ملخص
فشل في المرحلة الأولى في إقناع رؤسائه في الـ"بي بي سي" بتبني تلك الفكرة الجنونية، فكرة فحواها نقل مسرحيات شكسبير البالغ عددها 37 مسرحية إلى التلفزة، لكنه لم ييأس بل توجه إلى أعلى سلطة من أصحاب القرار في تلك المؤسسة التي تعتبر أيقونة إنجليزية حقيقية. وجاء القرار بسرعة إيجابياً: "لمَ لا، ما الذي يمنعنا من أن نخوض تجربة من الواضح أن وقتها قد حان؟".
لم يكن الممثل الشكسبيري العريق والعتيق جون جيلغود يمزح حين سئل ذات يوم عن رأيه في ما أنجزته شبكة التلفزة الرسمية البريطانية من تصوير تلفزيوني لمجمل أعمال شاعر الإنجليز الأكبر وليام شكسبير في عام 1985، فهز رأسه بكل هدوء قائلاً ما يعني أن النتيجة جاءت "كما ينبغي تماماً". على لسان فنان آخر غير جيلغود كان يمكن لهكذا إجابة أن تبدو سلبية، لكن من هذا الفنان الذي ارتبط طوال عمره في القرن الـ20 بالمسرح الشكسبيري كان الجواب في منتهى الدقة والموضوعية والإيجابية.
غير أن كثراً غيره كانوا أكثر حماسة بكثير بما أن منهم من قال إن الخمسة مواسم التي قدمتها الـ"بي بي سي". طوال أعوام بدءاً من ديسمبر (كانون الأول) 1978 وحتى أبريل (نيسان) 1985 كانت وستبقى ليس فقط من أعظم الإنجازات الإبداعية في عالم الإنتاج التلفزيوني، بل كذلك من أعظم ما تعاملت به الكاميرا التلفزيونية – السينمائية مع ذلك التراث الشكسبيري العظيم.
والحقيقة أنه لم يكن ساهياً عن بال هؤلاء أن مئات من مبدعي الأمم جميعاً قد تشاركوا طوال القرن الـ20 في نقل روائع شكسبير من المسرح والعروض العامة على شتى أنواعها، إلى الشاشات الكبيرة والصغيرة وفي كل اللغات، لكن الإنجليز الذين أنجبت أمتهم ولغتهم وتاريخهم ذلك المبدع الكبير ما كان من شأنهم أبداً أن يرضوا بأن يتفوق عليهم أحد في ذلك. هم بالكاد قبلوا بأن يشاركهم أميركي كأورسون ويلز وإيرلندي ككينيث براناه ذلك المجد. ونظروا بكثير من الممنونية إلى ياباني كآكيرا كوروساوا يقتبس مفخرتهم القومية معتبرين إياه يخدم أممية إبداعهم.
لا بد من الصف الأول
أما حين يجد الجد فلا بد أن يكونوا في الصف الأول ومن الأفضل أن ينفردوا في تلك المكانة. وذلكم على أية حال ما بدأ ومنذ عام 1975 المنتج التلفزيوني سدريك مسينا يسعى إلى تحقيقه في وقت بالكاد بدأت فيه التلفزة ببداياتها التقنية تكتشف قدراتها الفذة. ففي ذلك الحين كان مسينا قد انطلق في تقديم برنامج على الشاشة الصغيرة عنوانه "مسرحية الأسبوع" يصور فيه على الهواء مباشرة مسرحية من تلك الأعمال العظيمة المنتمية إلى الريبراتوار المسرحي.
والحال أن مسينا التلفزيوني بامتياز إنما كان يحاول في ذلك أن يقتفي خطى أستاذ كبير له في العمل للشاشة الصغيرة كان قد حقق لتلك الشاشة منذ عام 1937 تقديماً لمسرحية شكسبير "كما تحبها" من تمثيل هنري أوسكار وإيفون آرنو. ولنا أن نتصور كم كان التقديم بائساً على رغم عظمة الممثلين الرئيسين وجهود المخرج روبرت إتكنس، أستاذ مسينا. ومن هنا حين شعر هذا الأخير أن ثمة تطوراً في التقنيات بات يسمح له أواسط سنوات الـ70 بالعودة إلى شكسبير محققاً حلم إتكنس القديم، لم يكن من المصادفة أنه اختار مسرحية "كما تحبها" نفسها على سبيل التجربة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت تجربة ناجحة جعلت مسينا يتحمس بصورة استثنائية، لكنه، لئن كان نجاح ذلك التقديم لتلك الكوميديا الشكسبيرية، قد جعله يشعر بنفسه قادراً على كل شيء، فشل في المرحلة الأولى في إقناع رؤسائه في الـ"بي بي سي" بتبني تلك الفكرة الجنونية التي كان قد ورثها عن إتكنس: فكرة فحواها نقل مسرحيات شكسبير البالغ عددها 37 مسرحية، بين تاريخية وكوميدية وتراجيدية، إلى التلفزة، لكنه لم ييأس بل توجه إلى أعلى سلطة من أصحاب القرار في تلك المؤسسة التي تعد أيقونة إنجليزية حقيقية. وجاء القرار بسرعة إيجابياً: "لمَ لا؟ ما الذي يمنعنا من أن نخوض تجربة من الواضح أن وقتها قد حان؟".
ومن فوره انطلق مسينا محققاً حلماً لا شك أنه داعب كثراً من أهل الفن الإنجليز الذين كان لسان حالهم لا ينفك يردد دائماً في كل مرة شاهدوا فيها عصرنة لعمل شكسبيري، "ولكن في مقدورنا أن نقدم ما هو أفضل". وهكذا تحققت تلك "المعجزة الصغيرة" عبر ثمانية أعوام شهدت إنتاج المسرحيات الشكسبيرية برمتها واحدة تلو الأخرى موزعة على خمسة مواسم.
موسمان فقط لمسينا
لكن سدريك مسينا كان عليه أن يكتفي بالموسمين الأولين وكذلك حال الموسيقي وليام والتون الذي كتب الموسيقى لمسرحيات ذينك الموسمين ليحل محلهما في المواسم الثلاثة الباقية في الإخراج دون تايلور واليا موشنسكي وجوناثان ميلر وجيمس تشيلان جونز، بينما كتب موسيقى المواسم الثلاثة التالية ستيفن أوليفر.
ولقد بدا من الطبيعي على أية حال أن تكون النتيجة قد تجاوزت بفضل تقنيات الأسطوانات المدمجة العروض التلفزيونية المرتبطة بالمواسم المحددة. فالحال أن المتن الشكسبيري يشغل اليوم أكثر من ثلاث دزينات من تلك الأسطوانات يمكنها أن تشغل زاوية صغيرة في كل بيت، وهي تفعل ذلك بالتأكيد، وليس في البلاد الإنجليزية فقط بل في كل بلد وزعت فيه المجموعة مترجمة إلى لغات عديدة. لا سيما في فرنسا حيث راحت المجموعة تصدر منذ أكثر من دزينة من الأعوام عن منشورات "مونبارناس" الباريسية التي كان احتفالها منذ البداية لائقاً بصدور المجموعة الأولى المكونة من خمس أسطوانات في علبة واحدة تصل مدة عرضها معاً إلى ما يتجاوز الـ10 ساعات وتضم الكوميديات الشهيرة والمقتبسة بالنسبة إلى كل منها عشرات المرات في السينما والتلفزيون والأوبرا بل حتى الشرائط المصورة، "حلم ليلة صيف" و"سيدان من فيرونا" و"كوميديا الأخطاء" و"خاب سعي العشاق"، إضافة إلى "ترويض الشرسة" التي لا بد أن نتذكر كيف أبدعت فنانتنا الراحلة سعاد حسني في تمثيل دورها الأول في اقتباس سينمائي عربي بالغ الطرافة.
منافسة بين أهل البيت الواحد
ولعل الطريف في الأمر أن نفس منشورات "مونبارناس" خلقت نوعاً من منافسة غير متكافئة بين هذه المجموعة، التي لم تكن على أية حال سوى إصدار أول تبعته مجموعات تالية ضمت على التوالي ما أنتجته الـ"بي بي سي" نفسها من بقية المسرحيات الشكسبيرية، وبين تلك المجموعة الأخرى التي كانت سبقت مجموعة التلفزة البريطانية والمعروفة باسم "مجموعة الكوميدي فرانسيز" ضامة ما اعتبره النقاد "المسرحيات الـ25" التي أنتجها ذلك المسرح الفرنسي الشهير في تاريخه موزعة على 25 أسطوانة مدمجة يمتد زمن عرضها إلى 52 ساعة.
ولئن كنا نقول إن المنافسة غير متكافئة فما هذا إلا لأن المجموعة الإنجليزية شكسبيرية عن حق وحقيق، لا سيما انطلاقاً مما كان لا بد له من أن يكون على تلك الشاكلة أي "كما ينبغي" بحسب تعبير جون جيلغود: أي الاختيار الذي يبدو بدهياً للقائمين بالأدوار وهم المعروفون في إنجلترا كما في العالم أجمع من جودي ديتش أي جيلغود نفسه ومن إيان ماكلين إلى هيلين ميرين مروراً بجون كليز وروجر دالتري. ويقيناً أن بقية الأسماء التي لا تتسع لها هذه العجالة لا تقل أهمية ولا شكسبيرية.
ضربة معلم على الطريقة الشكسبيرية
ففي الحقيقة كانت ضربة الـ"بي بي سي" ضربة معلم. وربما كلمة "النهاية" التي يمكن أن تسجل أعلى آفاق تصل إليها "ترجمة" بالصورة للمتن الشكسبيري موضوعة في كل بيت وفي تصرف كل من يقتني جهاز عرض للأسطوانات المدمجة يجعل الفرد في بيته يشعر أنه يمتلك ذلك التراث الإبداعي النادر ولا يكلفه استعادته أمام ناظريه أكثر من عدة أقداح من الشاي يحتسيها ليغيب في الإبداع المسرحي وقد خيل إليه أنه انتقل من صالون بيته إلى مسرح الغلوب عند نهايات القرن الـ16 وبدايات الذي يليه جالساً في حضرة ملكين معاً: ملكة إنجلترا المحبة للفنون إليزابيث الأولى التي تستمتع بالمسرحات المعروضة أمامها استمتاعه هو نفسه بها، وملك المسرح الإنجليزي والعالمي وقد عبر نصف ألفية من الزمن ولا يزال قادراً على إضحاكنا وإقلاقنا وتدميرنا وترميمنا كما يحلو له.
وأمام مثل هذا الشعور هل سيبدو مهماً حقاً أن يطلع بين الحين والآخر من يقول لنا إن شكسبير لم يوجد حقاً. فيجيبه آخر مبتسماً، "ربما يمكننا القول إن شكسبير لم يوجد، بالتالي أن من كتب كل تلك الروائع العابرة للعصور وللتقنيات ولكل التطورات التي عرفتها البشرية، شخص آخر سيحلو لنا أن نسميه وليام شكسبير" والدليل على ذلك تلك الأسطوانات الرائعة التي لا تحتل سور بضعة سنتيمترات في زوايا بيوتنا.