Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل باتت الاحتجاجات ظاهرة عراقية؟

تمتد لتاريخ طويل على مدى القرن الـ 20 وزادت وتيرتها منذ 2003 وتنوعت طبيعتها ومطالبها خلال الأعوام الأخيرة

تنشد التظاهرات المتعددة بالعراق تحقيق العدالة  (أ ف ب)

ملخص

 لم يعد الفقر الدافع الرئيس للتظاهر والاحتجاج في العراق، بل التوق إلى العدالة ودولة القانون والقضاء على الفساد.

حين ودع بدر شاكر السياب عراقه مرتحلاً صوب منفاه كأي بصري غريب على الخليج، أباح لفقراء وطنه سرا ًفي "أنشودة المطر" قائلاً "وفي العِرَاقِ جُوع/ وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصاد/ لتشبعَ الغِرْبَان والجراد/ وتطحن الشّوان والحَجَر/ رِحَىً تَدُورُ في الحقول حولها بَشَرْ/ مَطَر مطر مطر وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ، مِنْ دُمُوعْ/ ثُمَّ اعْتَلَلْنَا خَوْفَ أَنْ نُلامَ بِالمَطَر/ وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً، كَانَتِ السَّمَاء/ تَغِيمُ في الشِّتَاء وَيَهْطُل المَطَر/ وَكُلَّ عَامٍ حِينَ يُعْشُب الثَّرَى نَجُوعْ/ مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ".

لعله المنشور التحريضي الأول الذي باح خلاله السياب بسر ذلك التناقض الأبدي بين الغنى والفقر الذي يتملك حياة العراقيين ويحرضهم على الاحتجاج، على تناقض المصير العراقي بين الغنى الفاحش والفقر المدقع الذي تعيشه القرى والمدن التي باتت بؤرة للتحريض على الثورة.

 وعلى رغم موته الباكر في الـ 24 من ديسمبر (كانون الأول) عام 1964 عن 38 سنة، ظلت روح السياب المودعة في البصرة ملهمة للعراقيين كلما قصف قبره خلال حرب الثمانية أعوام بين العراق وإيران، فصار تمثاله في العشار موعداً وملتقى للعازمين على التظاهر في أغنى مدينة في العالم وأفقرها في الوقت نفسه.

 البصرة التي تنتج يوميا 3 ملايين برميل نفط يتظاهر شعبها بين يوم وآخر، ففيها أكثر الفقراء حاجة إلى للعيش والطعام بعد أن دمرت في الحرب والفساد وسرقات القرن وتهريب العملة، ويردد مثقفوها عبارة السياب الخالدة، "مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ" كأنه قدره.

الجوع الأبدي

يقول الناشط والكاتب في محاربة الفساد حسن درباش العامري عن ظاهرة الاحتجاجات العراقية "بين المسؤول والمتسول وأحلام المتظاهرين ثمة تظاهرات تطالب بتطبيق سلم الرواتب، وثانية تطالب بالتعيين، وثالثة تطالب بشمول أبناء البلد بالعمل في المنشأة النفطية أسوة بالأجانب والباكستانيين، ورابعة تطالب برفع خطورة العاملين في حقل الإشعاع من 30 إلى 50 في المئة بما يوازي نصف استحقاقهم المنصوص عليه في القانون العالمي، وخامسة تطالب بتعيين المعطلين منذ أعوام، وسادسة تطالب برفع خطورة أصحاب المهن الصحية أسوة بالأطباء كونهم يتعرضون لأسباب الخطورة نفسها، وسابعة تطالب بانضمام العراق إلى طريق الحرير والحزام الاقتصادي، وثمة من يطالب بتبليط الشوارع، وثامنة تطالب بإنشاء شبكة الصرف الصحي، وتاسعة تطالب بالكهرباء والماء، وعاشرة تطالب بإعادة سحبة الحج لوجود شبهات فساد فيها، وعدد لا ينتهي من الاحتجاجات والمطالبات حتى أصبح البلد عبارة عن تظاهرات ومناشدات".

ويضيف، "أينما تولي وجهك فثمة من يترجاك ان تنقل معاناته للمسؤول، ولكن هل يجهل المسؤول كل هذه المعاناة والمطالبات؟ شخصياً متأكد ومتيقن بأن المسؤول يعلم علم اليقين بأن الشعب في عوز بسبب ارتفاع الاسعار المتأثر بارتفاع سعر صرف الدولار، ونقصد بالشعب هنا ليس المسؤولين والدرجات الخاصة لأن هؤلاء يعيشون في رفاهيه حقيقية وبروج عاجيه والأموال لديهم تحصيل حاصل، ولا أولئك المتسولين عند الإشارات الضوئية لأن هؤلاء أناس تخلوا عن كرامتهم وكبريائهم الإنساني لينزلوا إلى الشارع لطلب المعونة من الآخرين، ليس لحاجة ولكن لكونهم استسهلوا ذلك العمل الذي يدر عليهم أموالاً طائلة من دون تعب أو عناء، بل حتى انضم إليهم متسولون دوليون محترفون ومن جنسيات مختلفة عربية وعالمية، ما دام هناك في المجتمع من يشجعهم على التسول فأنت حينما تعطيهم فإنك تصنع منهم عاهات مجتمعية متطفلة، لذلك حرمتها جميع الديانات والملل، كون من يعطيهم يقتل الكرامة والكبرياء داخلهم ليصنع منهم محترفين قد يتحولون إلى لصوص وعصابات إجرامية".

ويتابع، "هناك نوع من المتسولين من الموظفين وهم من أخطر أنواع المتسولين حينما يملكون رواتب كغيرهم من الموظفين، ولكنهم يمدون أيديهم لابتزاز الناس كبعض العاملين في محطات الوقود والعاملين على سيارات جمع النفايات وكذلك المبتزين من الموظفين في بعض الدوائر الذين ينتظرون الرشى أو ما يسمونه بالإكرامية والأمثلة كثيرة".

الهجرة المهددة

ويرجع الباحث مازن الشمري تكرار ظاهرة الاحتجاج إلى "أن الجهاز الحكومي يدار بخطة لحظة بلحظة، وكل حزب بما لديهم فرحون، من دون وجود أي نموذج للتخطيط في عمران الموارد البشرية او تنمية الموارد المادية، وربما هذه الفترة تشهد أخطر أنواع الهجرة من الريف إلى أطراف المدن العشوائية بسبب الجفاف الذي لم تجد الأحزاب حلولاً له، وهو يمس جمهورهم الانتخابي، فكيف تنتظر الحلول لهذه التظاهرات التي تعبر عن أخطار لحظية وحسب؟"

أول تظاهرة في العراق الحديث

المؤرخ والعميد لكلية العلوم السياسية الأسبق محمد مظفر الأدهمي يصف تاريخ التظاهرات في العراق على مرحلتين، مرحلة التأسيس التي شهدت تظاهرات مناوئة للنظام الملكي في تواطؤه مع البريطانيين في سن المعاهدات والانتداب، والمرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية وإبرام معاهدة 'بورتسموث' مع الحكومة البريطانية.

 يقول، "التظاهرات أعقبت حكم الملك فيصل الأول بعد وفاته بـ 10 أشهر ودخول العراق عصبة الأمم، وتسلم ابنه الملك غازي الحكم، إذ بدأت التظاهرات بعد وفاته حين حولت التشيع إلى تظاهرة تهتف بالثأر لمقتله، كما كان يعتقد الناس بأنه قد اغتيل باعتباره شخصية وطنية، وشهدت البلاد خلال الحرب العالمية الثانية احتلالاً جديداً وحدثت مشكلات كثيرة، والنخبة السياسية كلها أصبحت داخل السجون وأُعدم عدد من الضباط وغيرها كثير من أحداث".

يتابع، "لم نشهد تظاهرات بمعنى التظاهرات لكن الحال اختلفت بعد عام 1945 عندما ظهرت الأحزاب الجماهيرية وليست النخبوية، من الشباب ومن مجاميع الشيوعيين وحزب الاستقلال والوطني الديمقراطي وحزب الشعب، وأول تحرك جماهيري وتظاهره ضخمة في العراق عام 1948 يسبب معاهدة بورتسموث التي تمكنت من إسقاط وزارة صالح جبر وإلغاء المعاهدة".

 

ويوضح، "هذه الانتفاضة كانت من نوع جديد إذ كان هدفها الاستقلال، وأخذت التظاهرات مدى أوسع، وبين الحرب العالمية الثانية وثورة الـ 14 من يوليو (تموز) عام 1958 تقع مرحلة التظاهرات الشعبية التي قادتها الأحزاب بمختلف أشكالها ونهوض جيل جديد، وكل أهدافها سياسية".

ويضيف، "في عام 1956 أخذت بعداً قومياً عندما حصل الاعتداء الثلاثي على مصر وانتفض كل العراق وليس فقط بغداد، واصطدم المتظاهرون بالشرطة، وكانت ضد موقف الحكومة من العدوان على مصر وكان موقف الحكومة العراقية غير جيد، رفضته الجماهير فحدثت الانتفاضة، حتى تطورت الأمور وقامت ثورة الـ 14 من يوليو 1958، التي أعدها ثورة شعبية قلبت نظام الحكم".

ويمضي الأدهمي قائلاً "هنا يأتي النظام الجمهوري الذي شهد تظاهرات عدة، فكانت أقوى تظاهرة عندما سيطر الشيوعيون على الشارع عند تسلم عبدالكريم قاسم للسلطة في يوم العمال العالمي، إذ كان يوماً استثنائياً للجماهير فكانت تظاهرات ضخمة في تلك الفترة، ثم تلتها التظاهرات بعيد التصادم بين البعثيين والقوميين من جهة وبين الشيوعيين، وكانت التظاهرات على أشدها وخرجت تظاهرات ضد عبدالكريم قاسم".

يخلص إلى أن "الشعب العراقي يعبر عن مشاعرة السياسية من خلال التظاهرات، ولذلك ليس بغريب أن تجد الآن الحال نفسها تمثل نفسها بهذا الشكل، فإن التظاهرات في السابق لم تكن لأسباب اقتصادية او اجتماعية بل تظاهرات وطنية لأن المجتمع قد تغير، التقاطعات والتناقضات داخل المجتمع تغيرت كلياً، وبالتالي تجد التعبير عن الراي مختلف تماماً".

درس تظاهرات أكتوبر 2019

ولثمانية أشهر متواصلة من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 بدأت معركة حقيقية بين قوى التغير الشعبية والسلطة المتمثلة في الأحزاب وواجهتا حكومة عادل عبدالمهدي التي وضعت الجميع تحت الطوارئ جراء الاستنفار الشعبي العام، ورفع شعار للتظاهر من كلمتين "نريد وطناً"، بكل عنفوان الإرادة العراقية التي وضعت بكل عنفوان الغالبية الصامتة صمتها جانباً لتشتبك مع عناوين السلطة وميليشياتها في بغداد والمحافظات، رافقه حرق القنصليات الإيرانية وتطويق مقار الأحزاب الإسلامية، مع هجوم متكرر على بيوت لرموز السلطة وحرقها في مظاهر عنف واحتجاجات غير مسبوقة أدت إلى سقوط حكومة عادل عبدالمهدي واستجابة المرجعية الدينة في النجف لمطالب المحتجين، والدعوة إلى تخلي الحكومة عن أساليب القمع التي انتهجتها والدعوة إلى انتخابات باكرة مع حكومة انتقالية عاجلة.

وقد جرى هذا بعد أن قامت السلطة بالتنكيل بالمتظاهرين وقتل أكثر من 1000 متظاهر وجرح آلاف منهم واستخدام الرصاص الحي، والتنصل من مسؤوليتها في القتل بلوم ما يسمى بـ "الطرف الثالث" من دون أن تكشف من هو.

تظاهرات أكتوبر التي أسقطت حكومة عادل عبدالمهدي كشفت تآمر السلطة وتواطؤها مع من سمته الطرف الثالث الذي ألقت عليه تهمة القتل وأحدثت قطيعة بين الشعب والسلطة الشيعية انعكست بالعزوف عن الانتخابات واتهام السلطة بالفساد والتزوير والتآمر على الشعب بالمحاصصة السياسية، والتخادم بين أطراف العملية السياسية وإسقاط أهم فكرة كان النظام يروجها وهي "المظلومية"، حين ظلمت السلطة التي يقودها الشيعة جمهورها الذي يطالب بالعدالة والمساواة وتطبيق القانون، ومحاكمة الفاسدين الكبار الذين نهبوا الدولة.

واقع متشابك

ويرى الأمين العام لحزب "قادمون" حسين الرماحي أن الواقع السياسي بعد أكتوبر أضحى متشابكاً بين أحلام التغير ومرارة الخذلان، فهناك معركة خفية بين إرادة الشعب المقهور وقوة الأحزاب المتنفذة، بينما تاهت "الغالبية الصامتة" في متاهات الحياد السلبي، وتركت قوى التغيير تواجه قدرها وحدها خلال تطلعات ودوافع تنسيقيات أكتوبر.

يقول، "إن كلمة التغيير تحمل أبعاداً كبيرة ومعاني عميقة تتجاوز المشهد السياسي، وأن الأزمات التي يعانيها العراق تمتد إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، مؤكداً أن السياسة هي المحور الذي يتركز حوله الحل لجميع هذه الأزمات"، وأشار إلى أننا "شخّصنا موضوع التغيير ومنحناه العنوان الأهم والأكبر، فالتغيير ليس مجرد شعارات بل عملية عميقة تحتاج إلى تطبيق فعلي".

في سرده لأحداث احتجاجات أكتوبر 2019 أشار الرماحي إلى أن "الدخول في العمل السياسي جاء استجابة لمطالب الشارع التي وصفها بأنها كانت رسائل واضحة تطالب بالتغيير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأكد أن "حزبه كان جزءاً من تلك الانتفاضة التي قادها العراقيون المطالبون بالإصلاح تبنينا لمطالب المواطن ونزلنا إلى الشارع معه، حيث كان الشباب المنتفض يقدم التضحيات، وكنا نقف إلى جانبهم في الميدان".

وأكد "إيمانه بالمواطن الذي نزل إلى ساحة التظاهرات ليطالب بالتغيير، ولكنه ضعيف الإمكانات وغير قادر على تأسيس حزب يثبت وجوده بين الأحزاب التقليدية ويشارك في النظام السياسي".

 ولهذا السبب رأى الرماحي وفريقه "ضرورة تأسيس كيان سياسي يمثل هؤلاء المواطنين ويعمل على تحقيق مطالبهم"، وأشار إلى أن "رسالتنا كانت واضحة نحن نمثل الغالبية الصامتة التي تبحث عن صوت سياسي يمثلها، نزلنا إلى الشارع وهيمنت علينا خيبة الأمل في دعم الغالبية الصامتة، ولكن الواقع لم يكن بهذه البساطة، فقد أعرب عن خيبة أمله الكبيرة من عدم دعم الغالبية الصامتة التي تمثل نحو 80 في المئة من الشعب".

وأوضح أن هذه الغالبية اختارت الوقوف على الحياد، وهو حياد سلبي بين الأحزاب التقليدية والأحزاب الجديدة التي تسعى إلى تحقيق التغيير مما أدى إلى إحباط المشروع الإصلاحي برمته، ويؤكد أن النتائج خيبت آمالنا، فالغالبية الصامتة لم تقف معنا، وهذا أمر صادم لأننا كنا نعتمد على دعمها لتحقيق التغيير".

وأشار الرماحي إلى أن نتائج الانتخابات الأخيرة كانت دليلاً على أن الغالبية الصامتة لا تؤمن بالتغيير الحقيقي، فقد امتنع هؤلاء من انتخاب الكيانات والأشخاص الذين أسسوا أحزاباً بتمويلهم الخاص بهدف إنقاذ البلاد من الوضع القائم، وأكد أن الشعب لم يمض مع مشروع التغيير إلى نهايته بل ترك الأحزاب التي دافعت عنه وحدها في مواجهة نظيرتها التقليدية.

نتائج الإحباط الجماهيري

يتطرق الكاتب والناقد جمال حسن العتابي إلى تفسير سلوك التظاهر الذي تملك العراقيين بعد عام 2003، وأشار إلى أن "ما يحرك الجمهور هو الإحباط اللاشعوري العميق الذي أضحى عنصراً في التكوين الأبرز بالشخصية العراقية، وله امتدادات خلال نصف قرن من الفعل السياسي السادي الذي مورس ضد الفرد العراقي منذ قيام النظام الجمهوري وولد شخصيتين لدى الفرد، الأولى هدامة عدوانية والأخيرة مسالمة تؤمن بالتسامح والتحضر والابتكار".

وألمح إلى أنها "لم يكن لها أثر في النسيج الاجتماعي العراقي ما دام غياب فرص العدالة وتطبيق القانون، والإحساس بأن النظام الديمقراطي مفرغ من محتواه، ولم يقدم فرص العمل بجدارة الكفاءة والشهادة، بل فرض الاختيار القائم على الانتماء الطائفي والحزبي، في وقت كانت البلاد توزع فيها فرص العمل من خلال مؤسسة رصينة تسمى 'مجلس الخدمة' يعلن درجات وظيفية للخريجين بحسب حاجة الدولة من دون وساطات بل بشرط مؤهلات".

تابع، "لكن الواقع الحالي تفاقمت خلاله الفوضى وحال غياب الإنتاج وانعدام الإنتاجية وأصبح العراقي غير منتج وغير فاعل، وفرص العمل غير متاحة في مجالات إنتاجية عطلت بالكامل كالزراعة والصناعة والتجارة".

 يضيف العتابي، "ما زاد الطين بلة سوء التخطيط في فتح الكليات الأهلية وقبول الطلاب بلا ضوابط كالمعدل العلمي والكفاءة، حتى أصبح لدينا مئات آلاف الخريجين لا يمكن استيعابهم في جهاز الدولة كموظفين جراء سوء التخطيط والفساد في تنصيب مسؤولين على مواقع الدولة، مما أفرز جيوشاً من العاطلين الذين لم يكن لديهم بد غير التظاهر بصورة مطلبية، ليس لقضية وطنية كما كان في السابق بل لمسألة شخصية هدفها الراتب والتعيين في الدولة".

يتابع، "تفاقمت الحال لتقمع الآخر بالرصاص، كما جرى في تظاهرات أكتوبر 2019 التي نادت بالإصلاح وتطورت إلى صدامات عنيفة، يثريها أن جموعاً من الجمهور تعلمت على الكسب السريع ورغبة الاستهلاك السريع في مجتمع معطل الإنتاج يعتمد على ريع النفط للإنفاق، مع تضخم الجهاز الإداري للدولة بطريقة غير معقولة (أكثر من 6 ملايين موظف حكومي يستهلكون 70 في المئة من إيرادات الموازنة العامة)".

وأشار إلى أن الفساد ضخم حجم الأزمة بازدياد أعداد العاطلين من العمل الذين تحولوا إلى انتهازين يذهبون إلى رموز السلطة كي يوفروا لهم الوظيفة والارتزاق، فصار كثير منهم أشبه بطفيلين ولم يدخلوا في إنتاجية البلد بل باتوا جزءاً من منظومة الفساد والتظاهر المصلحي".

المحرك الإعلامي

وينظر الباحث هيثم نعمان الهيتي إلى طبيعة الاحتجاجات في العراق وتأثرها بالموجة الجديدة من تأثيرات الإعلام الجديد على رغم قدم الاحتجاجات العراقية ذات الطابع السياسي، إذ تحولت إلى نزوع جديد قائم على توافقات مصلحية تهيجها الوسائط الاجتماعية المعاصرة.

وأوضح أن "الحركات الاجتماعية بلا قيادة أولاً وليس لها هيكل معروف، وبالتالي فهي حراك جماهيري تلقائي وهذا ما يتصف به الوضع الحالي في العراق، بأن الجمهور يخرج تلقائياً للتعبير عن مطالبه ويحتج على واقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والوظيفي، وبالتالي قد تتحول هذه الحركات وتزداد تارة وتضعف أخرى جراء تلبية المطالب أو القمع السياسي، وكلها وسائل للتخفيف أو لإيقاف هذه العمليات".

يشير، "أحياناً تتكون الاحتجاجات بشكل مثل أمواج البحار الضاربة وتتحول إلى عاصفة لا يمكن إيقافها بل هي التي تغير كل شيء، ولذلك هناك دائماً نمو اجتماعي مثلما هناك نمو سياسي، لكن النظام الاجتماعي دائماً في حال تطور وهو ما جسدته مواقع التواصل الاجتماعي".

يضيف الهيتي، "اليوم يمثل التعبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وما بات يعرف بـ (ترن)'، تياراً شعبياً، فهو تعبير عن خطاب جماهيري يتداوله الناشطون والمحتجون، ويمكن أن يكون قادراً على تحريك الشارع أو التعبير عن رأيه".

يتابع، "لذلك هناك خوف السلطة من وسائل التواصل الاجتماعي لقدرتها على تحريك الشارع أو التعبير عنه، ولذلك فإن احتمال أنه مثلما كان قبل عقود كان المحتجون والناشطون السياسيين يستخدمون المنشور سياسياً بشكل سري اليوم صار المنشور السياسي يتداول عبر وسائل التواصل، وهو حق مشروع لكل إنسان لذلك حتى السيادة أصبحت مطلقة، يعني لا توجد سيادة مغلقة ولا توجد دولة مغلقة السيادة أصبحت جزئية لأن هناك وسائل تعرف بـ 'الديمقراطية الإلكترونية' للتعبير عن الرأي".

يوضح أن "الديمقراطية الإلكترونية تعني "أنك تستطيع أن تعبر عن رأيك في وسائل التواصل الاجتماعي من دون حدود، ومن الممكن أن يتحول هذا التعبير إلى آلة احتجاج في الشارع، ويكوّن مجاميع بشرية لديها المطالب نفسها من دون قيادة ومن دون هيكلية تشكل في الشارع. ويصير تظاهرة تؤثر وتغير في الواقع، وهذا أشد ما يهدد السلطات التي تستحضر وسائل القمع كما يحدث في العراق بين حين وآخر".

لا أظن الجوع الذي تخيله السياب هو الدافع الأول للتظاهر والاحتجاج في العراق، بل التوق للعدالة ودولة القانون والقضاء على الفساد.

بيان حكومي 

وفي أحدث رد من الحكومة العراقية على ما جرى في تظاهرات المهن الصحية مطلع الشهر الجاري، أصدرت بياناً يؤكد على التزامها بضرورة احترام الحريات.

وبحسب البيان المنشور على حساب المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء على منصة "إكس"، فقد وجه رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، قيادة العمليات المشتركة بالتحقيق في ما حصل من ملابسات خلال التظاهرات.

وكان عدد من المتظاهرين المطالبين بالتعيين المركزي في بغداد قد أصيبوا بعد اعتداء قوات الأمن عليهم قرب إحدى بوابات المنطقة الخضراء. ووثق متظاهرون حالات اعتداء وضرب نفذتها قوات حفظ القانون لخريجي معاهد المهن الصحية والطبية، قرب بوابة التشريع.

كما أمر السوداني قائد عمليات بغداد بالتواجد الميداني في كل تظاهرة مستقبلية "من أجل منع تكرار ما حصل من احتكاك بين القوات الأمنية والمتظاهرين".

ووجه رئيس الوزراء اللجنة التي شُكلت برئاسة وزير الصحة، بتقديم تقريرها الخاص بحسم موضوع خريجي ذوي المهن الطبية والصحية، وبيان تكييف ذلك قانونياً، وذلك خلال أسبوع واحد.

وشددت الحكومة، في بيانها، على إيمانها بحق جميع المواطنين بالتظاهر السلمي من أجل ضمان حقوقهم المشروعة قانونياً ودستورياً والتزامها بضرورة احترام الحريات وحقوق الإنسان في التعامل مع المتظاهرين من جميع قطاعات الشعب.

وتتواصل تظاهرات ذوو المهن الصحية والطبية منذ أشهر للمطالبة بالتعيين المركزي، وفق المادة السادسة من قانون المهن الصحية لسنة 2000.

ويكفل الدستور العراقي الصادر عام 2005، حق التظاهر في مادته 38، وتقول "تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والآداب: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتُنظَّم بقانون".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير