Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غزة ليست إلا حلقة في انهيار الترتيبات الدولية القائمة

وضعت إسرائيل كل منظومة الديمقراطية الغربية ومؤسسات المجتمع الدولي في أسوأ اختبار منذ ولادتها ولا بد أن شعوباً كثيرة تتساءل الآن عن مصير المأزق

نتنياهو يقف أمام خريطة قطاع غزة أثناء حديثه خلال مؤتمر صحفي في المكتب الصحفي الحكومي بالقدس، 4 سبتمبر 2024 (أ ف ب)

ملخص

ثمة مصادر عديدة لتهديدات تتعلق باهتزاز النموذج الغربي، وبصورة خاصة مدى قدرته على مواصلة الاحتفاظ بمكانة الهيمنة في المجتمع الدولي.

تشير متابعة تحولات التاريخ من عصور الإمبراطورية المصرية القديمة وحضارات العراق والصين، ثم الإغريق والرومان والحضارة العربية الإسلامية، إلى أن التحولات تحدث في غالب الوقت نتيجة انهيارات داخلية تساعد حيناً، وتؤدي في حين آخر إلى صعود قوى إمبراطورية جديدة. وربما كانت تحولات أوروبا في القرون الحديثة هي الأسرع مقارنة بما كان يحدث في الإمبراطوريات القديمة، وكان الانتقال من هيمنة قوى أوروبية بحرية إلى أخرى يسير بوتيرة أسرع حتى استقر لواء السيطرة في يد الإمبراطورية البريطانية التي أنهكت قدراتها وأدواتها وسلمت القيادة للحليف الأميركي.

لكن، في كل هذه العصور الحديثة كان لواء السيطرة في يد الحضارة الغربية ينتقل من عاصمة لأخرى، ولكنه مستقر في يد قوى غربية بيضاء بروتستانتية، تاركة هامشاً للكاثوليك، وبصورة معقدة، ولكنها أثبتت أيضاً في علاقاتها ومخاوفها المعقدة تجاه روسيا السلافية الأرثوذكسية أنها لا ترتاح لمشاركة هذه القوة الأخيرة، وهي تبذل كل جهدها حالياً لمنع صعود الصين التي لا تنتمي قطعاً لمنظومتها الغربية، وبصورة أكثر وضوحاً من روسيا الأوروبية المسيحية.

على أنه يمكن القول إن شواهد عديدة تشير إلى تدهور القوى الغربية، ليس فقط لصعود قوى جديدة، ولكن لأن تناقضاتها الداخلية تزداد وضوحاً، أي إن ما نقصده هنا ليس بالضرورة صعود قوى جديدة من عدمه. إن الترتيبات الدولية القائمة منذ الحرب العالمية الثانية تبلورت بعد استكمال سيطرة واشنطن، والقوى الغربية تتعرض لتحديات عميقة.

أكبر من صعود اليمين

إذا كانت مفاهيم الديمقراطية البرلمانية ومفاهيم الحريات وحقوق الإنسان أحد المكونات الأساسية للحضور والتفوق الغربي، فإن هناك سردية تتردد منذ بعض الوقت تنظر بكثير من القلق إلى ظواهر صعود اليمين في أكثر من دولة غربية، من بينها الولايات المتحدة بوصف هذا تهديداً لهذا المكون الجوهري من المشروع الغربي - الذي لا يزال الأعلى صوتاً في العالم - والحقيقة أن هذه السردية تحتاج إلى تفحص أكثر دقة، فلا يمكن اختزال مفهوم حقوق الإنسان والحريات في السماح باستقبال مهاجرين، أياً كان مصدرهم، ولم تظهر تغيرات جوهرية في الممارسة الديمقراطية الإيطالية بعد وصول جورجيا ميلوني إلى مقعد رئاسة الوزراء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أنه من دون شك هناك معضلة أميركية كبيرة تحيط بدونالد ترمب قد يكون أوضحها ما حدث في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 عند تسليمه السلطة لبايدن، ولكن تكرار هذا وارد للغاية إذا خسر ترمب الانتخابات، والرجل تحدث كأي ديكتاتور من دول الجنوب حول أنه إذا خسر الانتخابات فإن هذا سيكون نتيجة تزوير سيقدم عليه خصومه، إذن الموقف خطر، واللغة التي يستخدمها ضد خصومه أيضاً خطرة وتثير القلق، والرجل يتحدث بجدية عن إجراءات تقييد ضد الآخرين غير الأنغلوساكسون وغير العرق الأبيض.

وفي الحقيقة فإن ثمة مصادر عديدة لتهديدات تتعلق باهتزاز النموذج الغربي، وبصورة خاصة مدى قدرته على مواصلة الاحتفاظ بمكانة الهيمنة في المجتمع الدولي، مع ملاحظة أنني لا أستخدم تعبير النظام الدولي كونه في حال ارتباك واضطراب غير مسبوقة. وأهم هذه المصادر هما الاستقطاب الدولي والمحلي في كثير من دول العالم، والثاني هو الخلل في منظومة السلم والأمن الدوليين. وفي هذا الإطار تأتي ما رسخته حال غزة لتضعف بنيوياً ومستقبلياً أية دلالة لتماسك المنظومة الدولية المنهارة بالفعل.

الاستقطاب ومستوياته

الاستقطاب في عالمنا المعاصر له مستويات متعددة، وليس أمراً جديداً، إلا عندما يتحول إلى صراع مصيري، وعلى المستوى الدولي من الواضح أن هناك قوى صاعدة تريد استكمال صعودها أياً كانت النتيجة، حتى لو دفعت شعوب ضعيفة أثماناً باهظة لهذا السبب. والحرب الروسية - الأوكرانية نموذج مؤلم لحرب مصيرية واستنزاف عميق من كل طرف للآخر، وتحولت منذ أشهرها الأولى لمعركة صفرية خطرة بصرف النظر عن الكلفة الحالية التي يدفعها الشعبان الروسي والأوكراني وباقي دول الغرب المستنزفة في هذا السباق العسكري، فضلاً عن نتائج جوهرية على الاقتصاد العالمي لكلفة هذه الحرب.

وفي ظل هذا أيضاً تأتي ساحات الصراع في الشرق الأوسط، في ليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان والسودان، إذ توجد قوى تسعى إلى السيطرة على هذه الملفات وتتماشى معها قوى داخلية في هذه الساحات، كل يسعى إلى تدعيم أوراقه ومصالحه وينطلق من أن الترتيبات الدولية التي سادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في حال تغيير، وتتواصل معاناة شعوب هذه الساحات من تحولهم لبيادق في هذا الصراع على حساب مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة.

والاستقطاب الأخطر هو الداخلي الأميركي الذي يعكس استمرار أهمية ومكانة هذه الدولة، وهو استقطاب يقوده معسكر ترمب حالياً ممثلاً للقوى الإنجيلية المسيحية البيضاء في مواجهة فسيفساء المجتمع المتنوع الذي أصبح غالبية ويجد مقاومة من المعسكر الأول للمشاركة في الحكم واقتسامه. هذا النوع من الاستقطاب المصيري يرسخ شحنة توتر دائمة في المجتمع الأميركي ويهدد الجانب الإيجابي في تراثه السياسي.

قمة تهديد الترتيبات

كانت إسرائيل دوماً دولة مارقة تتحدى القانون الدولي وتسعى إلى فرض إرادتها ورؤيتها وحدها، لكنها مع ذلك كانت تشيع سردية أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة المحاطة بأعداء غير ديمقراطيين. وكثيراً ما ارتكبت إسرائيل كثيراً من الجرائم والانتهاكات القانونية منذ ما قبل نشأة الدولة في مذابح دير ياسين وغيرها وخلال الحروب المتعددة وغزو لبنان، وعلى رأسها فضيحة "مذبحة قانا"، وتجاوزت إسرائيل كثيراً خلال حروب غزة السابقة وخلال مواجهة الانتفاضات الفلسطينية. مع كل ذلك فإن ما يحدث الآن هو نقلة نوعية وكمية في التجاوزات في فترة زمنية قصيرة، إذ إن ارتدادات ما يحدث ستتجاوز إسرائيل ذاتها والغرب الذي يؤيدها.

ففي المرة الحالية لدينا قرارات من مجلس الأمن صدرت على رغم تعطيلها أشهراً بسبب الفيتو الأميركي والبريطاني، ثم الأميركي وحده، ثم صدر قرار كان ينبغي تنفيذه، وهناك قرارات لمحكمة العدل الدولية واضحة وصريحة وضربت بها إسرائيل عرض الحائط. وهناك طلب استدعاء من مقرر المحكمة الجنائية الدولية لنتنياهو وغالانت وزير دفاعه، ولكن قضاة المحكمة يرتعشون من شدة التهديدات الإسرائيلية والأميركية ويواصلون التسويف، ولو على حساب آخر ما تبقى من سمعة المحكمة التي يعملون بها. وتبدو المفارقة من البيان الصادر من الاتحاد الأوروبي أخيراً بانتقاد منغوليا لاستضافتها الرئيس بوتين وعدم إلقاء القبض عليه، مع أن جرائم بوتين لا تقارن بما يجري في الأراضي الفلسطينية. فضلاً عن ذلك فإن وقائع استهداف المنظمات الدولية والإنسانية في غزة، واليوم في الضفة، فاضحة ومخجلة لضمير العالم، ومن المؤكد أن بيان منظمة العفو الدولية أخيراً حول جرائم الحرب الإسرائيلية هو أيضاً تطور مهم في هذا الصدد.

لقد حول نتنياهو معركة بقائه السياسية والجنائية إلى معركة بقاء القضية الفلسطينية ومعركة بقاء الترتيبات الدولية الجارية، ولكنه سواء تمكن من تصفية القضية الفلسطينية، مع استبعادنا ذلك، أم لم يتمكن، وهو الأرجح، فقد وضع الترتيبات الدولية الجارية وكل منظومة الديمقراطية الغربية ومفاهيم حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع في أسوأ اختبار منذ إنشاء المنظمة الأممية عام 1945. ولا بد أن كثيراً من شعوب العالم حتى في الدول الغربية يتساءل الآن عن مصير هذا المأزق الذي سببته إسرائيل، وما جدوى الحديث عن حقوق الإنسان، ومن الذي يستطيع أن ينصب نفسه الآن مدافعاً عن هذه القضية، هل ستقتصر المهمة على عدد من دول أوروبا، بينما تتراجع الدول الأكبر غربياً وتفقد صدقيتها تماماً؟ العالم في مأزق، لكن قلة من يتنبهون حالياً لذلك وهم يشاهدون مظاهر انهيار ترتيبات دولية بصورة تذكرنا بمظاهر انهيار ترتيبات ما قبل الحرب العالمية الثانية من دون أن يعني هذا بالضرورة أننا في انتظار حرب عالمية جديدة.

المزيد من تحلیل