ملخص
مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في شأن حرب غزة قال إن نحو 110 ألف شخص عبروا قطاع غزة إلى مصر، فيما قتل نحو 40 ألف، بحسب السلطات الفلسطينية، بينما يقدر عدد السكان الموجودين في القطاع بنحو 2.1 مليون شخص فقط.
بعد اندلاع الأحداث السورية ببضعة أشهر، بدأت أخبار مراكب المهاجرين الهاربين من نيران الحرب تطل على العالم من سوريا إلى تركيا، ومنها على متن قارب على أمل الوصول إلى أي من دول الاتحاد الأوروبي.
عائلات سورية بأكملها واجهت خطر الموت غرقاً أو جوعاً أو برداً على ظهر قارب مطاطي وجهته شمال المتوسط، وهناك من سار مئات الكيلومترات وعبر حدوداً دولية بطرق غير مشروعة ليختبئ شهوراً طويلة في ليبيا انتظاراً لدوره في خوض مغامرة المتوسط.
التقديرات الأممية تشير إلى أن نحو 5 ملايين سوري تركوا سوريا منذ بداية الصراع، والغالبية توجهت إلى تركيا ولبنان ودول أخرى في الشرق الأوسط، لكن الآلاف عبروا أو حاولوا عبور وما زالوا يحاولون البحر المتوسط، إن لم يكن هرباً من صراع دموي انتهى أو قارب على الانتهاء فبحثاً عن حياة أفضل بعيداً من الفقر والبطالة والخدمة العسكرية وبقايا الحرب.
عدد من قفزوا
مجلس اللاجئين النروجي قدر عدد من قفزوا في المتوسط على متن قوارب في رحلة تتعادل احتمالات الموت فيها مع احتمالات النجاة عام 2023 فقط بـ 157651 شخصاً، غالبية هؤلاء كانوا من غينيا وتونس وكوت ديفوار وبنغلاديش وبوركينا فاسو وسوريا وباكستان ومصر ومالي والسودان.
وهؤلاء وغيرهم لا يتوانون عن خوض مغامرة المتوسط يومياً بسبب الحروب والفقر والخوف والاضطهاد وتغير المناخ والبحث عن حياة أفضل.
كثير من الدول التي تدفع ظروفها بعضاً من أبنائها لخوض مغامرة القفز في البحر المتوسط لا تطل على البحر أصلاً، وهذا يعني أن مسارات الهجرة تشكل مشياً على الأقدام لأسابيع وشهور وعبور حدود واختباء في أماكن لا تقل خطورتها عن خطر القبض عليهم، هذه الملايين التي عبرت وتلك الآلاف التي ماتت على مدى عقد كانت تعتبر البحر المتوسط غاية المنى وكل الأمل في الحياة.
المنظمة الدولية للهجرة تقدر عدد من ماتوا أثناء محاولة عبور المتوسط منذ عام 2014 وحتى أغسطس (آب) 2024 بنحو 30245 شخص، وهم المؤكد موتهم فقط، هذا العدد يضع البحر المتوسط على رأس مسارات الهجرة المميتة في العالم، وعلى رغم ذلك لا الأعداد تقل أو المحاولات تتوقف.
محاولات أهل غزة
محاولة واحدة فقط يثير غيابها حيرة بعضهم، إنها محاولة أهل غزة، أو بعض أهل غزة، الهرب مما يكابدونه يومياً منذ اليوم التالي لعملية "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين أول) 2023 بالقفز في البحر المتوسط.
خريطة غزة التي بات يعرفها الجميع بسبب الحرب الضروس في القطاع وامتداد القطاع على ساحل البحر المتوسط بطول 40 كيلومتراً كاملة، لدرجة تجعل القطاع برمته يبدو وكأنه شريط ساحلي لا يؤدي إلا إلى سؤال واحد: لماذا لا يقفز أهل غزة في البحر؟
يبدو السؤال قاسياً، فمن الذي يفترض أو يدعو أو حتى يراوده سؤال كهذا؟ لكن من قفزوا في البحر قبلهم لديهم الإجابة التي يصوغها تقرير لـ "مجلس اللاجئين النروجي" بقوله "عندما يكون الناس على استعداد لتحمل أخطار عبور البحر الأبيض المتوسط، فهذه شهادة على يأسهم، إنهم يعلمون أن هناك احتمالاً بعدم بقائهم على قيد الحياة، ويعلمون أنهم يواجهون خطر إعادتهم، ولكن في ظل الأوضاع بالغة الصعوبة في الدول التي قدموا منها، ومع تزايد الصراع والجوع، فإنهم لا يرون أية خيارات أخرى".
خيارات من بقوا في القطاع من أهل غزة تكاد تكون منعدمة باستثناء خيار البحر، وعلى رغم ذلك لا يقفزون فيه، وحتى قبل الحرب الحالية كان نصيب المكون الفلسطيني في قوارب الهجرة عبر المتوسط قليلاً إلى حد كبير، حيث رغب الشباب في الهجرة وفكر الرجال فيها وربما طرأت على بال النساء والفتيات، لكن أعداد المهاجرين سواء من نجوا أو غرقوا ظلت قليلة مقارنة بجنسيات أخرى، ومع الأخذ في الاعتبار النسبة مقارنة بعدد السكان.
تلميحات عن "حماس"
حتى التلميحات التي كان بعضهم يصوبها لحركة "حماس" بأنها ربما ضالعة في تسهيل أو التغاضي أو تجاهل هجرة بعضهم من أهل غزة عبر الأنفاق ومنها إلى الشواطئ المصرية أو الليبية أو التونسية استعداداً لركوب قارب يقلهم إلى إيطاليا أو غيرها، وذلك بعد حادثة غرق بشعة لقارب يقل عائلات فلسطينية هربت من الفقر والتضييق في غزة قبالة السواحل المالطية، قوبلت باتهامات من "حماس" لـ "فتح" بأن الأخيرة تستغل الحادث سياسياً للإساءة إلى الحركة.
اليوم تعاود تلميحات الظهور ولكن هذه المرة يقول بعضهم إن "حماس" تمنع الراغبين في الهرب "بالقوة"، وإن كانت قوة غير معلنة أو غير موثقة أو مختفية وسط كم العنف والقتل والدمار والفوضى الناجمة عن الحرب الشرسة والتهجير المستمر والعنف الآخذ في التمدد.
هذه الأقاويل تقابلها كالعادة أقاويل أخرى تؤكد أن شعبية "حماس" زادت بعد عملية السابع من أكتوبر 2023، وحتى "القلة" من أهل غزة من المعارضين لـ "حماس" وحكمها تحولوا إلى دعمها وتأييدها بسبب الحرب.
أقاويل وأقاويل مضادة
الواقع الذي اتضحت معالمه بعد ساعات من عملية "حماس" يتحدث عن نفسه، ونشرات الأخبار وتقاريرها وتغطيات مجريات الحرب وتفاصيل حياة أهل غزة اليومية تخلو من قوارب تحمل حالمين بالنجاة عبر المتوسط، وبحسب تقرير لـ "مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة" يعود لعام 2011، فإنه على امتداد شريط الشاطئ في غزة لم يتم إنشاء أي جدار حدودي، ولا يتمتع سكان القطاع بحرية الوصول إلى البحر، وعلى كل فلسطيني معني بالإبحار أن يطلب إذناً من إسرائيل، ومن حصل على إذن مسموح له الإبحار فقط على مسافة محددة، وسبق لسفن تابعة لسلاح البحرية الإسرائيلي أن أطلقت النار غير مرة على وسائط الإبحار التي ابتعدت من الشاطئ أكثر من المسموح به".
ويشير التقرير إلى أنه في "الاتفاق المرحلي" الذي وقع عليه بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، تعهدت إسرائيل بالسماح لسفن الصيد من غزة بالإبحار مسافة نحو 37 كيلومتراً من خط الشاطئ، باستثناء بعض المناطق المحظور الوصول إليها تماماً.
تصاريح الإبحار
عملياً لم تكن إسرائيل تصدر تصاريح الإبحار لكل من يطلبونها، وسمحت بصيد الأسماك لمسافة قليلة جداً قبل أن تقلص مجال الإبحار أكثر فأكثر، ومنذ خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط عام 2006 زاد التضييق أكثر، ومع فرض الحصار على القطاع براً وبحراً منذ سيطرت "حماس" على الحكم عام 2007 لم يعد لميناء غزة الذي كان الإطلالة البحرية والتجارية الأهم للقطاع أهمية تذكر.
ويشار إلى أنه في نوفمبر (تشرين ثاني) 2023 أعلن الجيش الإسرائيلي "السيطرة العملياتية" على ميناء غزة بحجة أن "حماس" تستخدمه كمنشأة تدريب لتوجيه وتنفيذ اعتداءات بحرية.
التضييق عبر أنظمة مراقبة حديثة وصارمة عامل مهم بكل تأكيد ومن شأنه أن يحول دون محاولات بعضهم القفز في الماء بغرض الهجرة واللجوء، اتباعاً لمبدأ الحق في الحياة.
أسمى الحقوق
الحق الذي يتحدث عنه الكاتب الصحافي الفلسطيني يوسف الشايب لـ "اندبندنت عربية" قائلاً "الحق في الحياة على أرض الوطن أسمى الحقوق التي كفلتها الشرائع السماوية والأرضية والأخلاقية، وهو حق لا ينتزع، وكثير من أبناء شعبي المقيمين في قطاع غزة وحالياً في الضفة كذلك يتعرضون لمحاولة انتزاع هذا الحق، لكن غالبيتهم تصر على البقاء ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً".
ويضيف المتحدث "لا أعتقد أن يفكر أهل غزة بأن يرموا بأنفسهم في الحرب، هي فكرة أقرب ما تكون إلى الفانتازيا، لكن لا أعتقد أن جميعهم موحد في اتخاذ مثل هذه الخطوة المفترضة".
ويوضح الشايب أنه "قبل حرب الإبادة الحالية كانت هناك محاولات للهجرة من القطاع لأسباب عدة ومنها البحث عن مساحة حرية أوسع، ولا سيما للشباب من الجنسين، وعلى وجه الدقة الذكور الذين تتاح لهم مغامرة الهجرة عبر قوارب الموت، وغالبيتهم لقي حتفه في البحر، ربما لقناعة إن الانتحار في البحر أفضل من الحياة التي هي أقرب إلى الحياة في القطاع".
وتابع الشايب "لكن ما يعيشونه حالياً من حرب إبادة جعل من تبقى منهم على قيد الحياة يشعر أنه كان يعيش حياة راغدة قياساً بما يكابدونه يومياً، الوضع نفسه يمكن أن ينطبق على الضفة الغربية، ولكن بدرجات متفاوتة حيث مستوى القمع على كبره، ولا سيما في الشمال والآخذ في التصاعد، لا يقاس بما يجري في غزة".
فكرة الهجرة
ويقول المتحدث إن فكرة الهجرة من غزة تتفاوت بين الأجيال، فجيل الستينيات فما فوق أكثر تشبثاً بالأرض وغالبيتهم تفضل أن تلقى حتفها في بيوتها أكثر من إلقاء نفسها في البحر أو حتى النزوح، ويشاركها في هذا الشعور قطاع من الشباب الأربعيني والثلاثيني وربما حتى ممن هم في العشرينيات، والدليل على ذلك أن هناك حالياً في شمال غزة، على رغم خطورة وقسوة الأوضاع، ما لا يقل عن 300 ألف فلسطيني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتطابق ما يقول الشايب عن أفكار الهجرة واللجوء مع نتائج استطلاع عن ميول وتوجهات الهجرة بين الفلسطينيين، فعشية السابع من أكتوبر 2023 قال نحو ثلثي الفلسطينيين في قطاع غزة إنهم يفكرون في الهجرة، ودوافعهم الرئيسة، بحسب "الباروميتر العربي" وهو المؤسسة البحثية التي شاركت في الاستطلاع بالتعاون مع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، اقتصادية وسياسية وتعليمية وأمنية، إضافة إلى مخاوف خاصة بالفساد والتضييق.
فرار في البحر
ويتحدث الشايب عن التضييق ويقول "في السابق كان في الإمكان أن يلقي الشاب من غزة بنفسه في البحر لعله ينجو بالسباحة أو على متن قارب أو ما شابه، وحالياً وفي ظل الوجود المستمر للقوات البحرية لجيش الاحتلال التي دأبت على قصف قوارب الصيد الفلسطينية حين تتجاوز على مزاجهم، تسيطر هذه القوات على كل المساحات البحرية مما يجعل فكرة القفز في البحر أو ركوب قارب مستحيلة".
وتابع المتحدث، "تظل فكرة النزوح من غزة سواء داخلها أو اجتياز الحدود إلى دولة أخرى بحثاً عن الحياة وقدر من الأمان واردة، ومن استطاع أن يتوجه إلى مصر سواء للعلاج أو غيره فعل ذلك عبر سداد مبالغ كبيرة لشركات في غزة تتبع شركات في مصر، وحالياً توقفت هذه الرحلات تماماً على حد علمي بعد سيطرة قوات الاحتلال تماماً، وأصبحت فكرة الخروج من غزة عبر معبري رفح أو بيت حانون أو من طريق البحر مستحيلة التنفيذ على أرض الواقع".
وقبل اندلاع الحرب الحالية بيوم كان نحو 31 في المئة من أهل غزة يرغبون في الهجرة، وهي رغبة تفوق رغبة أهل الضفة الغربية (21 في المئة)، والرجال والشباب كانوا الأكثر تفكيراً في الهجرة، وربما هذا يعود لعوامل ثقافية، والشباب كانوا الأكثر عدداً على قوائم التفكير في الهجرة بحثاً عن عمل وفرصة حياة أفضل، وجاء الاقتصاد في المرتبة الأولى المؤدية إلى الهجرة تليه أسباب سياسية ثم فرص التعليم الأفضل.
واللافت أن الأسباب الأمنية مثلت سبباً للهجرة بين سكان الضفة أكثر من غزة بفعل تصاعد عنف المستوطنين الإسرائيليين عام 2023، وذلك "بعد تشكيل واحدة من أكثر الحكومات اليمينية تطرفاً دينياً وقومياً في تاريخ إسرائيل".
العجز واللاجدوى
"بدأت أشعر أن ثمة إحساساً بالعجز واللاجدوى في غزة، وأتمنى ألا تنتقل هذه العدوى إلى كامل الجغرافيا الفلسطينية، إذ ينتاب بعضهم شعور بأنهم ليسوا في حاجة إلى دعوات الآخرين لهم بالنجاة، بقدر ما يطالبون ببذل ضغط على إسرائيل لتقصفهم جميعاً وتنهي حياتهم المأسوية معاً، فكرة مجنونة، لكنه الألم والشعور بالعجز"، يقول الشايب.
وتابع حديثه "في ظل الحال الراهنة لو كان في إمكان الفلسطينيين أن يلقوا بأنفسهم في بحر غزة لفعلوا، لعلهم ينجون أو يموتون في أحضانه، وهي فكرة فانتازية لا تخطر على بال أعظم كتاب العالم، لأن ما يحدث في غزة لا يطرأ على بال أعتى كتاب قصص الرعب، وما يرفرف على بحر غزة اليوم هو الموت وليس النوارس".
لا يمكنهم المغادرة
بعد اندلاع حرب القطاع بأربعة أيام نشرت وكالة "بلومبيرغ" مقالة رأي للكاتب الأميركي بوبي غوش عنوانها "لا، الفلسطينيون لا يمكنهم المغادرة ببساطة"، استعرض فيها غوش جغرافية غزة معلقاً أن "المساحة المتاحة داخل جيب غزة التي يمكن أن يلجأ إليها ويحتمي بها أكثر من مليوني شخص وانتظار انتهاء القتال ضئيلة جداً، والحصار الذي تفرضه إسرائيل مُصمم، على حد تعبير وزير الدفاع يوآف غالانت، بشكل يترك غزة من دون كهرباء أو طعام أو ماء أو غاز، كل شيء مغلق".
ويقول غوش إن غالبية أهل غزة أجبروا على ترك بيوتهم وأحياءهم لكن لا يوجد مكان آمن يقصدونه، مضيفاً "في الظروف العادية ستدفع الغريزة البشرية أهل غزة نحو الخروج من القطاع والاستفادة مما يقال في الإعلام عن توفير الممرات الآمنة لمن يرغب في الهرب، لكن كل ما يجري في غزة ليس طبيعياً، وهذا لا يعود للحرب الحالية فقط بل إلى ظروف القطاع منذ عام 2006، وسيطرة 'حماس' بعد أشهر قليلة من انسحاب القوات الإسرائيلية"، لافتاً إلى أن معظم الفلسطينيين الذين يعيشون هناك احتجزوا فيما تسميه جماعات حقوق الإنسان "أكبر سجن مفتوح في العالم".
هل يودون تركها؟
ويطرح غوش السؤال الأهم وهو هل سكان غزة يودون تركها؟ ويرد بالقول إن "الغالبية المطلقة من سكان غزة هم بالفعل لاجئون قدموا إليها من مدن وقرى أصبحت الآن إسرائيل وكذلك الضفة الغربية، وعلى رغم أن التفاؤل في شأن عودتهم لديار أجدادهم قليل جداً، لكن غالبيتهم يدرك أن قطاع غزة هو المكان الوحيد الذي يمكنهم فيه التشبث بهويتهم كفلسطينيين، إنهم يخشون أنهم إذا غادروا هذه البقعة الأخيرة من وطنهم فقد لا يتمكنون من العودة أو لا يسمح لهم بذلك أبداً، أن تصبح لاجئاً مرتين مصير لا يرحب به سوى قليلون".
ويعود الكاتب الأميركي بعد مرور أقل من أسبوع على اندلاع حرب الإبادة الحالية ليشير إلى أن الحرب تهز القناعات وتغير الأولويات، "لذا فقد يكون كثير من سكان غزة حالياً منفتحين على المغادرة لإنقاذ أسرهم وأنفسهم من الإصابة أو الموت".
ونوه غوش إلى ما كان يواجهه الفلسطينيون الفارون صوب الجنوب في بدايات الحرب، ليس فقط القذائف الإسرائيلية، ولكنهم ظلوا عرضة لإثارة غضب "حماس"، مضيفاً أنه على رغم تسليم السيطرة على المعبر إلى السلطة الفلسطينية قبل أكثر من خمسة أعوام لكن مسلحي الحركة كانوا يراقبون القادمين والمغادرين، ولا ينأون بأنفسهم عن تنفيذ عمليات إعدام على سبيل ترويع السكان من فكرة الهجرة.
مضى عام
لم تمض أيام على الحرب بل مضى عام كامل، والترويع صار متعدد المصادر، وعلى رغم ذلك لم يقفز أهل غزة في البحر.
مخاوف في محلها وشكوك مفهومة تدور حول كل مطالبة أو مناشدة أو حتى تأكيد على حق سكان غزة في الخروج أو الفرار، وتفريغ القطاع وإنهاء القضية ومحو الهوية وغيرها من أسباب التوجس مفهومة لمناصري حق الفلسطينيين في الأرض وداعمي غزة وسكانها في مأساتهم وفلسطين وقضيتها، وعلى رغم ذلك يظل هناك من ينادي بـ "الحق في الفرار".
وفي أبريل (نيسان) الماضي تطرق مدير وحدة اللجوء والهجرة في "هيومان رايتس ووتش" بيل فرليك إلى حق سكان غزة في الفرار لا البقاء فقط، وكتب تحت عنوان "لا مخرج من غزة" أن "متطرفين في البوسنة والهرسك روعوا المدنيين في تسعينيات القرن الماضي، ودفعوهم إلى مغادرة منازلهم بهدف تغيير الخريطة السكانية عبر التطهير العرقي، وأن مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين رفعت مبدأ حق البقاء مدفوعاً برعبها وهي تشاهد النزوح القسري العنيف، وعلى رغم ذلك فإن المفوضية وغيرها من الأطراف الإنسانية لم تتمكن من وقف التطهير العرقي".
مبرر اللجوء
وأضاف فرليك أن ما فاقم الأمر هو استغلال الدول الأوروبية "الحق في البقاء" كمبرر لمنع طالبي اللجوء من الفرار من البوسنة، وأعلن مجلس الأمن الدولي مناطق آمنة لاحتواء النازحين وحمايتهم داخل البوسنة، وتقف المقابر الجماعية للرجال الذين ذبحوا في سريبرينيتسا شاهداً على فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين.
ويقول فرليك إنه "بعد 30 عاماً هناك 2.3 مليون فلسطيني محاصرين في غزة، ولكن على عكس البوسنة لا يوجد مكان داخل تلك المنطقة الصغيرة المكتظة بالسكان يمكن حتى أن يُزعم أنه آمن"، مشيراً إلى أنه ينبغي السماح للفلسطينيين في غزة بالبقاء بكرامة في منازلهم وممارسة حق العودة، ولكن لديهم أيضاً حقوق أخرى بموجب المعاهدات يجب أن تحترمها جميع الدول وهي الحق في مغادرة بلد ما، والحق في طلب اللجوء وعدم الإعادة القسرية، أي عدم إعادتهم أو دفعهم إلى العودة لمواجهة الاضطهاد أو غيره من التهديدات الخطرة".
وتابع المتحدث أن "الفلسطينيين لهم الحق في العيش بكرامة في منازلهم، ولهم أيضاً الحق في المغارة حفاظاً على أمنهم والعودة بأمان وكرامة، ووقف التهجير القسري وغيره من الجرائم الفظيعة هو الأولوية القصوى في هذه اللحظة، ولكن عندما تُعطل جميع حقوق الإنسان الأخرى يصبح الحق في الفرار الخيار الأخير الباقي، ولا يمكن إلغاء هذا الخيار".
وهذا يعود للسؤال: لماذا لا يقفز أو يهرب سكان غزة في البحر؟ هل لأن الخيار ملغي؟ أم لأنهم لا يعتبرونه خياراً من الأصل سواء لاستحالته أو عدم رغبتهم؟
ويشار إلى أن مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في شأن حرب غزة أندريا دي دومينيكو قال إن الأمم المتحدة خفضت تقديرات عدد السكان في غزة قبل الحرب بأقل من 2,3 مليون نسمة، وذلك "لغرض وحيد وهو التخطيط للعمل الإنساني".
وقال دومينيكو إن نحو 110 آلاف شخص عبروا إلى مصر، بحسب سلطات الحدود، وقتل نحو 40 ألف فلسطيني في الحرب، بحسب السلطات الصحية الفلسطينية، مكرراً "فقط لأغراض تتعلق ببرامجنا في المساعدة الإنسانية نقدر عدد السكان الموجودين في غزة بنحو 2.1 مليون شخص فقط".