ملخص
في السياسة الأميركية يُعتبر تصنيف قضية ما كأمن قومي وسيلة لرفع أهميتها بصورة كبيرة، وخلال في الآونة الأخيرة توسع تعريف الأمن القومي ليشمل قضايا منوعة مثل تغير المناخ والتكنولوجيا الحديثة، ومعها أصبحت الموارد موزعة على نطاق واسع من القضايا مما يزيد خطر تجاهل التهديدات الحقيقية
في السياسة الأميركية يرفع وصف أي شيء بأنه مسألة "أمن قومي" من أهميته تلقائياً، وبلغة مراقبي السياسة الخارجية فإن مسائل الأمن القومي، مثل تنظيم أسلحة الدمار الشامل، هي مسائل "السياسة العليا"، في حين أن المسائل الأخرى من قبيل حقوق الإنسان مسائل "سياسة غير مهمة".
وبالطبع لا يتفق الجميع على القضايا التي تندرج ضمن فئة الأمن القومي، وقد تذبذب التعريف الأميركي للأمن القومي بصورة كبيرة مع مرور الوقت، فقد استخدم المصطلح من قبل كل من الرئيسين جورج واشنطن وألكسندر هاملتون خلال الحقبة الثورية من دون تعريفه بدقة، وفي بداية الحرب الباردة وسعت الحكومة الفيدرالية المفهوم بصورة كبيرة بعد إقرار "قانون الأمن القومي" لعام 1947، لكن هذا القانون لم يعرف المصطلح نفسه.
ومع انحسار التوترات مع موسكو في نهاية الستينيات بدأ نطاق الأمن القومي يتقلص قليلاً، لكن ذلك انتهى عندما أثار الحظر النفطي عام 1973 مخاوف جديدة في شأن أمن الطاقة، وفي الثمانينات اتسع نطاق التعريف إلى أن انتهت الحرب الباردة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال الأعوام ما بين انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وهجمات الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001، وهي الحقبة التي بدا فيها أن الولايات المتحدة لم يكن لديها منافسون مباشرون كثر، حتى إن الباحثين الأمنيين واجهوا صعوبة في تحديد معنى الأمن القومي.
ومن غير المستغرب أنهم لم يتوصلوا إلى توافق في الآراء، ولكن منذ "الحرب على الإرهاب" التي جاءت لاحقاً ازداد حجم قضايا الأمن القومي وأهميتها بصورة كبيرة، فمن تغير المناخ إلى تهديدات البرمجيات الخبيثة إلى معدات الحماية الشخصية إلى المعادن المهمة إلى الذكاء الاصطناعي، أصبح كل شيء الآن أمناً قومياً.
صحيح أن العولمة الاقتصادية والتغير التكنولوجي السريع زادا من عدد التهديدات غير التقليدية للولايات المتحدة، ولكن على رغم ذلك يبدو أن هناك أيضاً تأثيراً متدرجاً في العمل، إذ تضيف مؤسسة السياسة الخارجية مسائل جديدة إلى مجال الأمن القومي من دون التخلص من تلك القديمة، ونادراً ما تنتهي المشكلات في السياسة العالمية، وهي في أحسن الأحوال تميل إلى الانحسار ببطء شديد.
غير أن الأزمات الجديدة تستدعي اهتماماً عاجلاً، فإذا ما لم تعالج القضايا المؤجلة فستنتقل حتماً إلى قمة الأولويات التي يجب التعامل معها، وعادة ما يود أصحاب المشاريع السياسية من مختلف الأطياف السياسية في الإدارة وأعضاء الكونغرس وغيرهم من صناع السياسة الخارجية الأميركية أن يصنفوا قضيتهم كأولوية للأمن القومي، على أمل كسب مزيد من الاهتمام والموارد.
ويميل الشعبويون والقوميون الأميركيون إلى اعتبار كل شيء تهديداً للأمن القومي ولا يخجلون من قول ذلك، وعلى سبيل المثال يدعو "مشروع 2025" الخاص بمؤسسة "هيريتاج" (التراث) والذي اعتبر خطة عمل لإدارة ترمب الثانية إذا فاز الأخير في انتخابات هذا العام، إلى فرض لوائح وأنظمة على كل من شركات التكنولوجيا الكبرى المحلية والشركات الأجنبية مثل "تيك توك" باعتبارها تهديدات محتملة للأمن القومي، ونظراً إلى استمرار وجود مثل هذه المصالح السياسية والحوافز الهيكلية فمن السهل أن تتسع قائمة قضايا الأمن القومي لمؤسسة السياسة الخارجية، ومن النادر أن تتقلص.
ولكن إذا صنف كل شيء على أنه أمن قومي فلا شيء يبقى عندئذ أولوية للأمن القومي، فمن دون إجراء مناقشة مدروسة أكثر بين صناع السياسات في شأن ما هو مسألة أمن قومي وما هو غير ذلك، تجازف واشنطن بتوزيع مواردها على مجموعة واسعة جداً من القضايا مما يزيد احتمال تفويت الانتباه إلى تهديد حقيقي لسلامة الولايات المتحدة وأمنها.
وأياً كان من سيؤدي اليمين الدستورية رئيساً في يناير (كانون الثاني) المقبل فإنه سيحتاج إلى التفكير في المبادئ الأولى من أجل تصحيح تعريف الأمن القومي وإلا فإن صانعي السياسات يخاطرون بالوقوع في نمط محاولة القيام بكل شيء، مما يضمن عدم القيام بأي شيء على نحو مجد.
مجاهيل دلالية
نظرياً ينبغي أن يكون تعريف الأمن القومي سهلاً، فبالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن أي تهديد خبيث عابر للحدود أو قوة صاعدة تتحدى بصورة مباشرة سيادة الولايات المتحدة أو وجودها، تشكل مبعث قلق حقيقي للأمن القومي، ومن الواضح أن الجيوش الأجنبية القوية تؤثر في الأمن القومي، ولكن هناك تهديدات أخرى تؤثر أيضاً، وكذلك يمكن أن تشكل الموانئ ومحطات الطاقة وغيرها من البنى التحتية الاقتصادية الضعيفة مخاوف تتعلق بالأمن القومي وكذلك تغير المناخ، على سبيل المثال، من خلال تهديد اقتصادات المدن الساحلية الكبرى مثل ميامي ونيويورك، ومع ذلك فثمة أيضاً قضايا مهمة في السياسة العامة لا تندرج ضمن هذه المعايير.
وبغض النظر عن تعالي أصوات بعض الأميركيين في شأن هاتين المسألتين، فلا الترويج لحقوق المتحولين جنسياً ولا حظر نظرية العرقية النقدية [مجال أكاديمي يركز على العلاقات بين المفاهيم الاجتماعية للعرق والانتماء العرقي والقوانين الاجتماعية والسياسية ووسائل الإعلام]، يندرجان ضمن مسائل الأمن القومي.
عملياً واجه الأميركيون دائماً صعوبة في حصر نطاق مفهومهم للأمن القومي، وطرحت رسالة جورج واشنطن الأولى عن حال الاتحاد إلى الكونغرس بداية واعدة، وهو بالكاد أتى على ذكر التهديدات الخارجية للجمهورية الوليدة، وبدلاً من ذلك أوجز نظريته عن كيفية ردع الولايات المتحدة لأية تهديدات، وشدد على الحاجة إلى دفع أجور لائقة للجنود والضباط والدبلوماسيين وإمدادهم بالعتاد اللازم لأداء وظائفهم، وأوضح أن "الاستعداد للحرب هو أحد أكثر الوسائل نجاعة للحفاظ على السلام".
إذا صنف كل شيء على أنه أمن قومي فلن يبقى حينها ما يمثل أولوية للأمن القومي
إن الآراء التي نقلها واشنطن في ذلك الخطاب مألوفة لدى كثير من خبراء السياسة الخارجية، والأقل شهرة هو ما قاله في خطابه الثاني عن حال الاتحاد، ففي تلك الرسالة أعد واشنطن قائمة موسعة من "الاستفزازات المتفاقمة" مستشهداً بقبائل الهنود الحمر التي "جددت انتهاكاتها بنشاط جديد وتأثير أكبر، والوضع المضطرب في أوروبا وبخاصة الموقف الحرج للقوى البحرية الكبرى".
ومع ذلك فعندما كانت الولايات المتحدة تمتد على مساحة القارة ويفصلها عن القوى الكبرى الأخرى محيطان، كان بعدها الجغرافي يحد من التهديدات التي تواجهها، وقد وصف الباحث أرنولد وولفرز هذه الحقبة بين عامي 1820 و1900 بأنها "فترة كان في وسع سياسة الولايات المتحدة الأميركية أثناءها أن تكون معنية أساساً بحماية الاستثمارات الأجنبية أو أسواق رعاياها".
عندما بدأت الولايات المتحدة في تأكيد نفسها كقوة عالمية كبرى خلال النصف الأول من القرن الـ 20، كان خطاب السياسة الخارجية يراوح ما بين الاعتقاد بأن البلاد مضطرة إلى إرسال قوات إلى الخارج لحماية المصالح الأميركية المتزايدة، وبين الاقتناع بأن موقف "أميركا أولاً" القائم على الانعزالية هو الأفضل للحفاظ على السلام، ولكن مصطلح "الأمن القومي" لم يصبح جزءاً لا يتجزأ من الخطاب السياسي الأميركي إلا مع بداية الحرب الباردة، وقد أدى "قانون الأمن القومي" لعام 1947 الذي أنشأ وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) ومجلس الأمن القومي (أن أس سي) من جملة أمور أخرى إلى تأسيس الهيكل الأمني القائم اليوم، وكذلك أفضى الإقرار بالتهديد السوفياتي الشامل إلى إنشاء مجموعة من مراكز الأبحاث ومراكز الفكر والبرامج الجامعية المخصصة لدراسة الأمن القومي.
ولاحظ وولفز ببصيرة ثاقبة أنه إذا عممت مصطلحات مثل الأمن القومي فإن "معناها قد يتفاوت إلى درجة كبيرة من شخص إلى آخر"، وفي الواقع قال إنه "قد لا يكون لها أي معنى دقيق على الإطلاق".
خلال الخمسينيات وأوائل الستينيات هدأ الإجماع على التهديد السوفياتي بعض هذه المخاوف، ولكن بحلول حرب فيتنام كان وزير الدفاع روبرت مكنمارا قد حذر بالفعل الرأي العام من أن المسؤولين الأميركيين تاهوا في "المجاهل الدلالية" حول مسائل الأمن القومي، وخلطوا بين الأمن القومي والقضايا العسكرية البحتة مثل شراء الأسلحة.
ومع نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي ربما كان من المتوقع أن تتقلص سلة الأمن القومي مع تقلص حجم الموازنة العسكرية، غير أن العكس هو ما حصل، ولننظر إلى تاريخ إستراتيجية الأمن القومي وهو التقرير حول التهديدات الحالية الذي من المفترض أن يقدمه الرئيس إلى الكونغرس سنوياً، على رغم أنه لا يصدر إلا كل بضعة أعوام أو في مناسبات أقل انتظاماً، وتكشف مراجعة تقارير ما بعد عام 1990 عن توسع مطرد في المخاوف النوعية: أمن الطاقة والانتشار النووي والاتجار بالمخدرات والإرهاب، من بين أمور أخرى كثيرة.
وبعد أحداث الـ 11 من سبتمبر 2001 تسارعت وتيرة هذا الاتجاه، إذ ركز الساسة وصناع السياسات على الأمن القومي وعدد من الأمور التي تؤثر فيه ظاهرياً، وبرزت الوقاية من الجائحة خلال العقد الأول من هذا القرن وظلت كذلك منذ ذلك الحين.
وعلى مدى العقد الماضي دفع صعود الصين، مقترناً بالطموحات الانتقامية لروسيا، كلاً من إدارة ترمب الأولى وإدارة بايدن إلى تضمين إشارة إلى "منافسة القوى العظمى" في وثائق إستراتيجية الأمن القومي الخاصة بهما، وكانت أسباب إدراج هذه التهديدات وجيهة، ولكن عند إضافتها لم تقلل الوثائق من أهمية المخاوف السابقة.
وتتضمن نسخة عام 2017 تعهداً "بتخصيص موارد أكبر لتفكيك المنظمات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية"، فيما تجادل وثيقة عام 2022 بأن "الأمن الغذائي العالمي يتطلب اليقظة المستمرة والعمل من جانب جميع الحكومات"، وتؤكد أن الولايات المتحدة "ستعمل عبر النظم الغذائية بأكملها للنظر في كل خطوة، من الزراعة إلى الاستهلاك"، وهكذا دواليك.
وعادة ما تكشف خطابات الرؤساء الأميركيين عن حال الاتحاد عن نمط مماثل، فمنذ نهاية الحرب الباردة دأب الرؤساء على استخدام الخطاب السنوي بصفة روتينية لتحديد التهديدات الجديدة التي تواجه الولايات المتحدة، أو في الأقل لتوسيع نطاقها.
في البداية كانت قضايا الإرهاب والانتشار النووي والدول المارقة هي القضايا المركزية، وفي نهاية المطاف تسللت مخاوف أخرى تتعلق بالأمن القومي مثل تغير المناخ والأمن السيبراني، وحتى عندما أقر الرؤساء بأن الأمن القومي الأميركي قوي فقد سعوا إلى إشاعة شعور بالإلحاح في نفوس الأميركيين.
في عام 1997 قال الرئيس بيل كلينتون "نحن لا نواجه أي تهديد وشيك ولكننا نواجه عدواً، والعدو في عصرنا هو التقاعس عن العمل"، وفي أعقاب الـ 11 من سبتمبر 2001 صوّر الرؤساء والإستراتيجيون الأمنيون الأمة الأميركية على أنها محاطة بالتهديدات، وقد أوضح فيليب زيليكو، أحد مهندسي إستراتيجية الرئيس جورج دبليو بوش لعام 2002، أن "حدود الأمن القومي يمكن أن تكون في كل مكان، مضيفاً أن "تقسيم السياسة الأمنية إلى قسمين داخلي وخارجي لم يعد مجدياً".
وقد توسع تعريف الأمن القومي أكثر على مدى العقد الماضي، وما أشار إليه الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان بـ "المشكلات التي لا تحتاج وثائق سفر"، أي المشكلات التي لا تحدها حدود جغرافية مثل الأمن السيبراني وتغير المناخ، قد انتشرت بسرعة وصورة كبيرة خلال الأعوام الأخيرة، وقد دفعت التقنيات الجديدة مفكري السياسة الخارجية إلى البحث في أماكن جديدة، واعتادت الجيوش على التركيز فقط على التهديدات القادمة من البر والبحر والجو، ولكن في هذا القرن أصبح الفضاء الإلكتروني والفضاء مجالين معقدين للصراع، كما أصبح الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية الآن من التقنيات الحاسمة، وبالتالي أولويات للأمن القومي.
كذلك ما فتئت قائمة "المعادن المهمة" تتوسع، إذ إن تغير المناخ والتحول عن الوقود الأحفوري يولدان طلباً عالمياً نهماً على المعادن الأرضية النادرة اللازمة للبطاريات وغيرها من تطبيقات الطاقة النظيفة.
وأضافت الإدارات الأميركية المتعاقبة تهديدات منبثقة من داخل البلاد أو أن لها مفاعيلها الداخلية، وظهر التطرف المحلي للمرة الأولى في إستراتيجية الأمن القومي خلال إدارة ترمب التي أعلنت حال طوارئ وطنية على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، مشيرة إلى تزايد تدفق المخدرات والعصابات الإجرامية والمهاجرين، وأعلنت إدارة بايدن حالات الطوارئ الوطنية المتعلقة بسلاسل الإمداد الحيوية، مثل تلك الخاصة بمادة الكوبالت، بهدف "الإرساء القريب" (أي الاستعانة بمصادر إسناد قريبة) لتقنيات الإنتاج الرئيسة.
وبالنظر إلى كل واحد من هذه المخاوف بمعزل عن الآخر يمكن اعتبار كل منها أولوية أمنية وطنية، وتكمن المشكلة في أن السلطة التنفيذية بمراكمتها المستمرة لمثل هذه الاهتمامات القصوى جعلت هذا المفهوم بلا معنى على نحو متزايد.
التكاثر السريع للأولويات
بمجرد تحديد تهديد للأمن القومي فنادراً ما تتخلى الإدارة الأميركية عن كونه أولوية، ولكن انهيار الاتحاد السوفياتي استثناء بناء، فبعد نهاية الحرب الباردة لم يعد صناع السياسة الأميركية ينظرون إلى موسكو على أنها مصدر قلق كبير، واختفت روسيا من وثائق إستراتيجية الأمن القومي، وأخذ الكونغرس يستثني روسيا من قوانين حقبة الحرب الباردة مثل ما يسمى بتعديل جاكسون - فانيك الذي يقيد التجارة مع الاقتصادات غير السوقية التي لا تحترم حقوق الإنسان، ثم عادت روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين لتشكل تهديداً من جديد، ويعد خفض واشنطن الذي لم يدم طويلاً لتصنيف موسكو كأولوية للأمن القومي أمراً غير مألوف من جهة أن البيروقراطية الأميركية تكيفت بالفعل مع هذا التحول.
وبقدر ندرة إزالة تهديد ما من إستراتيجية الأمن القومي فإن من النادر أن يتفق مسؤولو السياسة الخارجية على هذه الإزالة، ومعظم التهديدات العابرة للحدود الوطنية تتزايد وتتناقص بمرور الوقت ولكنها نادراً ما تتلاشى، فقد تعاملت إستراتيجية عام 1987 مع الإرهاب باعتباره مصدر قلق كبير للأمن القومي، واستمر هذا التهديد خلال التسعينيات ليقفز إلى قمة قائمة الأولويات بعد هجمات الـ 11 من سبتمبر 2001، ولكن بعد عقدين من "الحرب العالمية على الإرهاب" بدا وكأن المسؤولين الأميركيين نجحوا في خفض مستوى التهديد في الوثائق والخطاب العام، ثم جاءت الهجمات المروعة التي شنتها "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في إسرائيل لتجعله أولوية مرة أخرى.
كلما زاد عدد القضايا على جدول أعمال الأمن القومي كان من الصعب على صناع السياسات التركيز على تلك القضايا الأكثر أهمية
ويشكل الابتكار التكنولوجي، مثل ظهور أنواع جديدة من الأسلحة، تحدياً آخر لجهود الإستراتيجيين في إدارة أولويات الأمن القومي، فعلى سبيل المثال تطلّب انتشار التكنولوجيات النووية وتكنولوجيا الصواريخ الباليستية إعادة حساب بالجملة للدول أو المجموعات التي تشكل أخطاراً كبيرة، ومع تراجع العوائق التي تحول من دون الحصول على تكنولوجيا الدمار الشامل، أصبحت القائمة لا تضم القوى الكبرى (الصين وروسيا) وحسب، بل أصبحت تضم أيضا دولاً أصغر (إيران وكوريا الشمالية) وحتى جهات فاعلة من غير الدول ("داعش" والحوثيين).
لكن التحدي أعمق بكثير. فمع التقنيات الجديدة، تصبح الموارد الجديدة ذات أهمية بالغة وغالباً ما تفقد الموارد الحيوية السابقة أهميتها. فقبل قرن مضى، كان موقع الفحم والبترول عاملاً مؤثراً في كيفية خوض الدول للحروب، أما اليوم، فإن الكوبالت والليثيوم هما اللذان يطلق عليهما "المعادن الحساسة"، ويشعر بعض المحللين بالقلق من أن السباق عليهما قد يشعل الحروب. ولكن في أثناء تحولات كهذه، قد يكون من الصعب تحديد ما إذا كان ينبغي إعطاء الأولوية للموارد الجديدة على حساب الموارد الأكثر رسوخاً. وقد تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا بضغط شديد على سلاسل إمدادات الطاقة، مما أجبر دول أوروبا وأفريقيا على التدافع من أجل الحصول على النفط والفحم والغاز الطبيعي. وفي الوقت نفسه، تدفع ضغوط التغير المناخي والانتقال من الكربون البلدان إلى التسابق للحصول على المكونات الضرورية للتكنولوجيات الخضراء. ونتيجة لذلك، يدعو عديد من الأميركيين الحكومة الفيدرالية إلى إعطاء الأولوية لأمن مصادر الطاقة التقليدية مثل النفط والغاز، حتى في وقت يطالب فيه عديد من الأميركيين الآخرين بتقليل اعتماد البلاد على تلك المصادر.
تضاعف التقنيات الجديدة من عدد المسارات التي يمكن للخصوم والقوى التعديلية [التي تسعى لتغيير النظام القائم] استخدامها لتهديد الأمن القومي. ويمكن لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أن تساعد في تمكين الجيش وأن تكون بمثابة أدوات قوية للدعاية والتضليل. وبالمثل، يمكن للإنجازات في مجال العلوم البيولوجية أن تنقذ الأرواح في ساحة المعركة، ولكنها تزيد أيضاً من خطر الحرب البيولوجية. تشير الألغاز المحيطة بالظواهر الجوية المجهولة الهوية إلى تقنيات متقدمة لا يمكن لكبار المسؤولين الأميركيين تفسيرها بسهولة. وكما قال السيناتور ماركو روبيو من ولاية فلوريدا أخيراً، "أي شيء يدخل المجال الجوي ولا يفترض أن يكون هناك يشكل تهديداً".
كما أن الديناميكيات السياسية الراسخة في واشنطن تدفع بالمزيد والمزيد من القضايا إلى قائمة الأمن القومي. فوزارة الدفاع (البنتاغون) أفضل تمويلاً بكثير من وزارة الخارجية، لذا من الأسهل إقناع الكونغرس والشعب الأميركي بتمويل الأنشطة الأمنية والدفاعية من إقناعهم بتمويل الأنشطة الدبلوماسية. وفي عالم الموازنات المقيدة، فإن رواد المشاريع السياسية على استعداد لتأطير قضاياهم المفضلة على أنها مخاوف تتعلق بالأمن القومي من أجل الحصول على موارد من وزارة الدفاع. يسمي علماء العلاقات الدولية هذه الظاهرة "فرض مبدأ الأمن". في مطلع هذا القرن، بدأ المسؤولون الأميركيون يصفون فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز بأنه قضية أمن قومي، بحجة أن المرض ينهك الاقتصادات ويهدد بإسقاط الحكومات في البلدان الأفريقية. ربما تشوب المبالغة هذه الحجة، لكنها كانت وسيلة لحشد الموارد لمكافحة الوباء العالمي، بما في ذلك خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز، التي يرجع الفضل إليها في إنقاذ ملايين الأرواح في أفريقيا منذ أن أطلقتها إدارة جورج بوش.
عادة ما يكون للشواغل الاقتصادية والتكنولوجية جاذبية لدى الحزبين في مناقشات الأمن القومي. فمنذ إطلاق الاتحاد السوفياتي لبرنامج الفضاء "سبوتنيك" عام 1957، كان عديد من صناع السياسة الأميركية في حالة من الذعر من فقدان الولايات المتحدة تفوقها التكنولوجي لمصلحة قوة عظمى أخرى. وفي العقود الأولى من الحرب الباردة، كانت موسكو هي الهاجس الرئيس. في الثمانينيات والتسعينيات كانت اليابان. وفي هذا القرن أصبحت الصين هي الشاغل. وقد أدى ذلك حتماً إلى تركيز صناع السياسات على التقنيات التي ترى على أنها ضرورية لضمان التفوق الاقتصادي للبلاد. أما في العقود الأخيرة، فكان الهاجس هو أشباه الموصلات. وخلال الفترة المتبقية من هذا العقد في الأقل، سيظل الذكاء الاصطناعي شغلهم الشاغل. تضمن كل هذه الديناميكيات قائمة متزايدة من أولويات الأمن القومي.
الكثرة ليس أفضل
كلما زاد عدد القضايا على جدول أعمال الأمن القومي، كان من الصعب على صناع السياسات التركيز على تلك القضايا الأكثر أهمية. فقد دفعت الحرب الباردة المسؤولين الأميركيين إلى النظر إلى العالم من منظور اختزالي، لكنها مكنتهم أيضاً من فرز ما هو مهم حقاً في السياسة الخارجية. ومع ذلك، فإن ميل الإدارات الأخيرة إلى الإعلان عن قضية تلو الأخرى كمسألة أمن قومي، يجعل من السهل على عديد من التهديدات المحتملة أن تحجب الخطر الأكثر إلحاحاً.
وتكمن إحدى الطرق التي يمكن من خلالها حصر نطاق عقيدة الأمن القومي وتوضيحها في تجاذبات السلطة بين الحزبين السياسيين الرئيسين. خلال الحرب الباردة، غالباً ما تحدث المرشحون للرئاسة عن "الثغرات الصاروخية" أو "سناريوهات التهديد" التي أصبحت من أولويات الأمن القومي. ويميل الجمهوريون إلى إظهار نوازع أكثر تشدداً، إذ يعطون الأولوية للتهديدات من الجهات الفاعلة الخبيثة، بينما يميل الديمقراطيون إلى أخذ التهديدات المتفرقة مثل تغير المناخ أو الأوبئة على محمل الجد. ويمكن أن تؤدي هذه الاختلافات إلى النزاع في شأن مسائل الأمن القومي الرئيسة، في ما يتعلق بأمن الطاقة، على سبيل المثال، يقلل المحافظون من التهديد الذي يشكله تغير المناخ، بينما يسلط التقدميون الضوء عليه، ويحذر الجمهوريون في مجلس النواب من أن تقليص إنتاج الولايات المتحدة من الفحم والنفط والغاز الطبيعي يقوض الأمن القومي، بينما يحذر التقدميون من أن الفشل في ذلك هو التهديد الحقيقي.
قد يكون من المتوقع أنه كلما انتقلت السلطة من طرف إلى آخر، فإن تركيز واشنطن على الأمن القومي سيتحول وفقاً لذلك. ولكن عملياً، حتى عندما تأتي إدارة رئاسية إلى السلطة تختلف جذرياً عن سابقتها، فإن قائمة أولويات الأمن القومي تميل إلى التوسع بدلاً من مجرد التحول. على سبيل المثال، عندما صدرت استراتيجية الأمن القومي لعام 2002، ذكر زيليكو أن إدارة جورج دبليو بوش "تفوقت على إدارة كلينتون لأنها حددت باستمرار الفقر، والأمراض الوبائية، والأخطار البيولوجية والوراثية، والتدهور البيئي باعتبارها تهديدات كبيرة للأمن القومي". وعلى رغم أن استراتيجية إدارة بوش عام 2002 ركزت بصورة مشينة على العلاقة بين الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، إلا أنها ركزت بصورة كبيرة على أولويات الأمن القومي لإدارة كلينتون.
وفي الآونة الأخيرة، كان من الممكن أن ينظر إلى تركيز إدارة ترمب على التنافس بين القوى العظمى، الذي احتل مركز الصدارة في استراتيجية الأمن القومي لعام 2017، على أنه شذوذ عن القاعدة. ومع ذلك، لم تتجنب استراتيجية إدارة بايدن لعام 2022 تحديد المنافسة مع الصين وروسيا كتحد مركزي. وبالفعل، فقد ذكرت الإدارة صراحة أن "جمهورية الصين الشعبية لديها النية، وبصورة متزايدة، القدرة على إعادة تشكيل النظام الدولي لجعله أكثر ميلاً لخدمة أهدافها واستراتيجياتها".
إضافة التهديدات بالجملة يضعف مفهوم الأمن القومي
أحد الأسباب التي تجعل الإدارات مترددة في التقليل من أهمية مخاوف أسلافها المتعلقة بالأمن القومي هو الفطنة السياسية البسيطة. إذ يبدو أن معظم الأميركيين لا يكترثون عندما تبالغ الإدارة الأميركية في الحديث عن تهديد للأمن القومي يتبين أنه مبالغ فيه. ويمكن لصناع السياسات أن يبينوا دائماً أنهم كانوا يتوخون الحذر فقط أو أن تحذيراتهم ذاتها ساعدت في تحييد التهديد. من ناحية أخرى، يميل الناس إلى التذكر عندما تقلل الإدارة من شأن أحد المخاوف الأمنية الوطنية التي تتحول إلى أزمة كاملة. هناك عديد من الأسباب التي جعلت إدارة ترمب تخفق في استجابتها لجائحة كوفيد-19، ولكن أحدها أنها حلت مديرية الصحة والأمن والدفاع البيولوجي العالمي التابعة لمجلس الأمن القومي عام 2018. ووفقاً لوكالة "أسوشيتد برس"، فإن القرار يشير إلى أن ترمب "لا يرى تهديد الأوبئة بالطريقة نفسها التي يراها عديد من الخبراء في هذا المجال". غالباً ما ينظر الرؤساء ومديرو السياسة إلى مخاوف الأمن القومي بالطريقة التي نظر بها مايكل كورليوني في فيلم العراب إلى الجريمة المنظمة: كلما ظن أنه خرج من عالمها، أعادوه إليها.
كذلك فإن السياسات البيروقراطية من الأسباب الأخرى التي نادراً ما تهمل أولويات الأمن القومي جراءها. وطالما استمر تصنيف قضية ما في وثائق الاستراتيجية كمسألة أمن قومي، يمكن للوكالة الحكومية أن تعول على استمرار التمويل. بالنسبة إلى كثير من موظفي السلك الدبلوماسي وموظفي المناطق الخارجية، يستغرق الأمر أعواماً لتعلم ما يكفي من المعلومات عن بلد معين أو قضية معينة لكي يعدوا ضمن الخبراء. ونتيجة لذلك، تقاوم البيروقراطيات أي محاولة لخفض أولوية قائمة إذا كانت هذه الخطوة ستؤثر في مهامها الأساسية أو تقلل من قيمة تدريبها.
كما أن تفاؤل نخب صنع السياسات أو تشاؤمها في شأن المستقبل يمكن أن يلعب دوراً في رغبة الإدارة في التقليل من أهمية تهديد أصغر. عندما تعتقد النخب أن التطورات الجيوسياسية تتحرك في اتجاه موات للولايات المتحدة، يكون من الأسهل نزع الطابع السياسي عن التهديدات المحتملة من خلال اقتراح حلول طويلة الأجل. فخلال تسعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، كان المسؤولون الأميركيون واثقين من أن النظام الدولي الليبرالي سيغري روسيا والصين لتصبحا أكثر شبهاً بالولايات المتحدة، بالتالي القضاء على التهديدات التي كانتا تشكلانها على الأمن القومي. سمح هذا الافتراض بالصبر الاستراتيجي إزاء كلا البلدين لعقود من الزمن.
ولكن عندما يعتقد صناع السياسات أن المستقبل سيكون أقل ملاءمة للولايات المتحدة، فقد يميلون إلى تضخيم أي تهديدات محتملة للأمن القومي. وفجأة تصبح كل قضية نقطة تحول محتملة يمكن أن تعجل بمزيد من التراجع في السلطة الوطنية. يصبح الأمن قضية شاملة حيث ينظر المسؤولون إلى أي شيء وكل شيء على أنه تهديد وجودي. في الوقت الحاضر، تشير استطلاعات الرأي العام وخطاب النخب على حد سواء إلى وجود تشاؤم عميق في شأن قوة الولايات المتحدة في المستقبل. لقد انهارت فوائد النظام الدولي القائم على القواعد في الأعوام الأخيرة. يشهد العالم أكبر عدد من النزاعات منذ عام 1945. تتسابق الدول على إقامة الحواجز أمام التجارة والهجرة مع تقييد الحريات المدنية. فعديد من الدول تعاني ركوداً ديمقراطياً عميقاً، فيما يجادل القادة الشعبويون والاستبداديون بأن أسلوبهم في الحكم هو الأفضل. ولا يفيد أي من هذه الاتجاهات الأمن القومي الأميركي، فيما تؤدي الانقسامات الداخلية إلى تفاقم مخاوف الجمهور من هذه التهديدات. وبالنظر إلى الوضع الجيوسياسي الراهن، سيكون من الحماقة أن نتوقع من صانعي السياسات أن يفرزوا قائمة أولويات الأمن القومي.
تحديد حجم التهديدات
دفعت عوامل عدة بمجموعة من القضايا الجديدة إلى دائرة الأمن القومي. ومثلما تبين التكرارات الأخيرة لاستراتيجية الأمن القومي، فإن إضافة التهديد تلو الآخر تضعف مفهوم الأمن القومي. وغالباً ما تكون هذه الوثيقة أكثر بقليل من مجرد استيفاء شكلي لإجراءات محددة للوكالات التابعة للسلطة التنفيذية، بالتالي فهي محدودة الفائدة في التفكير في السياسة الخارجية. وقد بدا هذا الأمر جلياً في الأعوام الأخيرة، إذ أهملت الإدارات المتعاقبة القضايا التي وردت في استراتيجيات الأمن القومي الخاصة بها. وعلى سبيل المثال، قلل مسؤولو إدارة ترمب من أخطار الأوبئة، وأصر مسؤولو إدارة بايدن على أن الشرق الأوسط هادئ.
ومن باب الإنصاف، فإن معظم مشكلات الأمن القومي التي حددتها هذه التقارير السنوية حقيقية. روسيا والصين قوتان عظميان متنافستان تختلف قيمهما عن قيم الولايات المتحدة. لقد أوضح العقد الماضي بجلاء مدى خطورة الأوبئة والتغيرات المناخية التي يمكن أن تهدد أسلوب الحياة الأميركي. وقد تشكل التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي تهديدات خطرة للأمن القومي في الأعوام المقبلة.
ولكن إذا لم يكن من السهل خفض مستوى تحديات الأمن القومي أو القضاء عليها، ففي الأقل يجب تصنيفها بنحو أفضل. إذ يدرك حتى المبتدئون في السياسة الخارجية أن بالإمكان تصنيف مخاوف الأمن القومي بحسب البلد (إيران، كوريا الشمالية) وبحسب الموضوع (منع الانتشار النووي، الأمن السيبراني). ولكن عند التفكير في كيفية تخصيص الوقت والموارد النادرة، فثمة طريقتان في الأقل لتنظيم هذه القائمة المتنامية تنظيماً أفضل.
ومن بين أوجه التحسين الممكنة أن يعمد المسؤولون الأميركيون إلى تصنيف قضايا الأمن القومي بحسب الجدول الزمني ودرجة الإلحاح. فبعض المخاوف، مثل الإرهاب والسياسة الانتقامية الروسية، يشكل أخطاراً فورية وملحة. أما البعض الآخر، مثل الذكاء الاصطناعي وقوة الصين الصاعدة، فهي مخاوف على المدى المتوسط. وهناك تحديات أخرى، مثل تغير المناخ، تخلق تحديات في الوقت الراهن، غير أن تأثيرها الأكبر سيكون على المدى الطويل. وكلما كان صناع السياسات أكثر وضوحاً في شأن التوقيت المتوقع لتهديدات محددة، كان من الأسهل على الحكومة تخصيص الموارد بصورة صحيحة. غير أن هذا لا يعني وجوب مزاحمة العاجل للمهم. بل يعني بدلاً من ذلك صياغة أساس منطقي لتحويل بعض الموارد بعيداً من التهديدات المهمة ولكن طويلة الأجل. كما أن من شأن تحديد الأولويات العاجلة أن يتيح للإدارات المتعاقبة توضيح المبادرات التي تنوي تفعيلها أثناء توليها المنصب.
وثمة طريقة أخرى لتوضيح الأهمية النسبية لتهديد الأمن القومي تتمثل في تحديد ما إذا كانت المشكلة تتطلب تدابير استباقية أو استجابات دفاعية أو مزيجاً من الاثنين معاً. وعلى سبيل المثال، لا يمكن التصدي للفيروسات الجديدة التي قد تتسبب في انتشار الأوبئة قبل ظهورها ويصعب احتواؤها بمجرد ظهورها، لذا فإن الأمر يستدعي اتخاذ موقف وقائي. يجب أن يكون مسؤولو الصحة العامة مستعدين لتتبع المخالطين وإجراء الاختبارات، ويجب أن يكون العلماء متأهبين لإجراء الأبحاث وتركيب الاختبارات واللقاحات. ومع ذلك، فإن محاولة القضاء التام على الأمراض التي انتقلت بالفعل من الحيوانات إلى البشر هي مضيعة للوقت والموارد. ومن ناحية أخرى، قد يتطلب إحباط الخلايا الإرهابية اتخاذ تدابير هجومية مثل العمل السري أو استخدام القوات الخاصة. ويتطلب التعامل مع قوة الصين الاقتصادية والعسكرية الصاعدة مجموعة من الردود الهجومية والدفاعية لحماية الولايات المتحدة بصورة أفضل من دون تفاقم التوترات بلا داع إلى حد النزاع المسلح.
يمكن للحكومة أن تصدر بطاقة تقييم سنوية لتصنيف مخاوف الأمن القومي بحسب ترتيب الأهمية الحالية. ومن شأن مثل هذا النهج أن يمكن صناع السياسات من تسليط الضوء على مجالات الأمن القومي التي يعتقدون أنها تستدعي الاهتمام الأكبر الآن، وأن يظهر للجمهور كيف صنفت التهديدات المختلفة على مر الزمن. وعلى القدر نفسه من الأهمية، ستسمح بطاقات التقييم للإدارات بالتقليل من أهمية بعض التهديدات من دون استبعادها بالكامل، أي إنها ستجبر المسؤولين الأميركيين على تحديد القضايا الأقل أهمية من غيرها. وحتى لو ثبت أن التصنيف المحدد مثير للجدل، فإن مثل هذا التمرين من شأنه أن يجلب مزيداً من التركيز على مناقشات الأمن القومي ويساعد في تحديد التهديدات التي لم تقدر بصورة كافية.
كثيراً ما مثلت معايرة أولويات الأمن القومي تحدياً للمسؤولين الأميركيين. في يناير (كانون الثاني) 1950، ألقى وزير الخارجية دين أتشيسون خطاباً شهيراً في نادي الصحافة الوطني حدد فيه أجزاء العالم التي تقع ضمن "محيط الدفاع الأميركي". لم يشمل شبه الجزيرة الكورية. ومع ذلك، عندما غزت كوريا الشمالية جارتها الجنوبية بعد أقل من ستة أشهر، نشرت إدارة ترومان 300 ألف جندي. لم تكن كوريا أولوية للأمن القومي الأميركي – إلى أن غدت.
وفي السنوات الـ70 التي تلت ذلك، توسع نطاق تعريف الأمن القومي بصورة يكاد يكون غير قابل لإدراكه. وضاعفت التقنيات الجديدة من الوسائط التي يمكن للقوى الخارجية من خلالها تهديد الولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، ولأن القضايا الأمنية تستحوذ على عدد أكبر من الموظفين والموازنات، فإن أصحاب المشاريع السياسية لديهم حوافز قوية لتأطير مصالحهم على أنها مسائل تتعلق بالأمن القومي. فالقوى التي تدفع بالقضايا إلى طابور الأمن القومي أقوى بكثير من القوى التي تدفع صانعي السياسات إلى استبعادها. وعلى رغم ذلك، وحتى مع هذا التوسع، صدمت الولايات المتحدة بالأحداث: 11 سبتمبر (أيلول)، وجائحة كوفيد-19، وهجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وأن مجرد وجود قائمة طويلة من التهديدات لم يساعد حقاً في الاستعداد لما هو غير متوقع.
وتفاقم الحملات الانتخابية الوطنية جميع عيوب بيروقراطية الأمن القومي وتزيدها سوءاً. إذ يعلن المرشحون الرئاسيون بنحو روتيني أن الانتخابات تتعلق بروح الأمة، وأنه إذا فاز الطرف الآخر، فلن يكون للأميركيين بلد يدافعون عنه. وبالنظر إلى مدى الاستقطاب الذي تشهده الولايات المتحدة الآن، يبدو من المرجح أن ينمو هذا الاتجاه في الفترة التي تسبق انتخابات عام 2024. ومع ذلك، يجب على مرشحي الحزبين توضيح أي القضايا من قضايا الأمن القومي يعتقدون أنها أكثر إلحاحاً وأيها أقل، وأيها يتطلب استجابات استباقية وأيها يتطلب استعداداً أفضل.
قد لا يتفق الأميركيون أبداً اتفاقاً تاماً حول ما هو قضية أمن قومي وما هو ليس قضية أمن قومي. لكن العملية التي تتيح لصانعي السياسات الاتفاق على كيفية الاختلاف ستتيح تحسين خطاب الأمن القومي، وفي الوضع المثالي، تحسين الأمن القومي.
دانييل و. دريزنر أستاذ متميز في السياسة الدولية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس
مترجم عن "فورين أفيرز"، عدد سبتمبر/ أكتوبر 2024