ملخص
قدم المخرج الرائد وليد عوني، عرضه المسرحي "صدى جدار الصمت" في افتتاح مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، مع فرقة الرقص المسرحي الحديث في دار الأوبرا المصرية، متناولاً القضية الفلسطينية، وحرب الإبادة الدائرة الآن في غزة. واستطاع مزج الجمالي بالسياسي، ليكون عمله أشبه بوثيقة فنية، شديدة الثراء والتأثير.
ليس من السهل الاشتباك، فنياً، مع لحظة آنية، حادة وساخنة. ربما تطلب الأمر وقتاً، ومسافة فاصلة، لتأمل الحدث، وإعادة تفكيكه، لاستيعابه وهضمه، حتى يمكن التعامل معه إبداعياً. تزداد الصعوبة هنا، عندما يكون هذا الحدث منقولاً، صوتاً وصورة، وبشكل مباشر، عبر وسائل الإعلام المختلفة. أي خيال إبداعي ذلك الذي يمكنه التعبير عنه في صياغة فنية، تكسبه قوة وتأثيراً، أكبر من البث المباشر، وتكسبه البقاء أيضاً، كوثيقة جمالية شديدة الثراء والعمق والعذوبة؟
في عرضه المسرحي "صدى جدار الصمت" الذي استهل به مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عروض مسابقته الرسمية، تحدى المخرج الرائد وليد عوني هذه البديهيات، وعكس، بالرقص، والموسيقى، والغناء، والضوء (تصميم ياسر شعلان) أحداث الإبادة الجماعية الحادثة الآن في قطاع غزة، ليفاجأ الجمهور بهذه اللوحات الفنية المتتابعة، والمتنافرة أحياناً، وقد صيغت درامياً في قالب فني متماسك، وتصله إجابة السؤال الذي ردده قبل العرض: كيف سيقدم المخرج عرضاً عن أحداث نشاهدها حية، على الهواء مباشرة، ونتأثر بها، ونبكي لأجل ضحاياها، ونعجب من صمت العالم تجاهها، ما الجديد الذي سيأتي به ليجعل الأثر أشد عمقاً؟
صحيح أن عرضه المسرحي، الذي لم يستغرق سوى 45 دقيقة، لم يقتصر فقط على الأحداث المروعة الجارية الآن، بل غاص عميقاً في تاريخ فلسطين، منذ ولادة السيد المسيح، مروراً بتحرير صلاح الدين الأيوبي للقدس، وانتهاء بالمجزرة الحادثة الآن، لكنه انطلق من غزة، التي تباد بأهلها، على مرأى ومسمع من الجميع، وانتهى كذلك منها، مستمسكاً بالأمل، من خلال تلك الطفلة التي ظهرت في النهاية بفستانها الوردي، تلعب على أرجوحتها ثم تلقي بالحجارة على مغتصبي بلادها وقاتلي أهلها، بينما يتردد، في الخلفية، صوت أم كلثوم: "راجعين بقوة السلاح" كأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، بعيداً من ميوعة المفاوضات، التي أثبت التاريخ عدم جدواها، وبعيداً كذلك من ألاعيب الساسة.
إنه الأمل، الذي حرص المخرج على بثه في نفوس مشاهديه، متجاوزاً حالة التباكي، وقلة الحيلة، وعدم القدرة على فعل شيء، بعيداً من الشعارات والهتافات، التي شبعنا منها، وربما ظهور الطفلة في آخر العرض، جاء للتأكيد على أن تلك الأرض التي أنجبت ملايين الأبطال لن تكف أبداً عن إنجاب المزيد منهم.
صياغة فنية
نجح وليد عوني في صياغة فكرته عبر الرقص المسرحي، الذي يصور، في إبداعية مدهشة، مشاهد القتل والتدمير، وفرار الأهالي من هنا وهناك تحت القصف، وجهود الفرق الطبية لإنقاذ المصابين، وسط نفاد المعدات والمستلزمات الطبية، وكذلك قتل الصحافيين، وذلك كله عبر الأداء الحركي المتقن لراقصي فرقة الرقص الحديث التابعة لدار الأوبرا المصرية.
استعان وليد عوني، في مشاهد أخرى، بأغاني فيروز، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وكذلك بموسيقى فاغنر، وفيفالدي، متضافرة مع الرقص، ليشحن صورته بالدلالات، ويجعلها أكثر تأثيراً، ربما لإدراكه أن الرقص وحده، على قدرته التعبيرية، في تلك المشاهد، لا يمنح المعنى الذي يريد توصيله، قوة وتأثيراً من دون أن تساعده تلك الأغاني، والمقطوعات الموسيقية.
نعم لجأ وليد عوني إلى المباشرة والصوت العالي في بعض المشاهد، لكن المباشرة هنا ليست عن نقص وعي أو قلة خبرة، بل هي شديدة الوعي والقصدية، أي أنه تعمدها، فالظرف نفسه، في سخونته واحتدامه، لا يسمح بالاستغراق في نثر الرموز والعلامات، وإن كان فعلها كثيراً في العرض، لكنه من وقت لآخر أراد التنبيه، بصوت مرتفع وصاخب وحاد، إلى المجزرة البشرية القائمة، وسط صمت عالمي كصمت القبور.
استدعاء الخبرات
بدا وليد عوني مستعيناً ومحتشداً بكل خبراته في هذا النوع من المسرح، الذي يخلو من الكلمة، ويعتمد فقط على قدرة الراقص على فهم الحالة وتمثلها وتجسيدها عبر مفردات جسده، وقدرته هو كمخرج، على الاقتصاد في الديكور وكيفية تحريكه وتشكيله ومزج مشاهده المتتابعة، والمختلفة في موضوعاتها، من دون فجوات تقطع السياق أو تشتت عين المشاهد، فهناك عدة بانوهات يشكل منها الجدار العازل، ثم يهدمه، ويشكل بيوتاً وشوارع وخياماً، وغيرها من نفس تلك القطع، وربما يكون مشهد العشاء الأخير الذي تم تجسيده من خلال الأقمشة، التي بدت كمنضدة يجلس عليها السيد المسيح وحواريوه، من أبرع المشاهد التي تم تجسيدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استخدم وليد عوني أيضاً تلك البانوهات، كشاشات لعرض المادة الفيلمية التي تعكس بصورة سريعة مشاهد من المذبحة، وكلمات للأطفال الذين فقدوا أسرهم، كما لعب بقطع القماش الأبيض التي استعان بها الراقصون في بداية العرض كما لو كانت أكفاناً للشهداء، وضعوها في مقدمة خشبة المسرح، التي كان بها أيضاً مجرى مائي غير مرئي للمشاهد.
تميز إيقاع العرض بالسرعة والحدة والسخونة، كأنه انعكاس لما يجري على أرض الواقع، وعلى رغم ذلك فقد تضافر الجمالي والسياسي معاً، من دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وذلك في توليفة يجيد وليد عوني صياغتها بحرفية شديدة.
لم يتخل وليد عوني عن أسلوبه الذي قدم به من قبل عدة مسرحيات، بخاصة مسرحياته عن المثال المصري محمود مختار، والمخرج السينمائي شادي عبد السلام، والتشكيلية تحية حليم، و"كوفيد 19" وغيرها، لكنه هذه المرة، وربما لطبيعة الحدث الذي يتناوله، بدا أكثر ميلاً إلى الشعبية، أي أكثر ميلاً إلى توسيع دائرة المخاطب، وهو هنا الجمهور العام، الذي لم يتعود على هذا النوع من المسرح، ففوجئ بعرض يخاطبه منذ الوهلة الأولى، ليس هذا فحسب، بل إنه عرض يمس قلبه، ويثير دموعه، على رغم أنه بعيد تماماً من الميلودراما، التي كان المخرج واعياً إلى الابتعاد منها، بخاصة أنها لا تناسب خطابه المسرحي المعتاد.
"صدى جدار الصمت"، كان عنواناً ذكياً ودالاً، فإذا كان هناك جدار عازل أقامته دولة الاحتلال، فإن هناك أيضاً جداراً من الصمت، صنعه العالم، بخاصة القوى العظمى، وكأنه لا يسمع بما يحدث في القطاع المكلوم، كأنه يغض الطرف عن المجازر، مكتفياً ببيانات هزلية، فيأتي العرض كما لو كان يردد قول المتنبي: "وأسمعت كلماتي من به صمم" فهل يسمع العالم؟