Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرسامة تغريد درغوث تطرح أسئلة الانتماء والاغتراب

لوحات مشهدية تستدعي الأرض والبحر في تلاطم الألوان

لوحات من معرض تغريد درغوث (خدمة المعرض)

ملخص

قليلة هي التجارب الفنية التي لا تبرح عينيك حتى حين تمضي بعد مشاهدتها، ولا تغادرك حتى تترك فيك أثراً. واللوحات ذات الأحجام الجدارية التي تقدمها الرسامة تغريد درغوث في معرضها الجديد الذي تقيمه في غاليري صالح بركات (كليمنصو حتى الـ19 من أكتوبر ’تشرين الأول‘) هي من هذا النوع، لفرط ما تفرضه على العين من قوة التأثير اللوني يضاف إليها ضخامة المشهدية ورحابتها.

لعل الرسامة اللبنانية اللبنانية تغريد درغوث الموصوفة بالتكتم تترك الأسئلة الشائكة التي طرحتها في أعمالها على زوارها عالقة بين أفخاخ عاطفية متعددة الأوجه والاحتمالات والتأويلات. ولعل هذا التوجه الذي أطلَق منذ نحو عقدين من الزمن موهبتها كفنانة متميزة في طروحاتها وأفكارها بين جيل المعاصرة على المستوى المحلي والعربي خصوصاً بعد إطلالاتها في المعارض الدولية.

تبدأ التورية الأدبية من عنوان المعرض "من ينظر إلى البحر: الإنسان والأرض"، الذي تنضوي تحت مظلته خمسة فصول هي سرديات منبثقة من معاناة الانتماء والاغتراب، مقرونة بقبس من كتابات الشعراء والفلاسفة والمفكرين. كتبت آمي تودمان في مقدمها عن المعرض التي حملت عنوان "حيث يوجد خطوط يوجد عظام"، تقول "في عمل تغريد تحدث هذه الرؤية الانتقائية على نطاق لوحاتها. تسأل ما الذي يسمح المرء لنفسه برؤيته في المناظر الطبيعية التي نسميها وطننا، وما الذي نتغاضى عنه ولم نعد نلاحظه ونتجنبه. إنها تدعونا إلى العودة لفحص الرؤية". ذلك لإثارة الانتباه إلى العوامل الباطنية المضللة التي ترقد خلف مشهديات درغوث، وما تخفي من هواجس وظنون.

فنانة بريشة تعبيرية قاسية وقوية مثيرة للجدل في طرحها لقضايا مصيرية تشير إلى صراع حاد وهي ترتدي معاطف لونية جميلة. إذ إن أكثر ما يطفح على سطح قماشاتها هي طبقات من الضربات اللونية العارمة الهوجاء والمتلاطمة. كلما اقتربت منها وجدتها تأخذك يمنة ويسرة في أكثر من اتجاه، لكأنها من نزق وترهات وعصب يد وارتجالات طالعة من نبض مندفع، وفيض لا يستكين ولا يهدأ حتى يصل المشهد إلى صوغه المحبوك من ضربات متقطعة، مع توزيع ذكي للنور بين الثنايا والمنعطفات والشواطىء العريضة للفحات الضوء، ويبدو أحياناً كأننا نمشي في طرقات حاييم سوتين الموحلة التي تفضي دروبها إلى بيوت معوجة غارقة في صمتها الليلي، وتدنو منا أيضاً أساليب كبار التعبيريين الألمان (مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية) وكذلك التعبيريين العرب المعاصرين، بما يشكل تحديات ورهانات في ميدان المنافسة بالنسبة إلى فنانة منتمية حكماً إلى هذه الحلقة المتداولة من الفنانين.  

"أنا السكين واللحم"

بكثير من الاحتواء للغنائية اللونية الصارخة نبراتها تنبري أشجار الأرز العتيدة فاتحة ذراعيها لمقتنيات الفصل الأول من فصول المشاهدة، على أنها الملمح الأقوى تأثيراً في خطاب الهوية المتجذرة في الوجدان والذاكرة الجماعية اللبنانية. ويأتي ذلك على وقع عبارة ملغزة تقول "كانت تنظر إلى المكان البعيد وكأنها تراني، وعرفت أنني هناك في المكان البعيد الذي رأتني فيه". مقتطف من ديوان الشاعر بسام حجار "ألبوم العائلة"، يتبعه العابر في مشهد ليلي لإدوارد هوبر. وفي مجموعة من اللوحات تتمثل أشجار الرز منفردة أو في منظور مفتوح على رؤية أفقية تجمع كل أشجار الغابة. وكل مرة بحلة لونية صارخة ومضيئة تستدعي الفنانة الحدس أكثر من الوصف في لعبة التداعي والتلاعب، وتتجرأ في الذهاب إلى الأبعد في بث الحركة والعواصف اللونية والتحطيم الخطوطي منعاً للتكرار، أو الوقوع في فخ الجماليات على حساب التعبير. فالضخامة التي تصنع الجمال حاضرة وكأنها على مضض، وشلوح الأرز تهتز تحت ضربات الريشة التي توقع حضورها بحرية وبلا قيود مع طغيان الأزرق والأخضر، ومراراً تحت وطأة الألوان النارية المندمجة مع ألوان الأرض.

أشجار وتلال خضراء وغيوم تواجه العواصف لكنها راسخة مثل رسوخ قلعة بعلبك الرمز الحضاري للبنان عبر الزمن التي تتجلى في رؤية بانورامية مضخمة، إذ تنبري بشيء من البطولية والعظمة متشحة بأخضر الحقول وألوان المغيب مع احتراق أشعة الشمس الحمراء على سواعد أعمدتها. وعلى غرارها صخور فقرا التذكارية وصخرة الروشة من مقترب "برج الحمام" الشهير كدرة الشاطئ في بحر بيروت وقبلة سياحها. مشاهد تتكرر في مقامات لونية متغايرة بعضها عن بعض يضاف إليها رمز من رموز لبنان القداسة في لوحة بورتريه سيدة حريصا، التي يومض بياض نورها مع رسم مقتبس من رسوم جبران خليل جبران أحد عباقرة الفلسفة والفكر في لبنان وحول العالم.

هكذا كشفت تغريد درغوث عن الوجه الجميل للبنان بآثاره وجمال طبيعته ومآثره الحضارية والثقافية، في فصل "الفيل والرجل الأعمى" بعد أن أضافت إلى هذه الرموز منظر إهراءات القمح كآبدة من الأوابد الراهنة بعد الانفجار الكارثي لمرفأ بيروت. وللغرابة فإن تمثال المغترب اللبناني لم يتأثر بهذا الانفجار بل ظل ماثلاً للعيان كرمز للرحيل والاغتراب الذي يبدو منتصراً على مسائل الانتماء والتجذر والإقامة وهو مستقبل البحر، مما أوحى بعنوان المعرض الذي يعكس بمضمونه عمق الأزمة الوجودية بالنسبة إلى الفنانة التي اضطرت بعد دمار محترفها في مارمخايل بسبب انفجار المرفأ للعيش والعمل في دبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حين تستشهد درغوث بقول بودلير "أنا السكين واللحم" ننظر ملياً إلى القماش الذي يتشرب اللون كما تشرب الأرض المطر والسماء في سكينة الليل ولسعات النار التي تدفئها، وإذا باللوحة تصير جسماً حياً كاللحم إزاء الحقائق الساطعة. وفجأة يخطر سؤال لماذا روح المجهول يبدل صمت الأشياء العميق ولماذا تصبح الطبيعة قلقة في تبدلها الدائم، وهذا التحول بالرغبة والحنين نابع بالضرورة من الاستذكار والحب وعدم القدرة على التكيف في ما يخص مسألة الانتماء المشروط بالرضوخ حتى الاختناق أو الرضا بالأمل المبني على الماضي وأمجاده في سبيل الاستمرار والعيش، ولو اقتضى الانغماس الشرب من ماء الوهم. وتستنتج درغوث في الفصل الخامس والأخير بأننا في الواقع نعيش في الحطام ويتمثل ذلك في الحائط التذكاري المكون من سلسلة مشاهد من سفن غريقة في عرض البحر، بما يذكر بقوارب الموت والهجرة غير الشرعية والسيارات المفخخة والطائرات المنفجرة وكلها أنواع مختلفة من كرنفالات الحطام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة