ملخص
تشهد جبهات المعارك في السودان تصعيداً كبيراً في حدة القتال بخاصة على محاور ولايات الخرطوم ودارفور والجزيرة وسنار، ويشن طيران الجيش غارات جوية وقصفاً مدفعياً مكثفاً على متحركات ومواقع ارتكاز "الدعم السريع" لطردها.
مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية كافة، بما فيها مفاوضات جنيف الأخيرة برعاية الولايات المتحدة، وفي ظل تزايد التوترات والجمود والعجز السياسي الداخلي في طرح حلول وطنية للأزمة السودانية، بات التصعيد العسكري وحدة المواجهات والاستقطاب القبلي تحول كامل ملف إنهاء الحرب السودانية إلى أيدي المجتمعين الإقليمي والدولي، في وقت تتصاعد فيه حدة الخطاب والحملات العسكرية والإعلامية بين طرفي الحرب لتبدد كل الآمال في حلول داخلية تفضي إلى السلام، فإلى أين تتجه حرب السودان بعد دخولها منعطف التدويل التام بوضع حلول الأزمة وكل جهود وقف الحرب أمام طاولة المجتمع الدولي بآلياته وأجهزته المختلفة؟
تصعيد عسكري
داخلياً تشهد جبهات المعارك في السودان تصعيداً كبيراً في حدة القتال، بخاصة على محاور ولايات الخرطوم ودارفور والجزيرة وسنار، ويشن طيران الجيش في الآونة الأخيرة غارات جوية وقصفاً مدفعياً مكثفاً على متحركات ومواقع ارتكاز "الدعم السريع" لطردها وكسب أراضي جديدة ميدانياً، فيما يواصل الجيش حشد استعدادات عسكرية كبيرة من حيث التسليح وتجهيز القوات البرية من المشاة توطئة لهجمات برية متعددة المحاور.
ويتابع الطيران الحربي ضرباته الجوية الموجهة ضمن خطة استنزاف للقوة المادية والبشرية لقوات "الدعم السريع"، ونجح بشكل كبير في غضون الأشهر الماضية في ملاحقة واستهداف القيادات الميدانية لها بقتل أكثر من 10 من قياداته الميدانية العليا والوسيطة المؤثرة في أرض المعارك.
وجدد عضو مجلس السيادة الانتقالي مساعد القائد العام للقوات المسلحة الفريق ياسر العطا التأكيد بأن الجيش قطع شوطاً كبيراً في تحقيق هدفه بحسم المعركة وجاهزيته لسحق التمرد في كل مكان بالبلاد، وأشار العطا خلال مخاطبته قوات الإسناد بأم درمان أمس الخميس إلى أن كل القيادة العسكرية تعمل كيد واحدة وعلى الطريق نفسه لدحر التمرد، مضيفاً "نسمع بمفاوضات هنا وهناك لكن القيادة العسكرية، ومعها المدنية شعارهما (بل بس) أي الحسم العسكري فقط، وأصبحنا الآن بحكم التجهيزات القائمة قادرين على تحقيق هذا الشعار".
من جانبها قالت قوات "الدعم السريع" إنها حققت انتصارات كبيرة أمس في محوري الفاو شرق الجزيرة والشايقاب بالقرب من المناقل، وكبدت قوات الجيش خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، مؤكدة الاستعداد لصد أي هجوم من جانب الجيش.
وأعلن مستشار قوات "الدعم السريع" الباشا طبيق ما وصفه بـ"نصر كبير" مرتقب لقواتهم في مكان غير متوقع، أطلق عليه المنطقة "إكس" من دون تسميتها بما سيشكل مفاجأة للجيش وغرفة عملياته، وجدد اتهامه للفريق أول عبدالفتاح البرهان قائد الجيش باحتضان ميليشيات الحركة الإسلامية وإصدار التعليمات لسلاح الطيران بقصف المدنيين بالصواريخ السامة والأسلحة البيولوجية إيرانية الصنع، مما تسببت في إغماءات واختناقات وسط المدنيين في كثير من المناطق التي استهدفها الطيران.
واعتبر هجمات الطيران المكثفة "مؤشراً خطراً" لإقدام البرهان على استخدام مثل تلك الأسلحة المحرمة دولياً، معتبراً الخطوة محاولة فاشلة لتعويض الهزائم الكبيرة التي لحقت بالجيش وحلفائه من الحركات المسلحة.
مواجهات لا تنقطع
في الأثناء تجددت أمس الخميس الاشتباكات والمواجهات العنيفة بين الجيش والقوات المشتركة وقوات "الدعم السريع" مرة أخرى في مدينة الفاشر، وقصفت الأخيرة مقر الفرقة السادية مشاة بالمدينة، فيما تابعت مدفعية الجيش والقوات المشتركة وطيران الجيش غاراتها وقصفها لمواقع وارتكازات "الدعم السريع".
وقال بيان للقوات المشتركة إنها تمكنت من دحر الهجوم وإجبار العدو على التراجع ودمرت عدداً من العربات القتالية، واستولت على مجموعة أخرى منها بكامل عتادها وأسر عدد من مقاتلي "الدعم السريع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دولياً جدد المبعوث الخاص الأميركي للسودان توم بيرييلو الدعوة لقوات "الدعم السريع" إلى وقف هجماتها وسحب قواتها فوراً من الفاشر، مطالباً كذلك الجيش بوقف عمليات القصف الواسعة التي يشنها. وقال بيرييلو، في تدوينة على حسابه بمنصة "إكس"، إن العالم يراقب والولايات المتحدة ترصد وتوثق تصاعد العنف بالمدينة وما ترتب عليه من مضاعفة المعاناة ومفاقمة الوضع الإنساني بالفاشر بشكل غير مسبوق.
وأكد التزام الولايات المتحدة بالعمل مع الشركاء الدوليين لوقف الأعمال العدائية بين الأطراف المتصارعة بالسودان، وأن الأمر سيطرح على الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع المقبل.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عبر في تصريحات صحافية عن شعوره بإحباط شديد تجاه قيادتي الطرفين المتقاتلين في السودان، "ومن حقيقة أن الوضع الحالي يجعلهما يشعران أنهما يستطيعان أن يفعلا ما يريدان، وأن لا شيء سيحدث لهما، وهذا هو وضع الإفلات من العقاب الذي نراه للأسف في أجزاء أخرى من السودان".
أسلحة جديدة
في السياق يعزو الباحث في الشؤون الأمنية النزير أحمد منصور التصعيد الميداني من الطرفين على جبهات متعددة إلى حصول كليهما على أسلحة جديدة أكثر تطوراً وتنوعاً خلال هذه الفترة، مما ينذر بتصعيد أكبر بدأت بوادره تظهر بالفعل في تصعيد الجيش هجماته الجوية على محاور الخرطوم والفاشر، في وقت تعزز فيه قوات "الدعم السريع" من وجودها العسكري في دارفور وتؤكد تصميمها بتكرار هجماتها العنيفة للاستيلاء على مدينة الفاشر.
ويحذر منصور من أن دخول قوات "الدعم السريع" إلى الفاشر سيكون قاصماً ويمثل منعطفاً أخطر في مسار القتال، من شأنه أن يفتح فصلاً آخر من فصول من المواجهات القبلية والجهوية، نحو حرب أهلية طويلة الأمد تمهد لتفكيك الدولة السودانية، كما سيفتح شهية "الدعم السريع" للتوجه نحو الولاية الشمالية ونقل الحرب إلى أقصى الشمال.
ويلفت إلى أن الواقع الميداني الذي يسعى الجيش إلى رسمه من خلال السيطرة النوعية التي حققها خلال الأسابيع الماضية، قد يكون ضمن الحوافز المشجعة لمعاودة الجيش الجلوس إلى طاولة التفاوض بعد تحسن وضعه الميداني.
ساحة للتدخلات
من جانبه توقع القيادي بتجمع المهنيين السودانيين إسماعيل التاج أن يفاقم الفشل في التوصل إلى اتفاق لوقف القتال على مدار عام ونصف عام، من حدة الاستقطاب العرقي والمجتمعي وعمليات عسكرة المجتمع السوداني بكل ما يتبع ذلك من انتهاكات لحقوق الإنسان في ظل مناخ الإفلات من العقاب، وزيادة الأخطار على الحياة المدنية والمدنيين.
ويرجح التاج أن يتحول السودان إلى ساحة للتدخلات الدولية، على النحو الذي بدأت ملامحه تظهر بالفعل وسط المجتمع الدولي بشكل عام وداخل أروقة الأمم المتحدة على وجه الخصوص، بخاصة بعد فشل المساعي الإقليمية والدولية كافة، بما فيها اجتماعات جنيف الأخيرة تحت الرعاية الأميركية، في وقف موقت لإطلاق النار بغرض توصيل المساعدات الإنسانية وإنقاذ عشرات الملايين من الضحايا المدنيين.
تفتيت وتداعيات
حمل التاج حكومة الأمر الواقع في بورتسودان مسؤولية التعنت وعرقلة أي تقدم لوقف الحرب، بالتالي وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين، مما وضع المجتمع الدولي في مواجهة كارثة إنسانية غير مسبوقة، ستتضاعف معها المعاناة الإنسانية للسودانيين.
وحذر القيادي بالتجمع من أن يقود التصعيد العسكري والأمني وطول أمد الحرب إلى حقيقة تفتيت السودان، بكل ما تبع ذلك من تداعيات على صعيد الأمن الإقليمي وخلق مناخ موات لجذب المتطرفين، ونشر الحرب في كامل منطقة القرن الأفريقي وشرق القارة، مما ينذر بدوره بحال من الفوضى وتهديد السلام والأمن الإقليميين.
تصلب ومماطلة
على صعيد متصل يرى أستاذ العلاقات الدولية حسين عبدالغفار أن تصلب موقف الجيش ومماطلة قوات "الدعم السريع" في تنفيذ ما التزمت به في منبر جدة الأول، وضع الأزمة السودانية على طاولة التدويل الفعلي، ورهن الوضع الداخلي بالبلاد لصراع المصالح الإقليمية والدولية المتضاربة في شأن السودان.
في مواجهة التصعيد العسكري والجمود السياسي الداخلي رجح عبدالغفار أن تلجأ واشنطن إلى اتخاذ خطوات دبلوماسية تصعيدية وضغوطاً أكثر جدية لكبح العنف والقتال، باستخدام كل البدائل والخيارات المتاحة لديها، بخاصة بعد عدم تأثير العقوبات التي سبق أن فرضتها على الطرفين المتقاتلين للتوصل إلى وقف إطلاق النار.
حوار مباشر
في شأن تجاوب كل من قيادة الجيش و"الدعم السريع" مع دعوة الرئيس الأميركي جو بايدن لهما إلى الانخراط مجدداً في محادثات لوقف الحرب، وتأكيد انفتاحهما على الحلول السلمية، يشير أستاذ العلاقات الدولية إلى أن النقاشات المرتقبة بين الإدارة الأميركية والبرهان خلال زيارته إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الـ26 من سبتمبر (أيلول) الجاري، تمثل تطوراً كبيراً بانتقال الحوار الأميركي مع قيادة الجيش إلى مرحلة الحوار المباشر بعد أن كان غير مباشر.
ويشير الأكاديمي إلى أنه وعلى رغم الغموض الذي يكتنف رسالة بايدن للطرفين، وعدم وضوح الخطوط التفصيلية، لكن ردود فعل قادة طرفي القتال عكست قدراً من المرونة بخاصة من جانب البرهان الطرف المتهم بالتعنت أكثر من غيره.
مجرد تهديد
بدوره قلل مدير مركز الخرطوم الدولي لحقوق الإنسان أحمد المفتي من إمكان حل مشكلة بعمق الأزمة السودانية عبر التدويل والتدخل الأممي بالقوة العسكرية، لافتاً إلى فشل تجربة التدخل الأممي السابقة بحجم 30 ألف جندي لدرجة أنها كانت تطلب الحماية من القوات المسلحة السودانية.
وصف المفتي التلويح الدولي باستخدام القوة بأنه مجرد تهديد كان يؤمل أن يأتي بنتائج إيجابية، بخاصة أن الحكومة السودانية لديها الخبرة الكافية في إفشال مثل ذلك التهديدات.
ويرى أن رايات التدويل انخفضت ربما بصورة نهائية، بخاصة بعد رفضها بواسطة حزبي الأمة القومي والمؤتمر السوداني العضوين المؤثرين في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، على رغم تعويل التنسيقية على التدخل العسكري الأممي.
جدة أو الاستسلام
يرجح المفتي أن تكون نهاية المطاف بالرجوع في النهاية إلى منبر جدة، ومواجهة مطالبة الحكومة السودانية المشروعة، بضرورة تنفيذ ما سبق أن اتفق عليه في مايو (أيار) 2023، أما في حال فشل مفوضات جدة مجدداً فيتوقع أن تدفع الأحداث على الأرض إلى اتفاق محلي يكون في حقيقته اتفاق استسلام، لمن يكسب المعركة ميدانياً، قد تتم إدارته بما يحفظ ماء الوجه.
ومنذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منتصف أبريل (نيسان) 2023 أخفقت كل المساعي والمبادرات والوساطات المحلية والإقليمية والدولية المتعددة في وقف الحرب، ابتداء بمنبر جدة ووصولاً إلى مفاوضات جنيف برعاية الولايات المتحدة في 14 والـ23 أغسطس (آب) الماضي، في وقت ما زالت فيه المعارك تتمدد مخلفة مزيداً من موجات النزوح والجوع والأوضاع الإنسانية الكارثية.