ملخص
الأجيال الأكبر سناً حالياً تزخر ذكرياتها بكثير من الأوقات السعيدة التي أمضوها في تجمعات عائلية كبيرة، ويفتقد أبناؤهم حالياً هذه التجارب بفعل أسباب كثيرة.
منذ عقود مضت، حافظ المصريون على تجمعاتهم الأسرية الكبيرة التي كانت تشهدها عطلات نهاية الأسبوع في بيوتهم، إذ كانت بيوت الجدات تمتلئ بصخب الأطفال وحديث الكبار، وإعداد أنواع من الطعام المفضل في أجواء يسودها الحب والترابط والرغبة في صلة الأرحام.
كان التزاور والتجمعات العائلية عادة منتظمة عند الأسر تتم بشكل دوري، ولا تقتصر على الأعياد والمناسبات التي أصبحت أيضاً لا تشهد القدر نفسه من الزيارات مثل فترات سابقة، ولعل هذا الوضع الجديد أدى إلى حال من التفكك الأسري وانقطاع الروابط بين العائلات، ليصبح الأمر ظاهرة جديرة بالملاحظة في كثير من المجتمعات العربية.
الأجيال الأكبر سناً حالياً تزخر ذكرياتهم بتجمعات في بيوت الجدات والأخوال والأعمام وأوقات سعيدة تشاركوا اللعب مع أطفال العائلة ومواقف طريفة وأوقات ممتعة مرت وقت كانت البيوت مفتوحة لاستقبال أفراد العائلة ببساطة شديدة ومن دون تكلف حتى في حال العزائم أو الدعوة على الغذاء أو العشاء، كان أبسط شيء يقوم بالغرض ولا يلاقي انتقادات أو عدم استحسان، فكما قال المصريون في المثل الشعبي "بصلة المحب خروف"، أي إن أقل شيء سيكون كبيراً، فالأهم التواصل والترابط وإبقاء حبل الود ممتداً بين أفراد العائلة.
استبدل بعضهم الزيارات العائلية في البداية بالمكالمات الهاتفية، ولاحقاً بالسؤال السريع عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي يرى بعضهم أنها من أهم العوامل التي أدت إلى قطع العلاقات الحقيقية بين الناس، فبدلاً من المكالمة الهاتفية أصبح الشخص يرسل واحدة من الصور الجاهزة للتهنئة بمناسبة ما، ويعتبر أن الأمر انتهى والواجب قضي بهذه الطريقة الجافة.
إيقاع الحياة سريع
تحكي هبة سالم مدرسة لغة إنجليزية (45 سنة)، "في طفولتي كنا بشكل أسبوعي نتوجه إلى منزل جدتي، أو نجتمع في منزل إحدى الخالات أو العمات. كانت هذه عادة مستمرة وكنت أنا وإخوتي تربطنا علاقة وثيقة بأبناء الأخوال والأعمام، وكنا ننتظر هذا الحدث الأسبوعي بفارغ الصبر. الآن بعد أن تزوجت وأنجبت وصار أبنائي في سن المراهقة أستطيع أن أقول إن الأمر مختلف كلياً بالنسبة إليهم، فأصبحت الزيارات العائلية مقتصرة فقط على الأعياد والمناسبات، والعلاقات العائلية ذاتها أصبحت فاترة وليست بها حماسة. لا أستطيع الجزم بالسبب الذي أوصلنا إلى ذلك، ولكن يمكن أن يكون الإيقاع السريع للحياة والمشاغل".
بينما يقول محمد عادل (39 سنة)، إن "الترابط الأسري كان من أهم الأشياء التي ميزت طفولتنا، فكانت البيوت مفتوحة دائماً ولم تخل من زائر أو قريب، وكان دائماً مرحباً بنا في بيوت العائلة كافة، أعتقد أن اقتصار هذه العادات له أسباب متعددة من بينها الإيقاع السريع للحياة وصعوبة ظروف العمل. وأعتقد أن من أسبابها أيضاً تعرض الناس لكم من الرسائل على السوشيال ميديا تدعو إلى الفردية وقطع العلاقات أو تقليصها، من نوعية أن راحتك أولاً وسلامك النفسي أولوية، واعتزل ما يؤذيك، وهلم جرا من العبارات التي أصبحت تكرر بشكل مستمر على مسامع الأجيال الجديدة التي أصبحت لا ترغب في التواصل مع أحد حتى لو بمكالمة هاتفية وليس زيارة".
كيف ترى الأجيال الجديدة الزيارات العائلية؟
يمكن اعتبار أن ظاهرة تقلص الزيارات العائلية بدأت مع مطلع الألفية ووصلت إلى ذروتها في السنوات الأخيرة، فالأجيال التي أمضت طفولتها حتى فترة التسعينيات دائماً تذكر هذه التجمعات العائلية، باعتبارها كانت جزءاً أصيلاً من ذكرياتهم وعادة تحرص عليها أسرهم بشكل كبير ولا تقصرها على الأعياد والمناسبات فقط.
تقول مريم (18 سنة - طالبة في الصف الثالث الثانوي) "أذهب مع أسرتي إلى تجمعات عائلية في بعض المناسبات، ولكني أفضل أن يكون هذا اللقاء بالخارج في النادي كما نفعل أحياناً، فبالنسبة إلي يكون أفضل من حيث وجود بعض النشاطات يمكن أن نمارسها ولا يجعل الوقت يمر ببطء، فأنا لا أفضل اللقاءات الطويلة لأني أشعر بالملل. أنا أحب عائلتي ولكني أحياناً أشعر بالضيق من انتقادهم أو تدخلهم في بعض شؤوني خلال هذه التجمعات، بخلاف ذلك فليست لدي مشكلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بينما يقول عبدالرحمن (20 سنة - طالب جامعي)، "لا تزال عائلتي تحافظ على تقليد التجمعات الأسرية، وفي حالتي فإن أبي هو أكبر إخوته ويحرص على جمعهم في منزلنا في وليمة سنوية في شهر رمضان وأحياناً في الأعياد. في بعض الأوقات نذهب في زيارات عائلية لمنازلهم، ولكن ليس بشكل منتظم كما يحكي والداي عن أنهم كان هذا شيئاً ثابتاً في طفولتهم. أعتقد أن مشاغل الناس حالياً لا تسمح بمثل هذا النوع من العلاقات، فطبيعة العمل لساعات متأخرة جداً بالتالي الانشغال بأمور الأسرة في الإجازة الأسبوعية قضي على مثل هذه العادات حالياً باعتبار أن الناس ليس لديها وقت ولا طاقة لها".
غرفة المسافرين
عرفت بيوت المصريين ربما طوال حقبة القرن الـ20 مع اتجاه المنازل للطابع الحديث ما كان يطلق عليه غرفة المسافرين، وهي غرفة في صدر المنزل تضم صالوناً مذهباً وتغلق حتى يتوافد الضيوف، بحيث تكون معدة لاستقبالهم في أي وقت حتى ولو بشكل مفاجئ. كان هذا الأمر مقبولاً حينها ربما لعدم توافر وسائل الاتصال بسهولة مثل عصرنا الحالي، ومع مرور السنوات بدأت غرفة المسافرين في الاختفاء من بعض المنازل حتى اختفت تماماً، وصارت هناك صالة استقبال أساسية في المنزل أحياناً تكون هي نفسها المكان الذي يمضي فيه أهل البيت حياتهم اليومية ويطلقون عليه غرفة المعيشة.
صغر حجم المنازل حالياً بدرجة كبيرة الذي أصبح هو السائد يعتبر واحداً من العوامل التي جعلت بعض الناس لا تفضل الزيارات العائلية والتجمعات في المنازل، بعكس زمن سابق كانت البيوت واسعة وتتيح عقد تجمعات كبيرة من دون ضغط على أصحاب المنزل.
تغير شكل ونمط الحياة بالكامل في العقود الأخيرة سواء في طبيعة العمل أم في شكل المنازل أم حتى في الالتزامات المطلوبة من الأسر تجاه أبنائها، سواء في ما يتعلق بالدراسة أم التمارين الرياضية والكورسات التي أصبحت أساسية لكثير من الناس مثلها مثل الدراسة التي أصبحت تستهلك وقت نهاية الأسبوع كاملاً، انعكس بدرجة كبيرة على كثير من العادات الاجتماعية ومن بينها الزيارات العائلية والتواصل بين الناس بشكل عام.
الأماكن العامة بدلاً من البيوت
تقول استشاري الطب النفسي هالة حماد "إن من الظواهر التي أصبحت لافتة بالفعل هو اتجاه العائلات في اللقاءات للنوادي والأماكن العامة بدلاً من التزاور في البيوت الذي اعتدنا عليه دائماً. وبشكل عام اللقاءات العائلية قلت جداً ولم يعد لها أولوية عند الناس، وهذا له أسباب متعددة من بينها الضغط الكبير الذي يعانيه الناس حالياً والعمل لساعات طويلة وربما في أكثر من وظيفة لتلبية الحاجات والرفاهيات التي أصبح كثير منها من أساسات الحياة. من ناحية أخرى فإن المسافات أصبحت شاسعة بامتداد العمران في المدن، واتجاه كثير من الناس للسكن في المدن الجديدة فتناثرت العائلات من الشرق للغرب، وأصبح الأمر يحتاج إلى وقت طويل بعكس سابقاً كانت المسافات محدودة والانتقال بين منازل العائلات سهل ولا يحتاج إلى وقت طويل".
وترى أن "من الأسباب أيضاً التي أدت إلى قلة الزيارات العائلية هي وجود جيل جديد قضى كثير منهم طفولته بصحبة أسرته في الخارج في دول الخليج وغيرها، فعاشوا طفولتهم من دون المرور بذكريات الزيارات العائلية المنتظمة والتجمعات الكبرى في المناسبات والأعياد، فهم ليس لديهم من الأساس قيم الترابط الأسري والتواصل الدائم مع العائلة، وهو بالنسبة إليهم شيء ليس له أولوية. أيضاً من الأسباب المهمة هو نزوح كثير من الناس من المدن الصغيرة والمناطق الريفية للمدن الكبرى، فتتفتت العائلات بعدما كانت متركزة في مكان واحد، فقد يصبح كل منهم في محافظة، بالتالي لا توجد فرصة للتزاور إلا على فترات متباعدة جداً".
الأزمات الاقتصادية والزيارات العائلية
حالياً بفعل الغلاء الشديد والأزمات الاقتصادية التي يشهدها كثير من المجتمعات وفي الوقت نفسه التكلف والبعد من البساطة واعتماد المظاهر والتفاخر بين الناس، أصبحت الزيارات والمجاملات الاجتماعية عبئاً ثقيلاً على الناس، فالالتزامات الشهرية والغلاء لا يجعل هناك فائضاً لمثل هذه المجاملات الاجتماعية، بالتالي حذفها كثير من الناس من حياتهم أو قلصوها لأقل حد ممكن.
تقول (سلوى - ربة منزل - 34 سنة)، إن زيارة أي شخص من العائلة حالياً تتطلب كلفة كبيرة، فلابد من اصطحاب هدية تليق بنا ومهما كانت بساطتها حالياً فالأمر أصبح مكلفاً. وأضافت "ظهرت بعض الدعوات أخيراً تنادي باستبدال أطباق الحلوى والهدايا بأشياء مفيدة مثل خزين للمنزل، ولكن هذا لا يحل الأزمة فهي الكلفة نفسها، وبعضهم قد لا يتقبل هذا الأمر على الإطلاق. حالياً اقتصرت زيارتنا العائلية على منزل أمي وحماتي، وأرى أن هناك تحولاً عاماً عند كل الناس في الفترة الأخيرة يسير في هذا الاتجاه. بالطبع الأمر مؤسف، ولكن الضغوط أصبحت صعبة والمظاهر أصبحت تحكم كل شيء".
في حين تشير مروة حسن إلى (41 سنة)، وهي اختصاصية اجتماعية في إحدى المدارس، إلى أنه "منذ بداية الارتفاع الشديد في الأسعار منذ سنوات عدة اعتمدنا فكرة (الديش بارتي) في العزائم خلال شهر رمضان أو في أي تجمع عائلي، فأصبحت كل أسرة تعد صنفاً من الطعام في منزلها ونجتمع في بيت العائلة فيتحقق الهدف من دون أن يتحمل شخص كلفة ترهقه مادياً في ظل الغلاء. لم يكن هذا الأمر مألوفاً، ولكن يجب أن نحاول التكيف مع الظروف. العائلة قيمة مهمة في حياتنا، وأحب أن يكون أولادي على اتصال دائم بعائلتهم، فهذا شيء ينبغي ألا نتخلى عنه تحت أي ظرف".
وحول تأثير الأزمات الاقتصادية في الزيارات العائلية، تقول الاستشارية النفسية هالة حماد "إن المظاهر طغت على كل شيء، وأصبح التنافس بين الناس ظاهرة ملاحظة، فقديماً كان الضيف يذهب بشيء بسيط ربما كيس من الفاكهة، ويتم استقباله ببساطة حتى لو قدم له أهل البيت كوب شاي أو قهوة وانتهى الأمر، أما حالياً فلابد من شراء علبة شوكولاتة أو حلوى فاخرة بسعر مرتفع وتقديم ضيافة مكلفة. بالفعل جعل هذا الزيارات عبئاً ثقيلاً على الطرفين، ولكن يجب التخلي عن هذه المظاهر التي اكتسبها الناس بفعل انتشار قيم جديدة على المجتمع، وبفعل ما يتعرضون له على السوشيال ميديا من أنماط للحياة يغلب عليها المظاهر والتفاخر، يجب تسهيل الأمور باعتبار أن الناس يمكن أن تسعد نفسها بأقل الإمكانات".
وتختم حديثها بقولها، "في الوقت نفسه تقلص العلاقات العائلية أدى إلى قيامنا كأطباء نفسيين بأدوار اجتماعية مع المرضى، الذين أصبحوا يترددون على المتخصصين لاستشارتهم في أمور اجتماعية أو شخصية وليس فقط اضطرابات أو مشكلات نفسية، وأصبح هذا ملاحظاً بشدة باعتبار أن هذا الدور بات مفقوداً في العائلات، فلا أحد يرغب في الحديث مع أحد وليس استشارته في شأن شخصي".