ملخص
قدمت فرقة "الوطن" السعودية، العرض المسرحي "الظل الأخير" على خشبة المسرح القومي في القاهرة، ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وهو من تأليف فهد ردة الحارثي وإخراج الفنان البحريني خالد الرويعي.
في مسرحية "الظل الأخير" لفرقة "الوطن" السعودية، لا دراما في معناها التقليدي، وكذلك لا حوارات أو مونولوغات، لا شيء من ذلك كله، فقط نحن أمام تشكيلات جمالية، وبضع كلمات، أقرب إلى الشعر، منثورة على ألسنة الممثلين، لكنها كلمات أقرب إلى المطارق التي تنزل فوق رؤوس المشاهدين لتوقظهم من سكونهم.
السؤال إذاً، هل حضر المسرح أم غاب، في هذه المسرحية التي تم تقديمها على المسرح القومي في القاهرة، ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي؟.
لم يغِب المسرح بالتأكيد، وإن حضر في صيغة تجريبية، يمكن نسبتها إلى المسرح ما بعد الدرامي، ذلك المسرح الذي يشير الباحث المسرحي الألماني هانس تيس ليمان إلى أنه المسرح الذي لم يعُد يلتزم في المقام الأول الدراما، كأولوية في العرض، أي المسرح الذي تراجع فيه دور النصوص الدرامية الأدبية، وحلت محله أشكال التمثيل والأداء التي أفرزت بدورها جمالية مسرحية غير تقليدية، تعتمد في جوهرها على العارض- اللاعب باعتباره مركز العملية المسرحية، فلم يهدف مسرح ما بعد الدراما إلى تقديم عرض مسرحي مخلص وأمين تجاه النص الدرامي، بل إلى خلق تأثير ما لدى المتفرج من خلال اللعب بالعلامات المكانية والبصرية والصوتية.
هكذا فعل المخرج خالد الرويعي الذي شكل فراغه المسرحي بمعادلات مرئية للكلمات، مستعيناً بالضوء والصوت وحركة الممثلين، وإن حضرت الكلمة هي الأخرى في ضربات سريعة وخاطفة وشعرية.
نص العرض (تأليف فهد ردة الحارثي) لم ينشغل بتقديم حكاية لها قوام من بداية ووسط ونهاية، هو انشغل أكثر بطرح أسئلة فلسفية تخص الإنسان في كل زمان وأي مكان، أسئلة تتعلق بفكرة السكون والانتظار، تتعلق بالقيد الداخلي الذي يصنعه الإنسان لنفسه ليصبح أشد وطأة من أي قيد خارجي، الإنسان الذي يقف مكانه من دون حركة حتى يتآكل تماماً، فالحركة هنا تعني الفعل، تعني الظل الأخير الذي يمكن أن يحتمي به الإنسان، ومن دونه ينمحي وجوده.
عبارات مفتاحية
يفتح العرض على خمسة ممثلين (فهد الغامدي وعبدالله الحمادي وعمر مسعود وعلي الخميس ورزان البرق) لا نعلم من هم، ولا في أي مكان أو زمان هم موجودون، فقط يرددون عبارات مكررة على مدى العرض الذي لم يستغرق سوى 45 دقيقة. من تلك العبارات "يا من أطال النوم قُم، يا من أطال الصد قُم، الوقت يمر"، ولا ندري في البداية من هو المخاطب، لكننا شيئاً فشيئاً ندرك، ربما، أنهم هم المخاطبون أنفسهم، وكأننا أمام خطاب محوري يشكل جوهر الرسالة التي يطرحها العرض.
الممثلون الخمسة يظهرون في البداية بملابس موحدة، يحملون أشجاراً ذابلة فوق ظهورهم، ثم سرعان ما تُنزع هذه الأشجار عنهم ونكتشف أنهم مقيدون بحبال من الخلف تحول دون تحركهم بحرية، يكررون حواراتهم اليومية ويتساءلون متى يأتي، من هو الذي ينتظرونه؟، لا نعرف، ربما مخلص ما، لكنه لن يأتي، هو موجود في داخلهم، وهو قيدهم الذاتي الذي يحول دون أن تثمر أحلامهم، قيدهم المعنوي الذي إذا لم يتحرروا منه، فسيظلون يتحركون في أماكنهم حتى يتآكلوا تماماً، ولن يشرق صبح ليلوّن فضاءات وجوههم المظلمة.
قراءة الذات
إنها محاولة لقراءة ذواتنا وتحريرها من القيود التي تكبلها، همٌّ إنساني يخصنا جميعاً، في أي زمان وأي مكان، وربما تعمد مخرج العرض خالد الرويعي أن يستعين بأربعة ممثلين ومعهم ممثلة، ليس لمجرد إشراك عنصر نسائي فحسب، بل للتأكيد كذلك على أن الهم مشترك بين الجنسين، أي إن وجود الممثلة هنا لم يكُن مجانياً بقدر ما كان ضرورة تفرضها طبيعة القضية التي يطرحها العرض.
العنوان الأصلي الذي وضعه فهد ردة الحارثي لنصه كان "الناس والحبال"، لكن عنوان العرض أخذ "الظل الأخير" وهو، في ظني، اختيار صائب وأكثر عمقاً في دلالته، ويتماس كذلك مع طبيعة العرض ومنحاه التجريبي، فضلاً عن أنه يطرح أكثر من خيار لتلقي العرض ومحاولة الإجابة عن أسئلته.
قدم المخرج خالد الرويعي رؤية تشكيلية مبهرة لعرضه، ناثراً كثيراً من العلامات، سواء عن طريق أجساد الممثلين الذين شكلوا صوراً وتكوينات دالة وموحية، أو عن طريق الإضاءة (باسل الهلالي) التي قامت بدور مهم في تشكيل صورة العرض، واستطاعت خصوصاً من مصادرها الرأسية أن تحدد الحال النفسية للممثلين، ومتى يشعرون بضيق المكان أو اتساعه، وكأنها قامت بدور الديكور في المسرح الخالي تماماً من أي قطعة ديكور، سوى شاشة في العمق تعكس بعض المشاهد للكون، وذلك في "تحدٍّ سينوغرافي" إذا صح القول من المخرج، إذ اعتمد فقط على هذه الأدوات التي تمثلت في أجساد الممثلين والإضاءة والموسيقى (يوسف قازاني) ليشكل صورة العرض بكل هذا الإبهار والمتعة البصرية.
ملمح صوفي
في العرض كذلك هناك ملمح صوفي، إذ أدى الممثلون وإن بصورة رمزية رقصة المولوية بحركاتها المتعددة التي تعني في ما تعنيه فصل الذهن عن القلب، والبدء بالعلو والاستعداد للسفر وملء الروح بالطاقة الكونية والقلب بنور الله والنفس بجمال الكون والتحرر والتجرد من كل الذنوب، وهو ملمح نفسي ربما أراد المخرج من خلاله التأكيد أكثر على فكرة الحركة التي هي ضد الذبول والتآكل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كان مؤلف النص فهد ردة الحارثي ترك متعمداً مساحات فارغة في نصه الذي جاء مشحوناً بالشعرية والأسئلة الوجودية، فقد استغل المخرج خالد الرويعي تلك المساحات ليمارس لعبته الأثيرة في التشكيل، ويضفر كل تلك العناصر التي توافرت بين يديه في صياغة مشهدية على قدر عالٍ من المتعة الجمالية التي تظل عالقة طويلاً بأذهان المشاهد.
لا نستطيع تمييز الممثلين عن بعضهم بعضاً، فلا شخصية رئيسة هنا ولا شخصية مساعدة، هم فقط كانوا أداة طيّعة في يد المخرج، استطاع استغلالهم بصورة جيدة في تشكيلاته البصرية، تلك التشكيلات التي يمكن أن نستنبط منها كثيراً من المعاني أو الرموز، وهو أمر كما يحسب للمخرج، يحسب لهؤلاء الممثلين أيضاً الذين بدوا كصوت واحد، أو كممثل واحد، مما يتماس مع طبيعة العرض ورسالته أيضاً، وجاءت حركتهم وقدرتهم على استخدام أجسادهم وتطويعها بمرونة لتجسيد مشاهدهم، وكذلك طريقة نطقهم للكلمات واختلاف إيقاع النطق، صعوداً وهبوطاً، وتنوع أصواتهم ما بين الحدة والخفوت بحسب الحالة، جاء كل ذلك ليشير إلى وعيهم بطبيعة شخصياتهم التي يمكن اعتبارها شخصية واحدة.
"الظل الأخير" عرض نوعي، صعب، لا يسلم نفسه من الوهلة الأولى، ولا يسعى إلى إرضاء جمهوره على حساب تعميق الرؤية والإكثار من العلامات والدوال، لكنه بقدر ما يمتعه بصرياً، بقدر ما يستفزه ويدفعه إلى التفكير والسؤال.