئة البرامج التلفزيونية التايوانية والبث الإذاعي والصحف وروجت لها شخصيات عامة عدة أبرزها نائب الرئيس التايواني السابق تشين شيان جين، وخرجت تشينغ مينغ تشيو، مديرة الفحص في مركز السرطان بجامعة "تايوان الوطنية"، لتعلن بدء المستشفيات التواصل مع الناس لتزويدهم بالمعلومات الضرورية حول فحص سرطان الرئة وتوزيع الكتيبات على من يدخلون مراكز الفحص. وفي المقابل، ربطت الحكومة التايوانية التعويضات عن علاج سرطان الرئة بمدى نجاح برامج الفحص في المستشفيات.
وانطلاقاً من ذلك يقول يانغ، إن الجهود التي تبذلها تايوان منذ عامين قطعت شوطاً طويلاً بالفعل، ذلك أن نسبة الإقبال على الفحص بلغت 15 في المئة من الشعب.
محاولة أميركية
وبإلهام من تجربة تايوان الرائدة يعمل العلماء في جامعتي كاليفورنيا ونيويورك الأميركيتين على تحديد الأشخاص غير المدخنين الذين ينتمون إلى هذه الفئة المعرضة للخطر، مع التركيز أولاً على النساء الأميركيات من أصول آسيوية. ففي حين تصل حالات سرطان الرئة في الولايات المتحدة بين غير المدخنين إلى معدل 20 في المئة من مجمل الإصابات، فإن أكثر من نصف النساء الأميركيات الآسيويات المصابات بسرطان الرئة لم يدخن قط طوال حياتهن.
وفي عام 2021، أطلقت الجامعتان الأميركيتان دراسة "النساء الآسيويات غير المدخنات" للتحقيق في عوامل الخطر الوراثية والثقافية والبيئية مثل التدخين السلبي والتاريخ العائلي. وفي العام نفسه، أعلنت إلين شوم متخصصة الأورام في جامعة "نيويورك" عن بدء تجربة سريرية بفحص سرطان الرئة عند 1000 امرأة آسيوية غير مدخنة.
وتشرح شوم الهدف من هذه الدراسة بالقول، "أصبح سرطان الرئة مهيمناً بصورة متزايدة بين غير المدخنين، وأهدافنا تكمن بتغيير المبادئ التوجيهية وجعل شركات التأمين تغطي بعض هذه الفحوصات، ونحن في حاجة إلى البدء في التخطيط الآن لهذا المستقبل وعدم انتظار حدوث الأزمة الصحية لأن الأوان سيكون قد فات حينها لإحداث أي فرق".